حسين صلح “أبو نضال“ *
ها هو الشعب الفلسطيني يجدد انتفاضته الوطنية في القدس والضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948، وتقف غزة بشموخها وعزتها وقوتها الى جانب اخواتها في مواجهة قوات الاحتلال الاسرائيلي. تأتي هذه الانتفاضة مع الذكرى الأولى لرحيل نصير الشعب الفلسطيني القائد محسن ابراهيم الذي انضم عام ١٩٥١ إلى تنظيم الشباب القومي العربي الذي أسسه كلّ من جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وحامد الجبوري وأحمد الخطيب وصالح شبل . وفي هذا الاطار برز محسن إبراهيم مناضلاً وقائداً ومبدعاً في أفكاره ومناقشاته وممارساته ونشاطاته. وظهرت قدراته في هذه المرحلة التي كانت الناصرية بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ مصدر تفكيره وتوجهات نشاطه في التنظيم في الفروع الخارجية. وكان إلتزامه حاسما بالقضية الفلسطينية بإعتبارها القضية المركزية للشباب العربي. وبهذه الصفات حضر المؤتمر الأول لحركة القوميين العرب في عمّان في ٢٥/١٢/١٩٥٦ وأنتخب في قيادة الحركة الى جانب جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي واحمد الخطيب وثابت المهايني ومصطفى بيضون وعدنان فرج والحكم دورزة وصبحي غوشة وصالح الشبل. وفي هذا المؤتمر تمَّ اطلاق اسم حركة القوميين العرب على التنظيم الذي كان يُعرف باسم الشباب العربي القومي، كما جرى إقرار أهم الموضوعات السياسية والتنظيمية التي يتم تزويد الأعضاء بها لعملهم السياسي والتنظيمي. وهي شعارات الحركة (وحدة – تحرر – ثأر)، في حين لم يكن شعار الاشتراكية مطروحاً، لأن هذا الشعار كان يثير الجدل بين الأعضاء في القواعد الحزبية كما في القيادة، بإعتبار ان المرحلة تتطلب تجميع كل الطبقات من أجل تحقيق هدف التحرير. وإنّ من الخطأ إثارة موضوع الصراع الطبقي في هذه المرحلة، وإنّ التشديد على شعار الثأر مرده الفكرة الكامنة وراءه، وهي من أهم ما يميز فكر الحركة السياسي في ذلك الوقت. وكانت هذه القضية من القضايا التي شكلت مبرراً لتأسيس الحركة وعدم الإنضمام إلى حزب البعث، فالحركة كانت تريد أن تزرع في الوعي العربي القومي على صعيد الوطن العربي بأكمله خصوصية الخطر الصهيوني، وخصوصية معركة التحرير الفلسطينية بوصفها قضية قومية لا قضية وطنية فقط. وكانت قيادة الحركة في هذه الفترة تتألف من جورج حبش وهاني الهندي والحكم دروزة في دمشق، ومحسن إبراهيم ومصطفى بيضون ومحمد الزيات واحمد ستيتية في لبنان. في هذه الفترة كان مطروحاً من جانب أعضاء في القيادة موضوع تغيير اسم الحركة الى حزب سياسي، وكانت تعطى حيثيات مكثفة حول هذا الموضوع. وكانت قيادة لبنان أشد المتحمسين والمتمسكين بهذه الفكرة، وقد جرى إستفتاء القاعدة حيث أتت النتيجة في مصلحة البقاء على الاسم “حركة القوميين العرب”. وإضافة إلى موضوع تغيير الاسم، واجهت القيادة تساؤلات حول الفكر السياسي والشعارات السياسية التي كانت ترفعها الحركة في ذلك الوقت، بعد ان تمّ تشكيل لجنة فكرية مركزها بيروت تحت قيادة الرفيق محسن إبراهيم ومن أعضائها عبد الحميد شرف وجوزيف مغيزل. وكان المناخ العام في لبنان بوجه خاص مناخاً يسوده حوار ونقاش بين المثقفين العرب. وكان مقهى فيصل أحد المراكز الذي تدور فيها نقاشات حول مفاهيم البعث والناصرية وحركة القوميين العرب والنهضة العربية. وكان من الطبيعي جداً أن يتأثر أعضاء اللجنة الفكرية بهذه النقاشات. وبناءً على طلب أعضاء اللجنة الفكرية عُقد اجتماع لقيادة الحركة في بيروت حضره الدكتور احمد الخطيب وأعضاء القيادة المؤسسين كافة، إضافة إلى أعضاء اللجنة الفكرية وفي مقدمهم محسن إبراهيم، حيث جرى طرح الموضوعات الآتية:
