ساطع نور الدين
هي مناسبة للتأمل، لا للتباهي فقط. الوقوف أمام مجرى “الطوفان”، لم يعد مجدياً، ولم يكن توجيه أقذع الشتائم الى”الآخر”، الذي يقف عند الضفة المقابلة لائقاً، لأنه ينم عن جهل لا عن عجز فقط.
السردية التي رافقت حصول “طوفان الأقصى”، استنفدت، او تكاد، وأدرجت تفاصيلها في خانة السرديات العربية الموروثة، التي دونت رواية ذلك البريق اللامع الذي خطفَ الابصار، لكنه سرعان ما تلاشى.. من دون ان يترك الأثر المرتجى، إلا في الذاكرة، التي يستثمرها ويستفيد منها العدو الآن، أكثر من سواه.
كان الطوفان عملاً مذهلاً، لكنه كان عملاً يائساً، نوى إحياء الامل، او صونه، لينقل الى الأجيال الفلسطينية المقبلة. لكن السيل لم يكن جارفاً، ومنسوب المياه لم يتعدَ حدود القطاع، وبعض الضفة، وبضع جبهات في الخارج فُتحت على عجل، وسرعان ما تحولت الى شواهد، لا أكثر، في مقابل موجات عاتية من التفاعل والتعاون والتعاطف مع العدو، أغرقته بالسلاح والمال والمتطوعين، في استعادة حرفية لمرحلة التأسيس الأولى للدولة اليهودية.
جرف الطوفان مصدره، أكثر مما فاض على الضفة الأخرى. وتحول قطاع غزة الى بحر من الدماء، والضفة الغربية الى بُرك دمٍ متفرقة، ودخل الشتات الفلسطيني في حقبة أخرى من التيه، إن لم يكن من الزوال. وتوزع العرب والمسلمون في العالم بين إقلية “مشاغِلين” الى أغلبية ساحقة من المتفرجين والمشجعين للعدو، على المضي قدماً حتى محو فلسطين من الذاكرة.
الذكرى السنوية الأولى، ليست فرصة للمراجعة التي فات أوانها، منذ أن رفض أهل الطوفان نداءات ورجاءات متكررة، لتغيير أساليبهم وأدواتهم، التي تهدر دماء مليوني انسان وتجعل القطاع أسيراً عند الاسرى الإسرائيليين. لان غزة لا تملك “ترف” اللجوء الى “خيار هانيبال” الإسرائيلي، الذي يضحي بالأسرى لكي يحمي الجماعة، الدولة..
فكرة الإبادة الجماعية للفلسطينيين لم تكن طوال الأيام ال365 الماضية، خيالاً او وهماً. هي حقيقة لا جدال فيها. يعتمدها الإسرائيليون فعلاً، ويستبعدها الفلسطينيون وما تبقى من حلفاء وشركاء لهم، ويشجع عليها عرب ومسلمون وأجانب كثيرون، يرون ان فرصة إسرائيل الراهنة لن تضيع ولن تتكرر، ولن تخفق في تغيير وجه المشرق العربي، مرة والى الابد.
لم يعد من سلاح فلسطيني سوى الصبر. الانتظار هو هدر للدم والوقت والعقل. لعل الأوان لم يفت على السعي لوقف الإبادة، والحد من الخسائر والاضرار، من خلال الاعتراف بان الصبر ليس مفتاح الفرج المستبعد، او حتى المستحيل، واستكشاف خيار التراجع والانسحاب من معركة غير متكافئة أبداً ، لا في السياسة ولا في الأمن ولا في الوجود.. لان المضي في القتال على هذا النحو البائس، لاشهر او لسنة أخرى لن يضيف شيئاً الى رصيد التفاوض، ولن يؤدي إلا الى تقريب نهاية الفلسطينيين، كشعب ذي صلة بأرض مرسومة ومعروفة حتى الآن.
يقال، جدلاً، أن العدو لم يترك امام المقاتل الفلسطيني، فرصة للاستسلام المشرف. وهذا صحيح الى حد بعيد. لكن المغامرة في خوض هذه التجربة أقل كلفة ومرارة بكثير من التهديد الوجودي للشعب الفلسطيني، المقيم في الداخل.. وهو تهديد سبق ان واجهته شعوب كثيرة قاومت، لكنها خرجت منه، من دون أن تفنى او تسقط، ومن دون أن تقدم أكثر من قرابين سبق للفلسطينيين انفسهم ان قدموا مثلها في مراحل سابقة من الصراع، أقل وطأة من آثار الطوفان الجارف، الذي يستحق ان يكتب بأحرف من ذهب، وأن يحفظ في كتب التاريخ الفلسطيني، لا أن يتحول الى حجة يقيمها العدو الإسرائيلي على ذلك التاريخ.
* نشرت في مدونة الزميل ساطع الحصري، بيروت في 7/10/2024
Leave a Comment