سياسة مجتمع

في العام الجديد ليس في صدورنا سوى الأمل

زهير هواري

 بيروت 31 كانون الاول 2024 ـ بيروت الحرية

ويبقى الأمل في صدورنا تلهج به ألسنتنا التي تلعق دماءنا

رحل العام 2024 وأطل العام 2025 … ويظل الأمل وحده تضج به صدورنا. حمل الراحل معه كل ما ألقاه على أكتافنا من عذابات ومصائب وتركنا نمضغ دم الصبر. ألوف من الشباب فقدوا حياتهم في حومة الصراع مع عدو متفوق علميا وتقنيا، وفي صفه أعتى قوى رأسمالية عالمية أميركية وأوروبية، تمده بما تحتاجه من أموال ومقدرات وذخائر لا تنضب من مصانعها وترسانة مستودعاتها. ذوو العاهات والحاجات الخاصة بعشرات الألوف من الجرحى والمصابين أيضاً، يحتاجون للاطراف الاصطناعية العليا والسفلى والعيون الزجاجية وغيرها من أعضاء أطاحت بها انفجارات أجهزة البيجرز، ناهيك عن ألوف أطنان القذائف والصواريخ والرصاص. مئات ألوف المنازل والبيوت المدمرة والمتضررة في معظم المحافظات، وعائلات مشردة وشبه عارية في شتاء أصم عن سماع أسنان الأطفال وكبار السن تصطك من البرد والصقيع. أفواه تفتقد إلى الخبز والطعام وأجساد تحتاج إلى فاكهة الدفء وزيارة الطبيب وحبة الدواء ولمسة الممرضات. وحوالي 200 ألف مواطن فقدوا وظائفهم وأشغالهم لا يدرون كيف يتدبرون معاش أسرهم، وأكثر منهم من فقد مورد رزقه، ولم يتبقى له، حتى  شجرة زيتون أو شتلة تبغ وحبة برتقال أو بقرة حلوب.

هذا في بلادنا، لكن الجراح لا تقتصر على أجسامنا المنهكة في هذا الوطن الذي يعجز أو لا يريد سياسيوه العمل على بذل الجهد لإخراجه من الكوارث التي يتخبط بها. ينتظرون الترياق يحمله موفدو الخارج فينصاعون صاغرين. تهدأ الأمور وتعود المياه بينهم إلى مجاريها، وينعمون هم وذرياتهم في مواصلة إشغالهم سدة مناصبهم، التي ما كانت إلا لهم ومن أجلهم، كونها من حقوقهم المتوارثة كابرا عن كابر.

نعم هذه أرضنا بلاد الأمل رغم المذابح

إذا ما تطلعنا حولنا نجد الشعب الفلسطيني يسير في طريق جلجلة العذاب الذي عرفه منذ أن حط المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرضه، مع ما يواكبه من تطهير عرقي لم يهدأ بعد، ويبدو أن لا نهاية مرئية له. وأينما حل يخلف وراءه مسلسل لا ينتهي من المذابح الآدمية. مذابح تدك كل معالم الحياة والبقاء. مذابح بالنار والحديد تطال الأطقم الصحية والمسعفين، ومذابح بواسطة الجوع والبرد والمرض وتدمير المستشفيات والصيدليات وكل ما يحفظ مقومات البقاء تشمل العموم. غزة.. غزة لم تزل تتنقل في إرجائها وبين رمالها ومخيماتها ومدنها وقراها مناجل الموت، تحصد أهلها صغارا وكبارا، أطفالا ونساء ً وشيوخا، صبايا وشبابا لا فرق. ولا تختلف عنها الصورة في الضفة الغربية حيث الحصار حبل مشنقة يضغط على رقاب المدن والقرى والمخيمات، ويحاول بكل ما أوتي من قوة اقتلاع أشجار الزيتون والبرتقال ونوافذ البيوت العتيقة. وما على هذا الشعب الذي كان يصفه أبو عمار بشعب الجبارين سوى مواصلة التمرد على جلاديه، كذلك على أولئك الذين يشيحون بوجوههم عن مأساته العتيقة في الزمن.

يرحل القحط والسنين العجاف فيأتي الأمل..

بالأمس، وبالأمس فقط أزاح الشعب السوري عن صدره أكثر من نصف قرن من عالم المسالخ والسجون والإخفاء القسري والمقابر الجماعية والمنافي القريبة والبعيدة، وكم الأفواه وحكم المخابرات والاقبية والجلادين وقطع الألسنة وصمتها القاتل.  أكثر من نصف قرن من القهر الذي لم تشهد بلاد مثيلاً له، لكثرة الارتكابات التي كشفت عنها الأيام القليلة الماضية، التي طالعتنا بأضعاف أضعاف ما كنا نعرف عن أهوال التعذيب وفنون حراسه وزبانيته الساديين. سجون فوق الأرض وتحتها ومقابر جماعية مثلها، وأناس نسوا أسماءهم التي اطلقها عليهم أهلهم، وباتوا مجرد أرقام بعد أن عاشوا طويلا متنقلين من زنزانة إلى أخرى، ومن سجن إلى مثيله. صاروا مجرد أرقام في السجلات تتكرر على مسامعهم ليحفظوها عن ضهر قلب، إلى الحد الذي تصبح معه أسماءهم ليست سوى ذاكرة من ماض لا علاقة لهم به من قريب أو بعيد. كانت الوقائع أكبر من قدرتهم على احتمال فظائع تلك الساعات والأيام والاسابيع والاشهر والسنوات والعقود، التي لا يعرفون كيف عبرت عليهم، وكم من أجساد وأحلام استهلكت عندما كانت عقارب الزمن تتنقل بين الأرقام. وتتركهم وراءها مجرد هياكل عظمية تفتقد ما يربطها بآدميتها المنتهكة.  من كان يظن أن 11 يوما فقط من شأنها أن تقلب عالي هذا الكابوس سافله، وتميط النظر عن مدى لم يكن في وارد أو حسبان.

ليس هناك من مستحيل وليس هناك من ظلم يدوم، وليس هناك من سلطة غاشمة تمسك حركة الأيام بكرباج ودولاب وآلة تجفيف وطحن لأجساد وعظام السجناء .. نعم سنقتات على الأمل نخبئه في صدورنا ونطلقه زفرات تطيح بهذا الليل الذي طال سواده، حتى ظننا أنه قدرنا الذي لا فكاك من أحكامه، لكننا نكتشف الآن أننا قادرون على التقاط نبض الضوء رغم هذا النفق الحالك.

كل عام وأنتم والأمل بالخلاص والتقدم شركاء.. هذه هي بلادنا التي نصارع من أجل آدمية الانسان فيها … نصارع بأيدينا العارية متمسكين بالأمل الذي لا نملك سواه وسط هذا المعترك الدامي.

 

Leave a Comment