حذف شعار الثأر وإستبداله بشعار إسترداد فلسطين وإضافة شعار الإشتراكية، وحول موضوع الفكر السياسي طُرح موضوع اليهود، وأنه ليس كل يهودي صهيونياً بالضرورة وإُنتقد موضوع المرحلية، فالنضال من أجل الإشتراكية يجب أن يترابط مع النضال من أجل التحرير والوحدة. وقد خلصت القيادة إلى الاتفاق على استبدال شعار الثأر بشعار استرداد فلسطين. وفي موضوع اليهود ية والصهيونية توصلت القيادة إلى نتيجة تبرز أن أغلبية اليهود هم صهاينة يدعمون إسرائيل، لكن ليس إلى حدّ القول إن كل يهودي صهيونياً بالمطلق. أما موضوع المرحلية فقد توصلت القيادة الى نتيجة تثبت مفهومها على أساس التحرر والوحدة يسبقان تحقيق الاشتراكية أو تطبيقها، كما تمّ التوصل إلى قناعة بضرورة رفع شعار الاشتراكية كمؤشر للمجتمع العربي. وهكذا أصبحت الوحدة والتحرير والاشتراكية واسترداد فلسطين هي شعارات الحركة بعد هذا الاجتماع. كما أصدرت القيادة قراراً بإنتقال المجلة المركزية “الرأي” من دمشق إلى بيروت، كون اللجنة الفكرية كان مركزها بيروت إضافة الى وجود الرفيق محسن إبراهيم في بيروت أيضاً. وكان تقدير القيادة في تلك الفترة أنه يتمتع بكفاءة تمكنه من أن يكون رئيس تحرير المجلة، واتخذت في بيروت اسم مجلة “الحرية”. ولاحقاً أصبح من الطبيعي ان ينتقل مركز حركة القوميين العرب إلى بيروت. فقد اصبح مقيماً فيها كل من: هاني الهندي والحكم دروزة ووديع حداد إضافة إلى محسن إبراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمه وغسان برازي. وكان محسن إبراهيم مبادراً إلى طرح موضوع شعار الحركة العربية الواحدة الذي طرحه جمال عبد الناصر، كون التجربة قد دّلت على أهمية طرح هذا الشعار وضرورته. لأن النضال من أجل الوحدة يتطلب وحدة الأداة التي تناضل من أجل هذه الوحدة، وحول هذا الطرح لم تكن هناك خلافات حول شعار الحركة العربية الواحدة وأهميتها وضرورة العمل على توجيه جهود القوى القومية كافة لتحقيقها. كما أنه لم يكن هناك خلافات حول دور الرئيس عبد الناصر القيادي في تحقيق وحدة أداة الثورة. ولكن الخلاف كان يدور في قيادة الحركة حول تقييم دور فروع حركة القوميين العرب، اذ إنّ الرفيق محسن إبراهيم وفريقه كان يؤكدان على سلبيات دور الفروع، ولاسيما في اليمن قبل اندلاع الثورة. ومما زاد الأمور تعقيداً ما كان يطرح خارج الإجتماعات من قضايا وتقييمات، مما أشاع في بعض الأوساط في لبنان أن الحركة منقسمة بين يمين ويسار. اليمين يمثله الفريق المؤسس واليسار يمثله محسن إبراهيم ورفاقه. وفي هذه الفترة حضر وفد من جنوب اليمن الممثل بثلاثة رفاق منهم قحطان الشعبي ليطرحوا على القيادة نضج الظروف لبدء الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية. وقد اتخذت القيادة قرارها بالموفقة وضرورة بحث هذا الموضوع مع الرئيس عبد الناصر، لان القوات العربية المصرية في اليمن الشمالي تمثل القاعدة المادية لهم في نضالهم من اجل الاستقلال وطرد الاحتلال البريطاني تحت اسم الجبهة القومية. فأقرت قيادة الحركة هذا التوجه وبهذا اتخذت بادرة الكفاح المسلح التي بدأت في ردفان في تشرين الأول ١٩٦٣. وفي لقاء مع الرئيس عبد الناصر ابدى