جمال حلواني
لا يهدف هذا العرض إلى العودة إلى ما قبل الحرب الأهلية وما كان عليه كل من حزب الكتائب والوطنيين الاحرار وغيرهما من تشكيلات وزعامات مسيحية، وما كان لهما من أدوار خلال سنوات المحنة التي عصفت بالبلاد طوال عقد ونصف العقد من الاقتتال الاهلي، وانتهت بتوقيع اتفاق الطائف. رغم ذلك يمكن القول إن هاتين القوتين قد أصيبتا في الصميم إن لم يكن بفعل الحرب وما أدت إليه من خسائر بشرية ومادية فقط، بل في أعقابها ونتائجها خصوصاً في زمن الوصاية السورية. ولا يختلف عنهما ما اصاب الكتلة الوطنية من تراجع وزن ودور، وهي التي رفضت المشاركة في الحرب الاهلية ودفع زعيمها ريمون اده لمغادرة البلاد.
والمعروف أن كلا الحزبين الكتائب والاحرار، كانا عابرين للطوائف المسيحية ومنتشرين على امتداد البلد، قبل الانكفاء إلى الاشرفية وعين الرمانة وسواهما مما سمي المنطقة الشرقية، بعد أن أُطيح بوجودهما في الشوف والمتن وعاليه. حدث هذا بفعل المعارك وخطوط التماس وما تعبر عنه من تخندق طائفي. ثم فرضت السلطات السورية عليهما منوعات من السياسات قادت لإضعافهما. لكن الأهم من هذا وذاك ما عرفه الفصل الأخير من الحرب الأهلية الذي تمثل في تلك المنطقة، بتمرد الجنرال عون وتشكل تياره السياسي على مسرح الاحداث، في أعقاب تكليفه رئاسة الوزراء جراء تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية عام 1988، وفي امتداد قيادته وحدات من الجيش اللبناني المنقسم على نفسه، وشروعه في حرب الإلغاء ضد القوات اللبنانية كمنافس له على إمرة المناطق الشرقية. وهي حرب خرج منها الموارنة منقسمين ومهزومين نتيجة صراعات قواهم الذاتية. قبلها كانت القوات قد خرجت من تحت مظلة حزب الكتائب، وما عرفته من صراعات وانشقاقات، قبل أن تحسم قيادتها الحالية الامور وتمسك بزمام الوضع بعد معارك متعددة معروفة. إذن باتت الصورة متشكلة من كل من الكتائب كحزب تاريخي له جذوره والقوات كوريث متجدد بعد اغتيال بشير الجميل والتيار الوطني الحر بعد أن ذوى حزب الاحرار بعد اغتيال قائده. لينتهي الامر بعد اتفاق الطائف، وعلى وقع التفكك والهزيمة التي حلت بالساحة المسيحية، إلى نفي عون خارج لبنان، ووضع قائد القوات في السجن، في موازاة الصراع المفتوح على قيادة حزب الكتائب بعد وفاة المؤسس، وتجدد الحرب الاهلية على نحو مدوي مع وصول الرئيس أمين الجميل إلى سُدة الرئاسة.
