زكي طه
بيروت 4 حزيران 2024 ـ بيروت الحرية
في الذكرى الرابعة لرحيل الرفيق محسن ابراهيم، نفتقد حضوره ودوره ومواقفه حيال الاحداث والتطورات. نفتقده وهو الحاضر معنا، ونحن ننظر الى الراهن منها باعتبارها امتداد لما سبقها خلال المحطات المصيرية التي شكلت الاطار الزمني والسياسي والفكري الذي ظلل مسيرته مناضلاً وقائداً حزبياً ومفكراً تقدمياً.
نفتقده اليوم، كما نفتقد معه رعيلاً من القادة الكبار أمثال ياسر عرفات وكمال جنبلاط ومعروف سعد وجورج حاوي وجورج حبش وسواهم، من الذين تشاركوا معاً مسيرة نضالية حافلة بالأحداث والمواقف كل من موقعه. مسيرة كانت وثيقة الصلة بقضايا شعوب المنطقة العربية ومجتمعاتها، وفي القلب منها قضية فلسطين. مسيرة ظللتها لعقود طويلة شعارات الوحدة والتحرر والتحرير والتقدم والمصير المشترك. وحولها تعددت أطر وجبهات النضال، وتخللها الكثير من السجالات والمعارك الفكرية والسياسية. وفي امتدادها حدثت حروب كبرى شكلت بمجملها تاريخنا الحديث..
في ذكرى رحيله لن نستعيد ما كان له من مواقف. ولن نستحضر فصول مراجعاته النقدية، للتجارب التي شارك في تأسيسها وإطلاقها وخاض غمارها. وآخرها تجربة منظمتنا، التي كان أميناً عاماً لها بكل ما تعني الكلمة من مواصفات القيادة والدور. وهي المراجعة التي كان المبادر الوحيد لها بكل جرأة ومسؤولية. وفي إعلان بعض أهم أخطائها التي أفصح عنها في ذكرى اربعين رفيقه الشهيد جورج حاوي. بينما أكثر المعنيين بها، كان خيارهم رفض الاعتراف بالأخطاء أو الاقرار بقسطهم من المسؤولية عنها. ومن آلت إليهم شعارات المقاومة لم يتعلموا منها، وأمعنوا في تكرارها. وهم الذين لم يكتفوا بتهميش مجتمعاتهم، بل استسهلوا ايضاً اختزال فلسطين وشعبها بغزة والاقصى والقدس. لقد حاذر رفيقنا محسن ابراهيم خلال مراجعته للتجربة، الوقوع في الاستسهال والتبسيط أو العدمية، ورفض الهروب إلى الامام عبر إحالة المسؤولية على الآخرين، كما فعل الذين انسحبوا منها تسللاً أو مواربة.
نفتقده ولا نشكو إليه أحوال المنطقة العربية وما آلت إليه أوضاع بلدانها ومجتمعاتها، لأن طلائعها بدأت قبل عقود. وهو الذي أمعن النظر فيها وقرأها في امتداد ما سبقها. وقد كان له بشأنها وحولها الكثير من التقديرات والرؤى، التي حكمت الوقائع اللاحقة لمصلحة صوابها الاجمالي. وبقدر ما كان القلق الذي يساوره حول مصير المنطقة العربية ومستقبل بلدانها ومجتمعاتها كبيراً، كان لدينا الكثير من الاطمئنان إلى صواب ودقة ما يدلي به حول الوضع الحافل بالاحداث. وإلى ما يعرضه من قراءات حول أوضاع المنطقة وبلدانها من بواباتها المختلفة. وبقدر ما كانت الخلاصات تذهب بعيداً في استشراف الصعوبات والمخاطر الزاحفة، كانت تتضح أكثر شروط المواجهة وتحديات المسؤولية، ومعهما كانت تكبر رهبة تنكبها رغم الثقة الراسخة بالمستقبل.