ارتياحه لنمو ظاهرة الكفاح المسلح في اليمن، وأحال موضوع ظفار إلى زكريا محي الدين. وحضر هذا اللقاء جورج حبش ومحسن إبراهيم ومحمد الغساني. وخلال عامي ١٩٦٥ و ١٩٦٦ والنصف الأول من عام ١٩٦٧ إنصب جهد قيادة الحركة على العمل الفلسطيني. ولم يقتصر ذلك على الصعيد السياسي والتنظيمي والثقافي فقط، بل تم التركيز على أهمية العمل العسكري من حيث التجهيز والتدريب والاستطلاع. وحين استشهد الرفاق رفيق عساف ومحمد اليماني وسعيد العبدالله وأسر سكران سكران انعقدت مباحثات بين الرئيس عبد الناصر ووفد من قيادة الحركة. وقد أكد فيه الرئيس عبد الناصر على تعقيدات الموضوع الفلسطيني والكفاح المسلح وأن هذا الأمر يتطلب ظروفاً وأوضاعاً عربية أفضل.
هزيمة حزيران ١٩٦٧
في صباح ٥ حزيران ١٩٦٧ وقعت الحرب وأدت إلى الهزيمة وأصبحت المنطقة العربية امام واقع جديد. وقد صدر في تلك الفترة مقال في مجلة “الحرية” التي يرأس تحريرها الرفيق محسن إبراهيم عنوانه: “لا لم يهزم عبد الناصر”. لكنه عاد الى مراجعة التجربة الناصرية في ضوء الهزيمة، ودشّن مع رفيقه محمد كشلي موسم نقد الناصرية والأحزاب القومية العربية والتحول الى الشيوعية. وسار معه في هذا الطريق الرفيق نايف حواتمه وعبد الفتاح إسماعيل، فحصل الإنشقاق في حركة القوميين العرب الذي شمل الفروع جميعها بما فيها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقد أسس الرفيق محسن إبراهيم مع رفاق له منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، ثم منظمة العمل الشيوعي التي تشكلت من تنظيمين هما: حركة لبنان الاشتراكي التي ضمت أعضاء تركوا حزب البعث بعد الإنفكاك عن الوحدة السورية – المصرية عام ١٩٦١ وهم وضاح شرارة واحمد بيضون وفواز طرابلسي ومحمود سويد وكريستيان غازي ووداد شختورة. ومنظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي أسسها الرفيق محسن إبراهيم عام ١٩٦٩ مع بعض رفاقه في حركة القوميين العرب وآخرين . وقد توحدت المنظمتان في لحظة كان النضال المطلبي يعم جميع المناطق اللبنانية وفي سياق الدفاع عن المقاومة الفلسطينية. هكذا خرج اليسار الجديد في لبنان لا من داخل الأحزاب الشيوعية، بل من رحم الأحزاب القومية وبالتحديد القوميين العرب والبعث. وقد نشطت منظمة العمل الشيوعي بقيادة محسن ابراهيم في الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان وعلى سياسة الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني في محاصرة العمل الفدائي في الجنوب. أما على الصعيد الفلسطيني، فقد وقف إلى جانب الرفيق نايف حواتمه في قرارالإنشقاق عن الجبهة الديمقراطية سياسيا وتنظيميا وماليا عن طريق جمع التبرعات والتجهيز. وقد تمّ فرز عدد من رفاق المنظمة لمساعدة فرع الجبهة في لبنان في مرحلة التأسيس، وكنت من ضمن هذه المجموعة المشار اليها حيث أقوم بالتنسيق بين متطلبات قيادة الجبهة الديمقراطية في الأردن، وبين الرفيق محسن إبراهيم والرفيق عبد الكريم حمد أبو عدنان في بيروت. وكنت أعمل على تأمين إيصال مجلة “الحرية” أسبوعياً إلى الأردن، بالإضافة الى التقرير السياسي لمؤتمر آب الذي شكل وجهة نظر الجبهة الديمقراطية النظري والسياسي للإنشقاق عن الجبهة الشعبية إضافة الى التجهيز وغير ذلك. وقد استمريت في هذه المهمة إلى حين خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن على اثر أحداث أيلول الأسود في الأردن عام ١٩٧٠.
