صحف وآراء

في استثنائية فوز اليسار الكولومبي بالرئاسة

*مالك ونوس

فوز المرشّح اليساري غوستافو بيترو في الانتخابات الرئاسية في كولومبيا حدثٌ غير عادي، ليس بسبب الصراع التاريخي الذي خاضه اليسار الكولومبي ضد الحكومات اليمينية المتعاقبة، ولا بسبب استثنائية كولومبيا، الدولة اللاتينية المنكوبة دائماً بالنزاعات والحروب الأهلية وحروب عصابات المخدّرات، بل يتخطى ذلك إلى حقيقة أنّ الذين أوصلوا بيترو إلى الحكم كانوا يناضلون من أجل الحق بالحياة. وتكرِّس هذه الانتخابات المصالحة التي أوقفت حرباً أهلية دامت خمسة عقود. وتعطي الأمل بأن الممارسة الديمقراطية التي شارك فيها الشعب الكولومبي يمكن أن تصبح واقعاً دائماً يعوّل عليها الشعب لتقرير من يحكمه عبر صندوق الاقتراع، لا عبر الانقلابات وقوة السلاح التي عانى منها طويلاً.

ومن نتيجة الانتخابات التي أظهرت الفارق الضئيل بين المرشّحين، الفائز والخاسر، والتي لم تتجاوز ثلاث نقاط، يتّضح أنّ إرادة الناخب الكولومبي، وقدرته على تحقيق ما يريد، تتخطّى الثقل السياسي لأيّ مرشّح، مهما كانت خلفيته الأيديولوجية، إذا لم يتوافق مع قناعاته. فهذا الناخب سبق أن رفض اتفاق السلام الذي وُقِّع سنة 2016 بين الحكومة الكولومبية وحركة المقاومة المسلحة الثورية الكولومبية، اليسارية (فارك)، بنسخته الأولى. وجاء الرفض في الاستفتاء الذي جرى، في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، لأنّ المستفتين رأوه ناقصاً، ولا يكرّس السلام الدائم، كونه لم يتضمّن الآليات الكفيلة بتجاوز سنوات الصراع في البلاد من أجل ضمان عدم تكرّرها. وهو ما أجبر الطرفين على تعديله والاتفاق على النسخة المعدلة، بعد شهر من رفضه.

لا تتّضح استثنائية الأمر إلا بعد استعراض مواقف السياسيين وردود أفعالهم على النتائج، وكذلك تعليقات وسائل الإعلام المختلفة، والتي قالت إنّ فوز غوستافو بيترو في الانتخابات يعدّ تاريخياً كونه أول يساري يشغل هذا المنصب، بعد قرنين من تحكُّم عدد محدّد من العائلات الارستقراطية اليمينية، صاحبة الولاء لأميركا، بهذا المنصب. وقد كان بيترو مقاتل حرب عصاباتٍ يساريٍّاً سابقاً، نشط ضد الحكومات المتعاقبة خلال عضويته في حركة التمرّد اليسارية، حركة 19 إبريل (M-19)، التي تأسّست سنة 1970، للاحتجاج على تزوير الانتخابات الرئاسية التي جرت يومها. وأحرز بيترو النصر في الجولة الثانية من الانتخابات التي جرت، في 19 يونيو/ حزيران الجاري، بفضل تحقيقه نسبة 50.45% من أصوات الناخبين، مسجّلاً الانتصار على رودولفو هيرنانديز، الذي حصد نسبة 47.30% من أصوات الناخبين.

كذلك نجحت المرشّحة لشغل منصب نائبة الرئيس، الناشطة في مجال حقوق الإنسان والبيئة، فرانسيا ماركيز، في هذه الانتخابات، محقّقة الدعم لبيترو في مهامه الصعبة والمحفوفة بالمخاطر والألغام التي يمكن أن يزرعها اليمين المدعوم من أميركا في طريقه، خصوصاً أنّ البلاد شهدت سابقاً تصفية مرشّحين يساريين، حتى قبل خوضهم السباق الانتخابي. غير أنّ بيترو، المخضرم في العمل السياسي، وقبل ذلك في حرب العصابات، والحاصل على الماجستير والدكتوراه في الإدارة، يعدّ رقماً صعباً ليس من السهل تجاوزه بفضل خبرته السياسية والعسكرية، علاوة على أنّه كان عضواً في البرلمان، وشغل منصب عمدة العاصمة بوغوتا، من 2012 حتى 2015.

