سعيد طانيوس
موسكو ـ 4 تموز 2023
أزفت اليوم ساعة رحيل الحبيب الصادق عن دنيانا، بعدما ملأها فرحا وأدبا وشعرا وكبرياء بغير مهانة، و بعد عمر حافل بإنجازات طافت في الأرض وارتقت إلى علا سمانا، وبوفاته فقد الوطن والأمة العربية والعالم أجمع قائدا وعالما وسياسيا وفنانا.
قائد مسقط رأسه ومجده وسؤدده من جبل عامل، تنوعت قدراته ومواهبه، كاتباً، ومحاضراً، وموجهاً، ومرشداً ناصحاً بالحق، جمع بين الفكر والدين والسياسة والثقافة والفن، ومختلف المعارف والعلوم قديمها وحديثها، عرفته بها مختلف المنابر وقاعات المحاضرات.
كان الحبيب الصادق إماما شيوعيا مبدعاً ومتميزاً وخطيبا تهابه المنابر، وفوق ذلك كان قائداً سياسياً، وإماماً ملهماً يرى المقبل من الأحداث بعيون زرقاء اليمامة، ويتعامل معها بذكاء إياس وحكمة لقمان.
اعتدت نعي رفاق وأصدقاء أو قادة أعزاء ممن أحببتهم وأحبوني، بمجرد وفاتهم، ولكن جاءت وفاة الحبيب الحبيب الصادق، استثنائية، فمع يقيني، أن الموت سبيل الأولين والآخرين، فقد أصابني شيء من الوجوم تعطل معه تفكيري، وعجز قلمي عن التعبير، لأكثر من ساعات طوال، ولسان حالي يردد قول الشاعر :
أيتها النفس أجملي جزعاً إن الذي تحذرين منه قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والنجدة والحزم والنَدى جمعا
الألمعيَ الذي يظنَ بك الظَن كأن قد رأى وقد سمعا
تعددت أنشطة الحبيب الصادق ومهامه ومسؤولياته عبر حياته العامرة بالعمل والكفاح، عرف خلالها بقدرته العالية على الابتكار، والرؤية الثاقبة للأمور من منظور أشمل.
كان متابعاً لكل صغيرة وكبيرة في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، مرحباً بكل زائر، ومستمعاً جيداً لكل من يجالسه، ومواكباً للحياة، مع سرعة إيقاعها. يتميز بقوة الذاكرة، واطلاعه الواسع، ومقدرة على الحفظ، وطلاقة لغوية، وقدرة على إنتاج كثير من الأفكار الجديدة التي تبدو لبعض الناس متنافرة، إلا أنه يقوم بما له من مقدرات بجمعها بما يتطلب ذلك من الاستدلال والتوثيق العلمي؛ ليخرج بنتائج لم يسبقه إليها أحد، وهذا ما جعله في مصاف المفكرين المجددين في العصر الحديث.
وكان الحبيب الصادق مسكوناً بحب الوطن، ويرى خدمة الوطن في خدمة كادحيه وفقرائه والمهمشين فيه، وهو ما عبر عنه في ترشحه الدائم ليكون نائبا عن الشعب وللشعب.
وفي الشأن الوطني، ظل الحبيب الصادق يقدم مصلحة الوطن، وجمع الصف الوطني فوق كل مصلحة خاصة أو حزبية، وكانت رؤيته ووصيته دوماً أن المناضلين يصنعون من الأزمة فرصة، على عكس التفكير الحزبي الضيق الذي يضع الوطن على كف عفريت.
وفي سبيل الوطن، كان الأعلى تضحية على حساب صحته وأسرته، إذ استقال من كتلة “التنمية والتحرير” عندما رأى أن نبيه برّي يستخدمها لمصالحه الخاصة، وهو قضى سنوات من عمره في مكافحة الطغاة، وأعواما في المنافي، إضافة الى ما طاله من مصادرات ومحاكمات ومضابقات حكومية، ورغم كل ذلك لم يغير مبادئه، ولم يخنع للطغاة في سبيل الحق والوطن، وهي اجتهادات ومجاهدات نضالية لم يسبقه إليها سياسي من أبناء جيله والأجيال اللاحقة.
ورغم ما ظل يواجه من عسف وظلام من الطغاة والطائفيين، ومن خصومه من بعض من عشيرته والمقربين إليه أحياناً، ظل حليماً متسامحاً فاتحاً بابه، ومواصلاً لهم جميعاً، حريصاً على عدم ظلم الآخر.
وقد عبر عن ذلك في قوله: لم أظلم أحدا،ً وكل الذين اختلفوا معي ظلموني ولم أظلمهم، ودائماً أفكر في ماذا يكون موقفي إذا جلسنا لمحاكمة في دنيا أو آخرة ؟ وأحرص أن يكون موقفي في أي محاكمة عادلاً. نعم ارتكبت أخطاء، لكنها كلها في ظلم نفسي، لا في ظلم الناس، وأكثر الذين اعتدوا علي اتصلوا في مراحل لاحقة يعتذرون عن سلوكهم.