وفي عام ١٩٧٠ شارك الرفيق محسن إبراهيم مع الرفيق نايف حواتمه الأمين العام للجبهة الديمقراطية ومع القائد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وقائد حركة فتح في بناء الحركة الوطنية الى جانب المعلم القائد كمال جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والأمين العام للحزب الشيوعي الرفيق جورج حاوي والحزب القومي السوري وحزب البعث العربي الاشتراكي. كانت الحركة الوطنية ومن ضمنها منظمة العمل الشيوعي حليفاً قوياً للمقاومة الفلسطينية طوال سنوات وجودها على الساحة اللبنانية. وخاضت إلى جانبها جميع المواجهات التي فرضت عليها خلال الحرب الأهلية وتصدى مناضلوا المنظمة، والأحزاب الوطنية الى جانب سلاح المقاومة الفلسطينية للاجتياحين الإسرائيليين عامي ١٩٧٨ و ١٩٨٢. وعند اجتياح بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي وفي ١٦ أيلول أطلق الرفيق محسن إبراهيم مع الرفيق جورج حاوي من منزل الشهيد كمال جنبلاط بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الأول، التي كان لها باع طويل في العمليات العسكرية التي شنت ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي والعملاء في بيروت والجبل والجنوب والبقاع الغربي خلال الثمانينيات بعد نهاية الحرب الأهلية.
الخروج الفلسطيني من بيروت
لم يكن امراً بسيطا خروج الثورة الفلسطينية من بيروت خريف عام 1982 وهي إشكالية فقدان الموقع المسلح، وبالتالي السياسي المستقل تحت وطأة الضربة القاصمة التي وجهتها إسرائيل في حربها الشاملة على لبنان للثورة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين. وكم كان يقظاً الأمين العام للمنظمة محسن إبراهيم في اطلاق الدعوات المتكررة إلى التعامل مع حدث الخروج الفلسطيني من بيروت، وفي مضاعفاته المرتقبة البالغة الأهمية والتحذير من الاستخفاف بالطابع المصيري لهذا الحدث الضخم في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة. محذراً من النظر إليه على أنه لا يتلخص بمجرد خسارة موقع. فلم يكن امراً بسيطا ان تخسر الثورة الفلسطينية موقعها السياسي والمسلح المستقل على الأراضي اللبنانية ، بل إن هذه الخسارة كانت تبدو بالنسبة إلى الرفيق محسن إبراهيم والمنظمة، كانها خاتمة تاريخ بأكمله للثورة الفلسطينية التي انطلقت عام ١٩٦٥. وهو القانون الذي حرمها منذ البداية من التمركز داخل أراضيها المحتلة وفرض عليها أن تقيم ضمن الأقطار العربية المحيطة بفلسطين ، لأن ذلك ذلك جعل من الطور الذي تمركزت خلاله الآلة المسلحة للثورة الفلسطينية في معظم فاعلياتها على الأرض اللبنانية، الطور الأساسي في تاريخ هذه الثورة، سواء من حيث المدى الزمني ثلاثة عشر عاماً، أو من حيث التمكن من إقامة قاعدة عسكرية – سياسية متكاملة مستقلة، تحولت في النهايه إلى شبه دولة في ظل انقسام لبناني أهلي مديد، مكنها من إدارة عملها المسلح ضد إسرائيل. وممارسة