ثقافة

في ذكرى اغتيال روزا لوكسمبورغ (15 كانون الثاني يناير 1919):  لا اشتراكية من دون حرية وديمقراطية

“الدواء الذي ابتكره لينين وتروتسكي، الذي يتمثّل في القضاء على الديمقراطية عموماً، هو أسوأ من الداء الذي ينبغي الشفاء منه.”

في سجنها، في خريف 1918، أي قبل اغتيالها ورمي جثتها في النهر بحوالي ثلاثة أشهر، كتبت القائدة والمفكرة الاشتراكية الثورية روزا لوكسمبورغ “الثورة الروسيَة”، أحد أعمق نصوصها وأكثرها استشرافاً، منتقدة لينين وتروتسكي، والاشتراكية السلطوية الديكتاتورية عامة، ومستشرفة ببصيرة مدهشة المصير المعتم الذي ستؤول إلية ديكتاتورية القيادة البلشفية على البروليتاريا.

أدناه مقتطفات نقلها مروان ابي سمرا إلى العربية

من الترجمتين الفرنسية والإنجليزية

“يعيب تروتسكي على المؤسسات المنتخبة الديمقراطية  “ثقل آليتها”… لكن التجارب التاريخية تبرهن أن “الآلية الثقيلة للمؤسسات الديمقراطية” تجد تصحيحا قويا لها بالتحديد في الحركة الحيّة للجماهير، في ضغطها المستمر. وبقدر ما تكون المؤسسة ديمقراطية وبقدر ما يكون نبض الحياة السياسية للجماهير حيوياً وقوياً، يكون الضغط الذي يمارس عليها أكثر مباشرة ودقة. (…) لا شك في أن لكل مؤسسة ديمقراطية حدودها ونقائصها، مثلها في ذلك مثل جميع المؤسسات الإنسانية الأخرى، لكن الدواء الذي ابتكره لينين وتروتسكي، أي القضاء على الديمقراطية عموما، هو أسوأ من الداء الذي يراد الشفاء منه، فهو يسد المنبع الحي الوحيد الذي يمكن أن تتدفق منه التصحيحات الضرورية لجميع ضروب التقصير الملازمة للمؤسسات الاجتماعية، ونعني بهذا النبع الحياة السياسية الفاعلة والحرة والحيوية لأوسع الجماهير الشعبية.

(…) ولم يقتصر الأمر على المؤسسات التمثيلية وحق الانتخاب، فبالإضافة لذلك، ألغيت أهم الضمانات الديمقراطية للحياة العامة الصحية ولأنشطة الجماهير العاملة، أي حرية الصحافة وحرية الاجتماع وتكوين الجمعيات. (…) فمن الحقائق التي لا جدال فيها أنه من دون حرية غير مقيدة الصحافة، ومن دون حياة للجمعيات والاجتماعات خالية من العقبات، يستحيل تصور هيمنة للجماهير الشعبية الواسعة.

إن الحرية التي تكون لأنصار الحكومة وحدهم،  فقط لأعضاء حزب واحد – مهما كان عددهم كبيرا – ليست  حرية على الإطلاق. فالحرية  هي دوماً وتحديداً حرية الشخص الذي يفكر على نحو مختلف. وذلك ليس بسبب أيّ مفهوم  متعصب عن “العدالة” بل لأن كل ما هو تنويري ومفيد ومطهّر في الحرية السياسية يتوقف على ذلك (حرية المغاير)، ولأن الحرية تفقد تأثيرها عندما تتحول إلى امتياز خاص.

تقوم نظرية لينين – تروتسكي عن الديكتاتورية  على افتراض ضمني مفاده أن التحول الاشتراكي هو شيء تتوفر وصفة جاهزة له في جيب الحزب الثوري، وهو يحتاج فقط إلى وضعها بنشاط موضع التنفيذ في الممارسة. لكن لسوء الحظ، أو بالأحرى لحسن الحظ، ليس الأمر على هذا النحو. إن الإنجاز الواقعي للاشتراكية كنظام اقتصادي واجتماعي وقانوني هو أبعد ما يكون عن مجموعة من الوصفات الجاهزة التي تحتاج فقط إلى التطبيق، وهو أمر يبقى مخبأً تماماً في ضباب المستقبل. وما نمتلكه في برنامجنا ليس إلا بضع علامات أساسية تحدد الاتجاه العام الذي نبحث فيه عن التدابير الضرورية، وهذه  العلامات تبقى سلبية أساسا في طبيعتها. لذلك فإن ما نعرفه تقريبا هو ما  يجب علينا استبعاده في البداية من أجل فتح الطريق للاقتصاد الاشتراكي. (…)