من جهة أخرى، يكتسب انتخاب بيترو أهميةً خاصة؛ إذ تمكن الجرأة والقول إن انتخابه أنقذ كولومبيا من فوضى كان سيُدخلها فيها المرشّح الشعبوي اليميني المليونير رودولفو هيرنانديز، الذي ينحدر من سلالة الشعبويين الذين يتشبَّهون بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والذين يتباهون بعدائهم للمؤسّسات واحتقارهم النساء، من قبيل الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وغيرهما. وهيرنانديز الذي قاد حملته الانتخابية من مدينة ميامي الأميركية أدار ظهره للمحطات التلفزيونية، والتجأ، متشبِّهاً بترامب، إلى مواقع التواصل الاجتماعي لنشر دعايته الانتخابية عبر أشرطة مصوّرة حمَّلها تصوراته ورؤاه حول جوانب من الحياة والحكم. وهذا الذي سألته إحدى المحطات الإذاعية عن الشخصية التاريخية التي يعتبرها مثالاً له، أجاب بلا خجلٍ: “أنا من أتباع مفكّر ألماني عظيم اسمه أدولف هتلر”، كان قد قال بعد أن أهان عضواً في مجلس المدينة التي كان عمدة لها، سنة 2018: “لقد مسحت مؤخّرتي بالقانون”. ولذلك ليس مستغرباً أن يصرح هيرنانديز خلال حملته الانتخابية عن نظرته الإقصائية والمتحيّزة ضد المرأة، ليقول إنّ على المرأة أن تبقى بعيدة عن السياسية، وأن “تقدّم الدعم من المنزل”.

وللمفارقة، ساهمت شعبوية هيرنانديز في تراجع اليمين التقليدي المحافظ، الممثل بمؤسسة أوريبيسمو (Uribismo) اليمينية، ومرشدها، الرئيس اليميني السابق ألفارو أوريبي، عبر فشل المرشّح المدعوم منهما في الجولة الأولى من الانتخابات بسبب تصويت مناصريه لصالح هيرنانديز. لقد رأوا فيه تطرّفاً يضاهي تطرف أوريبي وأنصار أوريبيسمو. ومع ذلك، لم يمنع هذا الأمر من تحالف الطرفين، في الجولة الثانية، ضد غوستافو بيترو، وهو التحالف الذي لم يوفّق في هزيمة الرجل.

قد يصبح هيرنانديز بعد هذه الانتخابات مجرّد فقاعة، بعدما انتشرت فضائحه عبر وسائل الإعلام، وتبيّن أنّه لم يقدّم أي برنامج متكامل أو تصوّر لقيادة البلاد، سوى وعدٍ واحد، وهو محاربة الفساد ومحاكمة السياسيين الفاسدين وإيداعهم السجن، وهو الذي يخضع للتحقيق حالياً بتهم الفساد. ما يؤكّد ذلك أنّ هيرنانديز لم يحصد في الجولة الأولى سوى 28% من أصوات الناخبين، بينما حصل بيترو على 40%، ولم يصل هيرنانديز إلى نسبة 47.30% من الأصوات في الجولة الثانية، إلا بعد تلقّيه أصوات مرشح اليمين التقليدي المحافظ، الخاسر، فيديريكو غوتيريث، الذي خرج من المنافسة بعد أن حلّ ثالثاً. من جهة أخرى، قد تساهم هذه الانتخابات بتعرية اليمين المتطرّف الذي تمثله مؤسسة “أوريبيسمو” التي كانت طروحاتها النيوليبرالية جاذبةً لعدد من الذين استفاقوا ووجدوا أنفسهم مخدوعين، بعدما لمسوا فشل سياسة أوريبي وخلفائه في الحكم في تحقيق التنمية والسلام، فانقلبوا عليها ليدعموا بيترو. وبهذا تكون قد خسرت مؤيديها الذين انفضّ قسم منهم، أكثر يمينيةً، ليدعم هيرنانديز، وقسم آخر لمس ديماغوجيتها وخداعها وفشلها في تحقيق أمانيه فانبرى لدعم بيترو.

من دلالاتٍ لافتة في هذه الانتخابات تراجع الحضور الأميركي في القارّة الأميركية اللاتينية بعد وصول زعماء يساريين إلى سدّة الحكم في عدد من دولها، والتي توَّجها غوتسافو بيترو بضربته الأكثر إيلاماً حين أفقد واشنطن أكثر البلدان دوراناً في مجالها الحيوي. وستكون الضربة موفقةً إذا ما استطاع بيترو فرض مزيد من الضرائب على الأثرياء، أصدقاء أميركا، وتحقيق العدالة الاجتماعية لكي تصبح البلاد “قادرة على بناء السلام” كما قال. إذ ذاك، قد يتمكّن بيترو من سحب البساط من تحت أقدام اليمين التقليدي، عبر جذب أنصاره إلى البرنامج التقدّمي الذي وعد به من أجل فقر أقلّ وجوع أقلّ والكثير من الحقوق، كما قال.

*نشرت في العربي الجديد في 26 حزيران / يونيو 2022

Leave a Comment