إن نفساً لم يشرق الحب فيها هي نفس لا تدري ما معناها
كانت استقبالاته سواء في بيته أو في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، شاهداً على ما كتب، إذ كانت تدفق الحشود والشخصيات من كل حدب وصوب وهو بستقبلها بابتساماته المعتادة، ولم يفرّق يوما بين من يشاركوه الفكر أو الدين والسياسة أو الجنس أو اللون أو الموقف الشخصي، وبين من يناهضونه ويناصبونه العداء.
الحبيب الصادق، لم يكن صديقا او رفيقا فقط، بل كان الأخ والحبيب، والشقيق ورفيق الدرب والأنيس لكل من جالسه أو عرفه.
احببناك أيها الصديق الصادق، كما أحببتنا وأكثر٠٠٠ ناديت علينا بعلو صوتك يوم حاول نبيه برّي أن يحطّ من علو شأنك، لكننا لم نستطع أن نفعل لك شيئا.
سلاما لروحك الطاهرة ٠٠ وسلاما لمن ينتظرك٠٠ وسلاما يوم تبعث من كتبك ويراعك الذي لا يفنى.
أيها الطيب رحل جسدك ولكن روحك الطاهرة باقية معنا وبيننا ترفرف في سماؤنا٠٠٠ فسلام الرفاق، كل الرفاق عليك أيها الحبيب والأخ والصديق ٠٠٠
أرثيك وكل محبيك واصدقائك رثوك ٠٠ وإمتلأت صفحات الورى بصورك الجميلة التي تحمل إسمك ونعوتك.
ما دار في خلدنا أيها الحبيب إنك ستترك الدنيا وتفارقنا للأبد ٠٠ أعلم أن الموت قدر كل الناس، وأن ساعة الأجل إذا حانت لا تقدم ولا تؤخر٠٠ ولكني لم أكن أعلم أن موتك سيوجع الرفاق آجمعين ويدمي القلوب… لم أكن أعلم أن فقدانك أليما وصعبا لهذه الدرجة٠٠ فقد أوجعت أرواحنا يا رفيق.
سلاما على عينيك النائمة طويلا ٠٠ سلام على روحك الطيبة الطاهرة ٠٠ سلام على قلبك النقي الصافي ٠٠ سلام على ابتسامتك الرائعة٠٠ سلام على أخلاقك الرفيعة ونفسك الراضية ٠٠ سلام عليك يا من سيشتاق إليه المناضلون الشرفاء في مشارق الوطن ومغاربه.
قصيدة “أرض الجنوب” التي كتبها الأستاذ حبيب صادق، وغناها مارسيل خليفة:
شّدي عليك الجرح وانتصبي *** عبر الدجى رمحاً من اللهب
يا ساحة الأنواء كم عصفت *** فيها خيول الهول والرعب
فالأرض فيها وجه مذبحةٍ *** والجو أمطارٌ من الشهب
لم يبق غصنٌ غير منتهب *** لم يبق وجهٌ غير مستلب
أهلك لا سورٌ من الكذب *** أهلك لا قناصة الرتبِ
صدوا الرياح السود يحفزهم *** جرح التراب وأنةُ العشب
شغيلةٌ من أرض عاملةٍ *** أكرم بهم من عاطر النسب
من صخرها قدّوا أعنتهم *** واسترشدوا بالكوكب الذهبي
لم يغرهم تاجٌ ومملكةٌ *** لم يثنهم صعبٌ عن الطلب
ما همّهم الا الربى سلمت *** اياتها من رجس مغتصب
أرض الهوى العذري ما ارتحلت *** الا اليها رعشة الهدب
والاغنيات الخضر ما نزلت **** الا على ينبوعها العذب
لم يستفق ذو جانحٍ طربٍ *** الا بفيئ نهارها الطرب
أفديك بالايام لم تشب *** أفديك بالاقمار لم تغب
أفدي صباك الّشهم مقتحماً *** ليل الردى بالساعد الثرب
ورغم اختلاف منطلقاته، إلا أن الأستاذ حبيب صادق يُرجع الثورات في عالمنا لأصلها الكربلائي، ولا يراها إلا ترديدا لصدى سيد الشهداء، فها هو يقول في رثاء مناضلة عربية عام 1956 :
يا سيّد الشهداء كلّ شهادة
في أرضنا رجعٌ لتلك مردّدُ
أقدمتَ والنقعُ المدمّى أبحرٌ
ترغي بأنياب الوحوش وتُزبدُ
يا سيّد الشهداء صوتك لم يزل
يدوي بسمع الثائرين ويرعدُ
مؤلفاته:
في الشعر والأدب والسياسة
في زمن القهر والغضب – شعر – دار العودة – 1973
جنوبا ترحل الكلمات – شعر – دار العالم الجديد – 1980
مطلع النور- تمثيليات قصيرة – دار الكتاب اللبناني – 1982
فصول لم تتم – دار الآداب – 1969
شهادات على حاشية الجنوب – دار الفارابي – 1981
كلمات للوطن والحرية – دار الفارابي – 1986
قضايا ومواقف – دار الفارابي – 1990
وجوه مضيئة في الفكر والأدب والسياسة والإجتماع- جزءان – دار الأقلام – الجزء الأول 1998 والجزء الثاني 2004
صراع المصالح والإرادات في معركة الإنتخابات النيابية 2005 – دار الأقلام – 2005
في وادي الوطن – مقاربات في شؤون وشجونه – دار الفارابي – 2010.
Leave a Comment