المكوّن المسيحي المتنوّع الذي نتحدث عنه في العاصمة، يتشكل من موارنة، ارثوذكس، كاثوليك، واقليات، وهذه لم تفقد إلى حد ما أحزابها الطائفية والسياسية تمثيلها ضمن القوى الرئيسية الثلاثة: القوات والكتائب والتيار العوني، اضافة إلى الحالة الخاصة التي تربط النائب نديم الجميل مع قاعدته الانتخابية في الاشرفية. وخصوصاً مع تأسيسه جمعية خاصة به تحمل اسم “أشرفية 2020” على هامش حزب الكتائب لتعزيز قاعدته الانتخابية، اضافة إلى مؤسسة بشيرالجميل الاجتماعية التي تكرس موقعاً ودوراً تمثيلياً فاعلاً لها في منطقة الاشرفية، المدور، الرميل. كما نجح في نسج علاقات وطيدة مع عائلات وسكان ومخاتير الاشرفية وجملة مكونات دائرته الانتخابية، مستفيداً من العلاقة مع الراحل مسعود الاشقر احد الرموز القيادية السابقة للقوات اللبنانية والأقرب إلى بشير الجميل في تلك المرحلة. وهو الذي يحظى بتقدير الاهالي نظراً للدور المادي والمعنوي الذي لعبه في حماية وتحصين المنطقة خلال فترة الحرب الاهلية، في امتداد دور حزب الكتائب فيها، مع خصوصية ورمزية موقع بشير الجميل بالذات، باعتبارهما يعكسان الحالة السياسية لأهالي الاشرفية، والتي شكل مسعود الاشقر أحد رموزها الذين ساهموا في تعزيز موقع ودور النائب نديم الجميل، الذي يكاد يكون اقرب الى زعامة لها خصوصيتها المناطقية منه الى قيادي ملتزم بحزب الكتائب ومقررات مكتبه السياسي وهيئاته القيادية.
وعلى خط مواز فإن حرب التحرير التي شنها ميشال عون ضد الجيش السوري لاخراجه من بيروت الغربية والمناطق المحيطة بها من ناحية (حرب التحرير)، قد عززت من وجوده شعبياً. الأمر الذي زين له خوض (حرب الالغاء) ضد القوات اللبنانية، في محاولة منه لشطبها من المعادلة، بهدف توحيد السلطة بيده لتصبح الإمرة معقودة اللواء له. وعدا عبثية الحربين التدميرية، فقد ساهمتا في اضعاف سائر الاطراف المسيحية، مما كان له نتائج سلبية تمثل بتراجع الموقع المسيحي وخاصة المارونية السياسية في تسوية الطائف. الذي لم ينقذه التعاطف الشعبي مع الحالة العونية التي استفادت من ممارسات سلطة الوصاية السورية في بيروت والتلاعب بالتمثيل السياسي المسيحي. إلا أن إغتيال الرئيس الحريري، كان مناسبة لعودة ميشال عون إلى لبنان ليشكل ما يشبه “تسونامي” سياسي سمح له تبوء مركز الصدارة في الوسط المسيحي، والفوز بالحصة الاكبر من مواقع تمثيله النيابي، عبر المعارك الانتخابية التي تلت عودته والتي عكست تطور وزنه السياسي وقاعدته الشعبية في ما يشبه رد فعل على تراجع فعل ووزن الاطراف الاخرى.
لكن طموحه الرئاسي وتوقيعه اتفاق مار مخايل ووصوله إلى الحكم بعد تعطيل الانتخابات عامين ونصف العام وضعه على رأس جبل خط الزلازل وما يرافقها من انهيارات. إذ للمرة الاولى في تاريخ البلاد يصل رئيس للجمهورية بفعل علاقته بحزب الله أولاً وسوريا ثانياً وايران ثالثاً. وهو ما لا يمكن أن يقبله أو يستسيغه هذا الشارع. من هذا المنطلق يمكن فهم التحول الذي شهدته هذه الساحة على صعيد التمثيل النيابي في العاصمة والجبل خصوصاً. لكن الأهم من “الاعتراف بالجميل” الذي أسداه له أطراف المعادلة، هو البناء الداخلي الذي اعتمده عندما أحال تياره إلى صهره المهندس جبران باسيل. غير أن هذه الوراثة شكلت نقطة الضعف الرئيسية في مشروع تياره وحالت دون ثباته قوة سياسية وازنة. صحيح أن التيار عرف خروج قياديين عن صفوفه. لكن وصوله إلى رئاسة الجمهورية وتقدم المقربون والمستجدون في التيار من بطانة الصهر واختيار الوزراء والنواب كان أمراً مقبولاً خلال فترة الرئاسة، إلا أن نتائجه كانت كارثية على الرئاسة والتيار. الذي انتقل إلى خوض معركة الدفاع عن مواقعه ومكتسباته وحماية صفوفه من التفكك خاصة مع نهاية العهد الرئاسي وفي اعقاب سقوط تحالف مار مخايل وتعذر الاستمرار في مكافأة الموالين لقيادة رئيسه والمتحلقين حوله. من هنا يمكن فهم استبسال رئيس التيار في خوض معركة رئاسة الجمهورية ومحاولة الحصول على أكبر قدر من المكاسب التي تضمن له استمرار الامساك بكتلة من “المريدين” الذين خبرهم في السنوات السابقة رغم النتائج الكارثية التي ترتبت على مشاريعهم العامة.
