سياسة مجتمع

قوى الطوائف تحاصر موقع الرئاسة وتعطل تأليف الحكومة

زكي طه

 بيروت 27 كانون الثاني 2025 ـ بيروت الحرية   

إن سيل الدماء واعداد الشهداء والجرحى من مواطنين وعسكريين على ارض الجنوب في مواجهة رفض جيش الاحتلال الاسرائيلي الانسحاب، يؤكد أن من هو بحاجة للشهادة بالوطنية، ليس أكثرية اللبنانيين وفي طليعتهم أهالي القرى والبلدات الجنوبية، الذين كان دأبهم منذ أن وجدوا فيها، التضحية في سبيلها والدفاع عنها. بل هم أدعياء السيادة الذين يتلاعبون بمصير لبنان واهله على مذبح مشاريعهم الفئوية والسلطوية الطائفية والمذهبية. إنهم قادة احزاب السلطة وتياراتها الذين لم يغفروا  لقائد الجيش الذي اصبح رئيساً للجمهورية حياديته واستقلاليته عنهم. وهو الذي حمى المؤسسة العسكرية من سياساتهم وابقاها بعيدة عن صراعاتهم. وهم الذين ناهضوا بلا كلل القبول به مرشحاً للرئاسة. وأمعنوا طويلاً في البحث عن مرشحين يستجيبون لمشاريعهم السلطوية الخاصة بها. كما وأنهم لم يتقبلوا إضطرارهم  للتخلي عن من تبنوهم بقوة الضغوط الخارجية المعلنة والصريحة، وأجبروا على التصويت له  باعتباره  مرشحاً وحيداً. وما زاد الطين بلة بالنسبة لأكثرية تلك القوى، ما تضمنه خطاب القسم  من اتهامات لها، ومن تحميلها المسؤولية عن كل ما  آلت إليه أوضاع البلد من أزمات ومن خراب سياسي واقتصادي، مضافاً لذلك كله، كمٌ هائل من التهجير والدمار احدثته الحرب الاسرئيلية عليه.

لم يتأخر رد تلك القوى. فسارع كل منها لترشيح رئيس للحكومة يلبي طموحات سياساته الفئوية، ويضمن مصالحه ويحمي مواقعه. وغايتها محاصرة موقع الرئاسة عبر تشكيل حكومة تقيم توازناً مختلاً لمصلحتها. وكما طاشت سهامها في الاستحقاق الرئاسي، لم يكن نصيبها في الاستشارات النيابية الملزمة سوى الخيبة، وقد اسقط بيدها من حيث لا تدري. لأنها لم تتقبل نتائج ولم تدرك مفاعيل رهاناتها وموافقاتها على وضع قرار البلد في عهدة الخارج، الذي لن يسمح لها بتعطيل مخططاته لإعادة تشكيل السلطة، في ضوء تبدل موازين القوى في الداخل وعلى الصعيد الاقليمي.  لقد تاه عنها جميعاً، أن من قرر وقف اطلاق النار وصاغ بنود آلية تنفيذ القرار 1701، هو الذي جعل الاستحقاق الرئاسي أولوية، وفرض عليها التصويت له. ما يعني أنه لن يُسمح لها بالتلاعب بموقع الرئاسة، ولن يقايضها بحكومة يتحكم أي منهم برئيسها. ولذلك أدار مسار التكليف على النحو الذي يخالف رغباتها، لضمان المجىء برئيس حكومة أهم ميزاته كفاءته واستقلاليته عنها. وهذا الذي أكده بيان  قبول التكليف الذي بنى على ما ورد في خطاب القسم، واضاف إليه ما لا يسر الطبقة السياسية.

المحاصصة سلاح للتعطيل

لم يكن مفاجئاً أن تحاول أكثرية قوى السلطة تعطيل الدعم الخارجي للعهد وللرئيس المكلف. وأن تسعى لمحاصرة الأمل لدى أكثرية اللبنانيين، بإمكانية انقاذ بلدهم وإعادة بناء دولته. واقصر الطرق لذلك خوض معركة محاصصة الرئيسين على تأليف الحكومة. وعليه اسرعت قيادة القوات لتعميم ادعاءات وتبريرات مضللة لتسويق وصاية على العهد لا مكان لها. كما سارعت لإدعاء تبني ترشيح الرئيس المكلف، مدخلاً لمشاركته تشكيل الحكومة وضمان حصة وازنة لها. بالتوازي لم تخافها قيادة التيار الحر عبر تعميم انفتاح مفتعل على العهد، والاعلان عن فتح صفحة جديدة لحماية مكتسباته. في المقابل تعمّد الثنائي الشيعي وخاصة قيادة حزب الله، التهديد بتعطيل تأليف الحكومة بذريعة الميثاقية، مبرراً ذلك بالحديث عن انقلاب اطاح بمرشحه لرئاسة الحكومة، وبإسقاط التفاهمات الوهمية التي استخدمها لتبرير تصويته لرئيس الجمهورية.

لم تتشكل حكومة العهد كما كان مفترضاً قبل انتهاء مهلة الستين يوماً المحددة للهدنة المؤقتة، في السادس والعشرين من الشهر عينه. وعدم التأليف سببه معادلات المحاصصة الطائفية والفئوية التي طالما عطّلت مراراً الاستحقاقات الدستورية. وآخرها كان تعطيل تاليف حكومة منذ الانتخابات النيابية في أيار 2022، قبل تعطيل الاستحقاق الرئاسي، واستسهال حكم البلد بقوة الفراغ والفوضى السياسية، وادارة شؤونه وفق صيغة تصريف الاعمال.