في ذكراه الرابعة نستعيد استشرافه للمفاعيل التدميرية على صعيد المنطقة للاحتلال الاميركي للعراق وحل مؤسسات دولته وتسريح جيشه. وقد سبق ذلك تقديره السياسي حول المضاعفات الخطيرة لما سمي مؤتمر السلام العربي ـ الاسرائيلي، في ظل افتقاد الدول العربية إلى الكثير من حصاناتها الوطنية والقومية جراء استسهال التلاعب بوحدة مجتمعاتها وارتهان قواها الداخلية للخارج، وانعكاساتها السلبية على صعيد القضية الفلسطينية، جرّاء تبدل أوجه الصراع الاقليمي في المنطقة، وانفلات مشاريع الاستباحة الاقليمية لبلدانها، على رافعة صعود الاصوليات الطائفية والمذهبية والعرقية، وتآكل وجود ودور الاحزاب القومية والوطنية واليسارية، بنتيجة هروبها المتمادي من مراجعة تجاربها وإعادة النظر بمقولاتها وبرامجها.
إن مسارات الأحداث والتطورات في المنطقة العربية تكاد أن تكون قد بلغت عصر الانحطاط الذي كان محسن ابراهيم يراه زاحفاً. لأن استراتيجية الفوضى الخلاقة الأميركية، قد اصبحت أمراً واقعاً نافذاَ، بفعل تقاطعها مع مشاريع وسياسات القوى الاقليمية ومصالحها، ممثلة بكل من إسرائيل وإيران وتركيا وسواهما من الدول الكبرى. لأن بديل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، كان مسلسلاً لا نهاية له، من الصراعات والحروب الأهلية البينية المفتوحة. ساحاتها أكثر البلدان العربية، التي شهدت انتفاضات شعبية عفوية. حيث تعمدت أنظمة الاستبداد المحاصرة استدراج المشاركين فيها، إلى ميادين العنف والاقتتال الأهلي بكل اشكاله. واستسهلت تشريع الأبواب للتدخلات الخارجية الاقليمية والدولية. حيث تولت الولايات المتحدة الاميركية إدارتها والمشاركة فيها. وعليه جرى تدمير اقتصاد وعمران تلك البدان، وتفكيك مجتمعاتها. فضلاً عن الاطاحة بما كان لديها من مؤسسات دولة وأجهزة إدارية وجيوش. وما جعل مصيرها في خانة المجهول، تقاسم قوى الاحتلال وسلطات الأمر الواقع الميليشياوي السيطرة عليها، تحت وطأة ما عرفته طوال السنوات الماضية ولغاية الآن، من معارك ومن عمليات الإبادة والتهجير القسري والتدمير، التي طالت مدناً كبرى ومناطق بأكملها تبعاً لانتمائها الطائفي أو المذهبي أو العرقي. ونجم عنها عمليات تشريد وتهجير كبرى في الداخل والى الخارج، كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان و… حيث السائد هو الانهيار الاقتصادي والفوضى السياسية الأهلية والأمنية والمجاعة..
في المقابل لا يزال الشعب الفلسطيني يخوض منفرداً معارك المواجهة ضد مشاريع الاستيطان والمخططات الاسرائيلية والاميركية التي تستهدف الاجهاز على قضيته وحقوقه. وها هو الآن، ومنذ ثمانية أشهر يواجه وحيداً على أرضه في قطاع غزة كما في الضفة الغربية، حرباً إسرائيلية وجودية ضده. هي حرب قتل وإبادة وتدمير وتشريد وفق كل المقاييس والاعراف والقوانين الدولية، تنفذها اسرائيل وتقودها وتدعمها الولايات المتحدة الاميركية، التي تدير سائر جبهاتها السياسية والدبلوماسية بالتنسيق مع حلفائها الاوروبيين. وطوال فصول هذه الحرب نشهد تواطوءً دولياً لا يحتمل الالتباس من قبل الدول الكبرى على كل المستويات. بينما يشكل الوضع العربي عامل تسهيل لاستمرار الحرب، نظرا لتوزع بلدانه بين، بقايا دول اصبحت في طور الانهيار. ودول تتولى أدوار الوساطة والضغط على السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة. والبقية تكتفي بإدانة الممارسات الاسرائيلية ومناشدة الادارة الاميركية القبول بوقف اطلاق النار وفك الحصار. إنها النتيجة الطبيعة لمسار التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني الذي لم يعد محصوراً بمصر والاردن، بعد استجابة بعض دول الخليج والمغرب والسودان للطلبات الاميركية والشروط الاسرائيلية، والباقي في طور الاستعداد للالتحاق بها.