حركة سياسية عربية ودولية ناشطة دبلوماسياً شملت العالم كله. مما يؤكد أهمية المكان الذي إحتله الوجود الفلسطيني المسلح والسياسي على الساحة اللبنانية في تاريخ الثورة الفلسطينية من أساسه. ومن الواضح أن معظم أحداث هذا التاريخ تمت على قاعدة هذا المكان. وأن الثورة الفلسطينية لم تتحول بالفعل رقما صعباً في المعادلة على حد تعبير أبو عمار الا انطلاقا من التمركز على الساحة اللبنانية. من هنا كان يشدد أبو خالد والمنظمة بعد الخروج الفلسطيني من بيروت في أن هذا الخروج لم يؤدِ إلى خسارة الموقع المسلح والسياسي المستقل الوحيد من نوعه الذي أتيح للثورة الفلسطينية أن تبنيه خلال مسيرتها، والذي حمل خلال ثلاثة عشر عاماً تفويضا سياسيا حقيقياً عن سلبيات قانون وجود العمل الفدائي الفلسطيني خارج وطنه الطبيعي. ولم يشعر أبو خالد ان أحداً من أطراف منظمة التحرير الفلسطينية تعامل مع حدث الخروج الفلسطيني من بيروت على أنه نهاية مرحلة في تاريخ الثورة الفلسطينية. كما أن أحداً لم يتقدم بالفعل ببرنانج جدي لمرحلة جديدة يساعد على استئناف مسيرة الثورة الفلسطينية، وفق معطيات وتوجهات وأساليب عمل جديدة وشعارات ومهمات مكثفة متكيفة تكييفاً حقيقياً مع أحكام الممر الضيق جداً الذي كُتب على النضال الفلسطيني أن يعود إليه. وقد أتت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني ضمن حدود رسم طريق الثورة الفلسطينية نحو الانضمام إلى محصلة الوضع العربي الرسمي، ودخلت الثورة عملياً مرحلة طغيان الحركة السياسية والدبلوماسية على كل ما عداها. وكان أبو خالد يرى أن قرارات ذلك المجلس الوطني الفلسطيني شكلت جواز مرور لتحرك سياسي، وأن هذا التحرك السياسي سيكون مشدوداً إلى التبدلات المتوالية في موازين القوى العربية الرسمية. لذلك نظر إلى الوجود الفلسطيني المسلح المستمر في البقاع والشمال من الزاوية الوطنية اللبنانية، وأن هذا الوجود يجب أن يتحول بنادق وقوات مقاتلة للمساهمة في المقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي، وللقيام بواجبها ضد العدو الصهيوني تحت الراية الوطنية اللبنانية بصفتها الراية الوحيدة المشروعة حقاً والمفتوحة الآفاق فعلاً. كما أنه نظر إلى الوجود الفلسطيني المسلح في المنطقتين البقاع والشمال من الزاوية العربية والأقليمية في مواجهة الحرب الإسرائيلية المستمرة على لبنان ونتائجها على المنطقة. إذ إن هذا الوجود تحول ولا يمكن الا أن يتحول إلى قوة عسكرية مرتبطة بالجيش السوري الذي استمر مرابطاً في البقاع والشمال مستمداً شرعية بقائه، ليس من قرارات القمم العربية السابقة فحسب، بل من واقع كون الشطر الأكبر من لبنان يخضع للاحتلال الإسرائيلي، مما يهدد أمن سوريا. ويمنحها من دون إبهام حق الحفاظ على مواقعها العسكرية دفاعاً عن نفسها، وأداءً لواجب المساهمة في الدفاع عن لبنان. الا إنه في مقابل هذا الفهم السياسي الواضح من قبل