إن النسق الاشتراكي للمجتمع يجب و يمكنه فقط أن  يكون منتجاً تاريخياً  ينشأ في مدرسة تجاربه الخاصة، في سياق تحققه كنتيجة لتطورات التاريخ الحي. (…) إذا فمن الواضح أن الاشتراكية بحسب طبيعتها الحقيقية لا يمكن فرضها أو إدخالها بمرسوم قيصري. (…) وحدها التجربة هي القادرة على تصحيح و فتح الطرق الجديدة. ووحدها الحياة  التي تختمر من دون قيود يمكنها أن تزهر في آلاف الأشكال والمبادرات الجديدة، وتستطيع أن تخرج إلى النور قوة خلاقة جديدة تصحح بنفسها كل المحاولات الخاطئة. أما الحياة العامة في البلدان ذات الحرية المحدودة فتصاب إصابة بالغة بالفقر والبؤس والجمود والعقم، وذلك لأنها باستبعادها الديمقراطية تنقطع عن المصادر الحية لكل غنىً روحي ولكل تقدم. ومثلما ينطبق هذا الأمر على الحياة السياسية، فإنه ينطبق أيضاً على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. يجب إذاً أن يشارك في الحياة العامة مجموع الكتلة الشعببية، وإلا تحوّلت الاشتراكية إلى قرارات يفرضها من وراء المكاتب الرسمية حفنة من المثقفين.

إن الرقابة الشعبية العمومية ضرورية  ولاغنى عنها وإلا يبقى تبادل الخبرات محصوراً في دائرة مغلقة من موظفي النظام الجديد فحسب، ويصبح الفساد حتميا. وتتطلب ممارسة الاشتراكية تحولاً ثقافياً كاملاً للجماهير التي تعرضت للانحطاط بسبب قرون من الحكم البرجوازي. (…) لا يوجد أحد يعرف هذا على نحو أفضل ويصفه على نحو أكثر نفاذا  ويكرره بعناد أكثر من لينين. لكن لينين مخطئ تماما بالوسيلة التي يستخدمها. فالمراسيم والقوة الديكتاتورية لمراقبي المصانع، والعقوبات شديدة القسوة، والحكم بواسطة الإرهاب– هذه الوسائل كلها ليست إلا مسكنات. ذلك أن الطريقة الوحيدة التي تقود إلى النهضة هي مدرسة الحياة العامة نفسها، والديمقراطية الواسعة وغير المقيدة، والرأي العام الحر. وهذا كله على النقيض من الحكم بواسطة الإرهاب الذي يفسد المعنويات.

عندما يتم التخلص من كل هذا، ما الذي يبقى بالفعل؟ بدلاً من الهيئات التمثيلية التي تتشكل بواسطة انتخابات عامة شعبية، اعتبر لينين وتروتسكي السوفييتات على أنها الممثل الحقيقي الوحيد للجماهير الشعبية. ولكن، مع خنق الحياة السياسية في البلاد ككل، كان من  المحتم أن تصاب الحياة السياسية في السوفييتات نفسها بالشلل. ففي غياب انتخابات عامة، ومن دون حرية غير مقيدة للصحافة والتجمع، ومن دون صراع حر في الرأي، تتلاشى الحياة في جميع المؤسسات العامة، وتصبح مجرد حياة ظاهرية أوشكليّة، وتبقى البيروقراطية هي العنصر النشط الوحيد. إنه قانون لا مهرب منه لأحد.  تدخل الحياة شيئاً فشيئاً في سبات عميق. بضع عشرات من قادة الحزب  الذين يمتلكون طاقة لا تنضب  ومثالية بلا حدود يقودون ويحكمون؛ والواقع أن القيادة الغعلية يمسك بزمامها، من هؤلاء، بضعة قليلة من القيادات البارزة. ومن وقت لآخر يتم استدعاء نخبة من الطبقة العاملة للاجتماعات من أجل التصفيق لخطب القادة، والموافقة بالإجماع  على القرارات المقترحة. إنها في المحصلة حكومة زمرة؛ إنها ديكتاتورية من دون شك، لكنها بالتأكيد ليست دكتاتورية البروليتاريا، وإنما ديكتاتورية حفنة من السياسيين فحسب. هي ديكتاتورية بالمعنى البرجوازي، بمعنى حكم اليعاقبة (تأجيل إرجاء مؤتمر السوفييتات من ثلاثة إلى ستة أشهر!). نعم، بل يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك: إن ظروفاَ كهذه الظروف ستؤدي بالضرورة إلى توحش الحياة العامة: محاولات اغتيال، إعدام رهائن ، الخ..

الترجمة الفرنسية ل “الثورة الروسية”:

https://cras31.info/IMG/pdf/luxemburg-la-rc3a9volution-russe-1946.pdf

Leave a Comment