لكن الأخطر هو الانقسام الفلسطيني المستمر، على رافعة انفلات المشاريع الفئوية التي تسعى لاحتكار النطق باسم الشعب الفلسطيني، بقوة تكرار المغامرات السياسية غير المحسوبة، التي يستسهل أصحابها التفريط بما كان قد تحقق من انجازات وطنية، وتستهين بسيل الدماء والتضحيات والصمود الاسطوري، بحثاً عن نصر إعلامي وسط الكارثة الزاحفة.
وما يعزز القلق المصيري حول أوضاع المنطقة وبلدانها، أن التظاهرات التي تجوب العواصم والمدن الاوروبية والاميركية، والتحركات الطلابية في العديد من جامعاتها، المتضامنة مع الشعب الفلسطيني والمؤيدة لحقوقه، لا تجد ما يوازيها، في العواصم والمدن العربية وجامعاتها، التي تغيب عنها التحركات الشعبية والطلابية التي ترفع رايات الدعم في مواجهة ما يتعرض له. والسبب الاولويات التي ارتدت إليها المجتمعات العربية، في البحث عن ابسط حاجاتها للبقاء على قيد الحياة. لأن أوضاعها وأولوياتها باتت متشابهة مع الشعب الفلسطيني الذي يواجه أخطر الحروب الاسرائيلية وأشدها عدوانية في تاريخ الصراع معه. بينما المجتمعات العربية تواجهة النتائج التدميرية حروب الصراع على السلطة بين بقايا أنظمة الاستبداد وميليشيات الطوائف والاصوليات الدينية.
ويضاف إلى تلك المخاطر التي تواجهها تلك البلدان، المضاعفات الخطيرة الناجمة عن قرار بعض قواها الطائفية خوض ما سمي معارك مساندة غزة. التي لم تعدل في أهداف ومسارات الحرب الاسرائيلية، بقدر ما قدمت لها ذرائع إضافية لتوسيع جبهاتها وتعريض بلدانها لحروب استنزاف مفتوحة، مرشحة للتحول حروب تدميرية شاملة. عدا تعميق الأزمات وحالات الانقسام السياسي والمجتمعي في هذه البلدان، كما هو الوضع في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
يؤكد ذلك أن المعركة التي قررها حزب الله على الجبهة اللبنانية مع العدو الاسرائيلي، بمعزل عن إرادة أكثرية اللبنانيين، اصبحت حرب استنزاف مفتوحة. واحتمالات تحولها حرب تدمير شامل قائمة. والسجال الداخلي حولها لا يختلف مطلقاً عن السجال المفتوح حول سائر قضايا البلد ومشكلاته الموروثة والمستجدة. علماً أن العهد السابق لم يخالف توقعات محسن ابراهيم حوله، وأنه سيكون الأكثر سوءاً في تاريخ رئاسة الجمهورية. لقد انتج كماً هائلاً من الأزمات الجديدة، جراء سياسات تسليم قرار البلد السيادي لحزب الله مقابل الاستئثار الفئوي بالسلطة ومغانمها. ولذلك احتدمت معارك المحاصصة الطائفية، وتصاعدت مستويات الفساد السياسي والاداري والقضائي على نحوغير مسبوق. وتسببت بالانهيار الاقتصادي والمالي الكارثي، وبشلل سائر مؤسسات الدولة وأجهزتها الادارية والامنية وقطاعاتها الخدماتية. وخلّف “العهد القوي” وراءه الفراغ الرئاسي وحكومة تصريف الاعمال، ومسلسل لا ينتهي من المنازعات حول صلاحيات الرئاسة، ودور المجلس النيابي التشريعي وآليات عمله. عدا ملفات النزوح السوري والاصلاحات الضرورية والمركزية الادارية والانتخابات البلدية والتهريب، ومصير أموال اللبنانيين المنهوبة والتحقيق في جريمة إنفجار المرفأ. ولا يفوتنا القول أن العهد يتقاسم المسؤولية عنها مع سائر أطراف السلطة دون استثناء كل حسب وزنه وقوة ذراعه.