أبو خالد والمنظمة لوظيفة الوجود الفلسطيني المسلح الذي استمر في البقاع والشمال طوال عامي ٨٢ و ٨٣ ساد فهم ضمن الوسط الفلسطيني عموماً وبعض أجنحة حركة فتح خصوصاً بدأ الجهر بشعار العودة إلى بيروت وفق الصيغة السابقة للخروج من بيروت. ومن هنا كان التشديد المبكر والمتكرر الموجه إلى القادة الفلسطينيين بأن لا يحشروا بعضهم وأنفسهم كلياً في ما تبقى لهم من ممر ضيق على الساحة اللبنانية. فالوظيفة السياسية تغيرت تغيراً جوهرياً لهذا الممر الضيق على الساحة اللبنانية. وأن يلتفتوا إلى أوضاع الساحة الفلسطينية كلها ويستوعبوا معضلاتها وتنوعات مواقعها ليستخرجوا مرة أخرى الحد الأدنى المشترك الذي يمكن أن يوحدها. لكن كل الدعوات تحولت صوتاً من دون صدى لتجرَّ جميع المنظمات الفلسطينية بعضها إلى النزال تحت شعار لمن تكون الغلبة والأولوية في البقاع والشمال؟
الموقف من الانشقاق
لقد كان موقف أبو خالد وقيادة المنظمة واضحاً من الانشقاق الفلسطيني لاسيما في حركة فتح ، لأنه كان يرى أن وحدة منظمة التحرير وحدة تنطوي على قدر كبير من الهشاشة أصلاً. مثلما كان يعتبر أن الحفاظ عليها يتطلب منهجاً استثنائياً في وعيه لعناصرها المكونة وفي امتلاك القدرة على التأليف بين عناصرها. وأن توحيد الشعب الفلسطيني يواجه عوامل الانقسام والتقسيم بين الداخل والشتات، لا يمكن أن يتحقق الا وفق تركيبة سياسية نضالية ائتلافية بالغة المرونة في استيعابها جميع الطبقات والفئات الاجتماعية ومجمل القوى السياسية ومختلف التيارات المتضررة جميعا من الاحتلال الإسرائيلي، للانخراط في نضال وطني ضد هذا الاستعمار الاستيطاني. مما يؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية نهضت على قاعدة الفرز، لأن الفرز لم يكن يعني في القاموس الفلسطيني سوى تفكك الشعب الفلسطيني. لذا من الطبيعي أن يحتل شعار الوحدة الوطنية الفلسطينية هذا المكان البارز في الثورة الفلسطينية. هكذا نظر إلى الانشقاق في حركة فتح بين يمين ويسار منذ بدايته، على أنه ينطوي على قرار بسلوك نهج الفرز مبدئيا مما كان يعني تفكك منظمة التحرير. لذلك كان الموقف الرفض القاطع لأي انشقاق تحت أي ذريعة كي لا ينهار في النهاية كل الإنجاز الذي صنعه الشعب الفلسطيني. فكيف تكون الحال حين يأتي هذا الانشقاق محاطاً بألف التباس والتباس ؟ كما نظر أبو خالد لمخاطر الانشقاق من الزاوية الوطنية اللبنانية خوفاً من أن يؤدي الصراع العسكري بين اجنحة فتح من جهة في ما بينها، إضافة إلى الفصائل الفلسطينية الداعمة للمنشقين إلى حرب أهلية فلسطينية، ستكون الأولى من نوعها في تاريخ الشعب الفلسطيني . وكان يرى أن لبنان الوطني سيدفع إضافة إلى الشعب الفلسطيني من لحمه الحي ثمن هذه الحرب الأهلية المدمرة، لأن لبنان الوطني كان هذه المرة يحتاج فعلاً إلى دعم الثورة الفلسطينية، بعدما قدم كل ما يستطيع من الدعم لأجل حمايتها والدفاع عنها ومن دون حدود .