والواقع أن الساحة المسيحية تشهد ما يشبه الحرب الضروس الطاحنة. فالتيار الحر يحاول الحفاظ على مكتسباته وفق إدعاء أنه الرقم الصعب في الحياة السياسية، حتى ولو قاد الأمر إلى زوال الجمهورية بدليل ما تشهده معركة انتخاب الرئيس منذ خمسة أشهر إلى الآن. فيما القوات اللبنانية وحزب الكتائب يصارعان التيار في ساحة نفوذه. علماً أن رئيس الحزب عمل على الانفتاح على تيار الشباب داخله، على حساب الرموز القديمة، وحاول تقديم خطاباً معتدلاً ومقبولاً نسبياً من ضفاف البلد المتعددة، لكنه في المقابل اصطدم بجدران سميكة اساسها طابع وطبيعة تمثيله السياسي ـ الطائفي معطوفاً على ندوب الحرب الاهلية داخله وخارجه أيضاً.
اما الوزير السابق ميشال فرعون الكاثوليكى الذي يشكل امتداداً سياسياً موروثاً لعائلة فرعون حين كان والده بيار فرعون احد وجهاء الروم الكاثوليك وكذلك جدة ميشال ايضا فهو سليل عائلة لها تاريخ طويل. وقد استفاد من الدور السياسي الذي لعبه عمه هنري فرعون، ليستمر حالة سياسية منفردة في الاشرفية، وعمل على تكريس تمثيل الطائفة بالتحالف مع رفيق الحريري، ما عزَّز حضوره السياسي على نحو لافت، ليعود ويتراجع لاحقاً مع ضمور الحريرية السياسية ويخسر موقعه النيابي لمصلحة الاطراف الحزبية.
وتبقى حالة الناشط زياد عبس احد المكونات المسيحية الذي حاز وجوداً وامتداداً شعبياً، ورغم أنه اطل من رحم الحالة العونية سابقاً، الا أنه رسّخ موقعاً شعبياً محدوداً له في مواجهة الاحزاب المسيحية في معاقلها بالعلاقة مع بعض مسيحيي بيروت الغربية، وخاصة أنه من مواليد بيروت المزرعة. واما مسيحيو المزرعة والمصيطبة والبطركية وراس بيروت فقد تراجع حضورهم السياسي، بعد أن كانوا يمثلون حالة شعبية وحضوراً سياسياً مثل آل المجدلاني ونجم وبرمانة وربيز، رغم التحاق الأول منهم بالحريرية السياسية.
ومؤخراً شهدت ساحة الاشرفية المسيحية ظهور حالة اصولية ناشطة تحت مسمّى “جنود الرب”، برعاية وتمويل من رجل الاعمال (انطون الصحناوي). وهي تشكيل طائفي متطرف تحت راية “الخصوصية” المارونية، يحشد عناصر ميليشياوية متحدرة من مرحلة الحرب الاهليه من القوات اللبنانيه، والتنظيم (جورج عدوان) والشبيبة اللبنانية (الباش مارون)، وحراس الارز (اتيان صقر أبو أرز) ونمور الاحرار (دانى شمعون). وهو قابل للتوسع في مناخ تقوقع الطوائف على ذاتها وتقديم “مظلوميتها” وخطابها الفئوي. وقد تخطى حضور هذا التشكيل الزخم المسيحي الذي تحرك في انتفاضة 17 تشرين، ونجح في اختراق عدد من المجموعات وساهم في ارباك الاخرى. وقد جرى التسويق له عبر نشر تسجيلات على وسائل التواصل، باعتباره ناطقاً بما يدعيه “نبض” وعصب الأشرفية وأهلها في مواجهة الآخر.