لقد أرتدت أوضاع البلد إلى ما دون تأسيس الكيان والدولة.. وأصبح محكوماً بالفوضى الشاملة وسياسات الأمر الواقع، على كل المستويات والصعد كافة، تبعاً لأهواء ومصالح سائر اطراف السلطة، التي لم تبدّل قيد أنملة في ممارساتها، رغم سيل النصائح والإنذارات التي لم تزل تتلقاها من الخارج، والتي تحذرها من خطر التدمير الشامل، وانتهاء لبنان السياسي وصولاً إلى خطر زواله. ما يعني أن مخاوف محسن ابراهيم بأن يكون “الرئيس القوي” آخر الرؤساء، لم تزل قائمة.
وفي موازاة أداء قوى السلطة، يتصدر المشهد الاعلامي جمعيات وتجمعات الفولكلور السياسي الأهلي التي تبرّز خلافات اللبنانيين ورؤاهم التبسيطية حول قضايا الهوية والسيادة والدولة والحياد والفدرالية والمقاومة و… وينافس هؤلاء جمعيات المجتمع المدني التي تتعيّش على تمويل الجهات المانحة وتلتزم شروطها، وتتقاسم ملفات القضايا بعد تفكيكها إلى أجزاء متناثرة. أما أكثرية اللبنانيين، وكما تفتقد الحركة النقابية العمالية والمهنية، التي اصبحت هياكل جوفاء تتنازعها أحزاب الطوائف. تفتقد أيضاً حركة المعارضة الديمقراطية وقواها الحزبية بكل تلاوينها ومستوياتها السياسية والثقافية والفكرية. لأن ما بقي حياً وناشطاً منها، لا يتعدى النثريات التائهة بين ساحات وشوارع أحزاب الطوائف التي تمتهن تضليل اللبنانيين وحرف أنظارهم إلى حيث تشاء.
رحل محسن ابراهيم في زمن الأسئلة الصعبة حول مصير سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن وسواها.. زمن القلق على مصير الشعب الفلسطيني في وطنه. زمن حروب بقايا أنظمة الاستبداد وميليشيات الطوائف لتقاسم السلطة بعد أوطانها ومجتمعاتها. في زمن الفساد السياسي والعهر الطائفي، والفكر الأصولي والاستقواء بالخارج.
رحل محسن ابراهيم في زمن غياب مبادىء السياسة النبيلة وانعدام رجال الدولة في لبنان. رحل وترك لنا إرثه الثمين الذي نتحصن به ونحن نحاول متابعة المسار السياسي والنضالي المتجدد لمنظمتنا والذي شكل نتاج المراجعة النقدية الشاملة واستشرافه للمستقبل. رحل وترك لنا قلقه العميق حول مصير المنطقة العربية وبلدانها. القلق الذي ينطوي على كم هائل من التحديات والاسئلة التي تواجه شعوب مجتمعاتنا العربية وفي المقدمة الشعب الفلسطيني وشعبنا اللبناني.
في الذكرى الرابعة لرحيله لا يسعنا سوى توجيه التحية للشعب الفلسطيني في صموده ونضاله وتضحياته كي يكون له دولة في وطنه. ولجميع اللبنانيين الذين يراودهم حلم بقاء لبنان ويناضلون كي يبقى وطناً لجميع ابنائه. والتحية إلى كل الشهداء والمناضلين والقادة الذين نفتقدهم اليوم، وفي طليعتهم محسن ابراهيم.
Leave a Comment