وكان مفهومنا للدعم الفلسطيني الذي نحتاجه، يتلخص في أمور ثلاثة : التورع من تحميل الجماهير اللبنانية وقواها الوطنية أعباء جديدة تحت وطأة الاقتتال الفلسطيني. وأن أبسط مقتضيات الوفاء الفلسطيني للبنان الوطني تتجسد في تمكينه من أن يرفع راية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان فوق أي راية آخرى. وفي الامتناع عن إشغاله بأي هموم أخرى جانبية، والأمر الثاني تقديم كل الدعم الصامت الصادق لجبهة المقاومة الوطنية، وهي تستكشف طريقها بصعوبة بالغة نحو الجنوب وسائر المناطق اللبنانية المحتلة. والأمر الثالث الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية جزءاً من معادلة الصراع والوجود في المنطقة لأن ضياع هذه القضية تحت وطأة الانشقاق، كان يشكل في نظره خسارة كبيرة للقضية الوطنية اللبنانية في صميمها. واذا كانت دعوته من هذه الزاوية الوطنية اللبنانية إلى وقف الانشقاق الفلسطيني ووضع حد له، فإنه دعا من الزاوية نفسها كل القوى الوطنية اللبنانية إلى عدم التورط في مواقف تصب ضمن مجرى تصعيد الانشقاق، وكم كان حزيناً وقوع الانشقاق في الساحة الفلسطينية، وشعار لا للانشقاق الذي ظهر على امتداد فترة الاقتتال الفلسطيني المفجع من مجدل عنجر في البقاع الى البداوي في طرابلس، على أنه يتلخص في إحتضان أبو عمار، وسبب ذلك أن المنشقين مصممون كما رأى الجميع بأم العين، على متابعة مسارهم توصلاً إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية المطاف، خاصة أن قيادة فرع البقاع في المنظمة بذل جهوداً مضنية مع أحزاب الحركة الوطنية وقيادتي الجبهة الديمقراطية والشعبية في محاولة اقناع المنشقين وحلفائهم بوقف إطلاق النار، لا سيما حين أصبح القتال يدور في القرى والبلدات البقاعية. لكن قرار المنشقين كان حاسماً لجهة الإصرار على اخراج قوات فتح من البقاع إلى الشمال تمهيداً لإخراجهم لاحقاً من الشمال إلى البحر. لذا لم يكن غريباً أن يظهر موقف أبو خالد والمنظمة في الشكل ، وكأنه موقف مؤيد لياسر عرفات ضد خصومه. لكن حين نعود إلى جوهر الموقف الذي أعلنه أبو خالد من الانشقاق، ندرك الحيثيات السياسية الواضحة التي تؤكد على معالجة الإشكالية الفعلية للثورة الفلسطينية معالجة جادة، والى صون وحدة منظمة التحرير الفلسطينية، والحفاظ على برنامجها الوطني، وقرارات مجلسها الوطني، والدعوة إلى تنفيذ هذه المقرارات. كما كانت دعوته الدائمة ومناداته الدؤوبة بضرورة التمسك بإستقلالية القرار الوطني الفلسطيني لتحقيق أهدافه في التحرير وتقرير المصير وبناء دولته المستقلة.
وظل أبو خالد والمنظمة حليفاً وفياً للمقاومة الفلسطينية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة القائد الكبير ياسر عرفات ومن بعده الرئيس محمود عباس إلى حين وفاته.
أبو خالد أيها القائد الكبير لكم كل الحب والوفاء في ذكرى رحيلكم الأولى.
* مربي ورئيس جمعية الفداء ومدير ثانوية الأدباء في بعلبك ـ لبنان
Leave a Comment