أما النائب بولا يعقوبيان فقد استطاعت اثبات حضور سياسي لها تخطى الدائرة الاولى، واصبحت تمثل حالة نيابية على الصعيد المسيحي والعام متميز بين نواب التغيير من حيث التنظيم والمبادرة، لأن كفاءتها وخبرتها الاعلامية مكنتها من تسويق حضورها وعلاقتها مع قاعدتها الانتخابية.
وفيما يتعلق بالمكوّن الارمني فإنه من الطبيعي أن يكون محصوراً بالاحزاب الارمنية الثلاثة الطاشناق والهنشاق والرامغافار. وقد واظب الجمهورالارمني على الابتعاد عن كل اشكال التحركات والاعتصامات ذات الطبعة الطائفية التي شهدتها بيروت منذ العام 2015. وكان آخرها عدم الانخراط في اجواء انتفاضة تشرين 2019، ولم تترك هذه الانتفاضة اي تأثير على موقف الجمهور الارمني، رغم أن القسم الأعظم منه ككتلة اجتماعية تعرض لخسائر فادحة خلال الانهيار المالي – النقدي الراهن باعتباره في الأغلب يتكون من الحرفيين والتجار والموظفين وصغار الكسبة.
واقع الاقلية الكردية
وما دمنا نتحدث عن الاقليات نتوقف عند وجود الاقلية الكردية كفئة اجتماعية لبنانية، لا تزال تعاني غبناً في ما خص حقوقها. حيث يتم التعامل معها في السياسة كملحق بالمكون الطائفي السني خاصة في مواسم الانتخابات، باعتبارهم مجرد أرقام واصوات إضافية. وخاصة من قبل تيار المستقبل الذي تعامل معهم مجرد هوامش اجتماعية. دون الالتفات الى حقوقهم الخاصة كأقلية قومية، تشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة، ولديها ومنذ عشرات السنين الجنسية اللبنانية.
وبما أن التنظيمات السياسية الكردية لم تفلح في اقامة علاقة متوازنة مع تيار المستقبل، أو الاجسام السياسية البيروتية، فقد اتسم دورها وموقعها بالتبعية السياسية لهؤلاء الذي لم يراعوا المطالب الكردية التي تم تجاهلها وادارة الظهر لها. ما أبقاهم اقلية مغبونة من حيث الحقوق، خلافاً لمن يشابههم من الاقليات الاخرى، وكما هو الحال بالنسبة للارمن والسريان والانجيليين لناحية الحقوق السياسية والثقافية التي يحصلون عليها بوصفهم أبناء أقليات ذات تمثيل نيابي وفي وظائف الفئات العليا.
نحن اذن امام نسيج متنوع في مدينة بيروت يختلف كثيراً عن باقي المدن، باعتبارها العاصمة التي تجمع العدد الاكبر من اللبنانيين، يتشكل من ابناء المدينة والوافدين اليها على امتداد عقود طويلة ولاسباب متنوعة دون أن يصبح معظمهم من أبنائها لأنهم ما زالوا يتبعون انتخابياً سواء في الاستحقاقات البلدية والاختيارية والنيابية لبلداتهم الاصلية في جميع المناطق التي وفدوا منها وفقاً لسجلات نفوسهم. رغم إقامتهم في المدينة حيث حياتهم ونشاطهم وعملهم في قطاعاتها ومرافقها ومؤسساتها، بحكم كونها المعطى السكاني الأهم ومركز الحركة الاقتصادية والتجارية والمرافق الكبرى، خاصة المرفاً والمطار وسائر مقار مؤسسات وادارات الدولة واجهزتها والجامعات والمستشفيات والمصارف و..، ما يجعلها مركز الحركة السياسية، حيث تتواجد على مساحتها وساحاتها أكثرية التيارات والقوى السياسية والاجتماعية والمكونات الشعبية… يتبع حلقة ثالثة وأخيرة.
Leave a Comment