وهي الصيغة ذاتها التي سهّلت تصعيد أزمات البلد، وعرضته لحرب عدوانية مدمرة قررتها اسرائيل ضده، بذريعة معركة مساندة غزّة، التي بدأها حزب الله استجابة لطلب ايران، وخلافاً لإرادة اكثرية اللبنانيين. وفي سياقها الآن تتجدد محاولات التلاعب باوضاع البلد. والاستخفاف بعدم تأليف الحكومة الذي يخدم اسرائيل، ويعزز ذرائعها لتأخير انسحاب جيشها. كما يسهل لها الاستمرار في تنفيذ عمليات التفجير والتدمير والتجريف في جميع القرى والبلدات التي يسيطر عليها  جنوبي الليطاني. مضافاً لها الغارات الجوية التي تستهدف العديد من المناطق اللبنانية، بالتوازي مع الخرق المستدام للاجواء اللبنانية. وما ينفذه العدو يستند إلى بعض بنود الاتفاق وللضمانات الاميركية، التي أُعطيت له، دون أن تلقى أي اعتراض من حكومة تصريف الاعمال أو من قيادة حزب الله ورئيس المجلس النيابي.

وفي سياق محاولات تعطيل تأليف الحكومة، ليس مفاجئاً أن يحتدم الصراع  بين اطراف السلطة حول صيغة الحكومة والحصص والوزارات التي يطالب بها هذا التيار أو ذاك الحزب،وأن تتحول وزارة المالية عقدة اساسية. لكن الأهم والأخطر في هذا الصراع، تجاهل تلك القوى هزيمة البلد، والاستهانة بالخراب والدمار الذي حل به. والاستخفاف بالشروط الاسرائيلية التي تضمنها اتفاق وقف اطلاق النار وآلية تنفيذ القرار 1701، التي وضعت البلد في عهدة النفوذ الاميركي الذي  استجاب سريعاً لطلب العدو بتمديد الهدنة المؤقتة، وتأخير انسحاب جيشه مدة ثلاثين يوماّ إضافية. ويضاف إلى ذلك التعامي عن الحصار السياسي والاقتصادي والمالي المستدام منذ سنوات. ومبرراته فساد الطبقة السياسية المتصارعة التي تتحمّل  مسؤولة الانهيار الاقتصادي والمالي تحت وطأة معارك المحاصصة وبقوة عمليات نهب مقدرات الدولة وأموال القروض والمساعدات الخارجية، عطفاً على اموال المودعين اللبنانيين وسواهم.

خطر تضييع الفرصة

من المؤكد أن قوى السلطة لن تسلم أوراقها بسهولة ويُسر. ولو أدى ذلك إلى اضاعة الفرصة المتاحة أمام البلد للخروج من دوامة أزماته. وهي لن تتخلى عن مكتسابتها ومشاريعها الفئوية وسياساتها وممارساتها، بالنظر لعدم وجود قوى داخلية بإمكانها الضغط عليها لإجبارها على تقديم التنازلات، وإعادة النظر بسياساتها وممارساتها. وهي تدرك جيداً أن أولويات الإدارة الاميركية التي يراهن عليها البعض، كانت وستبقى ضمان أمن اسرائيل وتنفيذ القرار 1701. وهي تتعامل مع لبنان على هذا الاساس، ووفق مصالحها التي لا مكان فيها لما يريده أكثرية اللبنانيين.

في المقابل وعلى أهمية مساعي الجهات الخارجية الدولية والعربية الحريصة على وجود لبنان واستقراره، التي يُكثر مسؤولوها من الوعود والتعهدات بالمساعدة والدعم المشروط، ومن المطالبة باقرار الاصلاحات التي تضع حداً لفساد الطبقة السياسية التي ترفض الوفاء بتعهداتها. لكن تلك الدول لن تتولى عن اللبنانيين مهام إعادة بناء الدولة، وليس بقدرتها تأليف حكومة لا تقبل بها قوى السلطة. وهي لن تستطيع إقرار اصلاحات لا يصارع اصحاب الحقوق من أجلها. عدا أنها غير معنية بتشكيل بدائل معارضة فاعلة باستطاعتها فرض سياسات مختلفة عن السائد، أو المنافسة الجدية لاستلام السلطة.

لا جدال في كفاءة واستقلالية ووطنية كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف، ولا شكوك حول أهمية ما ورد في خطاب القسم وبيان التكليف. وكلها شروط ضرورية لانقاذ لبنان وإعادة بناء دولته الوطنية، لكنها غير كافية على الاطلاق. خصوصا في ظل انعدام وجود المعارضة والبدائل السياسية الديمقراطية، التي لا تُبنى بقوة الشعارات والإكثار من البيانات والبرامج. ولا تتشكل أيضاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الشرط المفقود يكمن في الاستجابة للمبادرات الجادة،  طريقاً وحيداً لتجميع القوى وتنظيم الحوار، وتحشيد الإمكانات في ميادين القضايا وساحاتها وليس عبر وسائل الاعلام. وخلاف ذلك يبقى الخوف من ضياع الفرصة  المتاحة الآن لإنقاذ البلد من أزماته وتجاوز المخاطر المحدقة به.

Leave a Comment