سياسة صحف وآراء

فلسطين في شرانق الواقع المضطرب … ذرى وقيعان ومقاومة

صقر أبو فخر*

ليست الصراعات الحامية المحتدمة في العالم أمرًا غير معهود، فقد كانت موجودة دائمًا بهذه الصورة أو تلك. والصراعات، بمستوياتها المختلفة، أمرٌ بدهي في جميع العصور، لأن العلاقات الدولية، خصوصًا الدول المتجاورة، هي، من بابها إلى محرابها، علاقاتٌ صراعيةٌ ناجمةٌ عن تناقض المصالح الحيوية للمجتمعات البشرية. ربما يسود الوئام بين الدول المتنافسة شوطًا من الزمن، يطول أو يقصُر، لكن التصارع يعود دائمًا إلى الميدان، لأن هذه الحال من طبيعة الأشياء. وحتى الأمس القريب، في حقبة الحرب الباردة، كانت المنطقة العربية تمتلك أهمية خاصة جرّاء وقوعها جغرافيًا عند حدود الاتحاد السوفييتي الجنوبية، وتحيط بإسرائيل إحاطة السوار بالمعصم. وكانت إسرائيل تحتلّ مكانة فائقة الأهمية في التفكير الأوروبي والأميركي، فهي ثروةٌ استراتيجية للولايات المتحدة، وهي الدولة التي أزاحت عن أوروبا عبء المسألة اليهودية. ولا يجوز، بالتالي، إضعافها أو المساس بأمنها على الإطلاق. وفي إمكاننا أن نرتّب الصراعات الدولية الناشبة اليوم، من حيث الأولوية وتأثيرها المباشر في قضية فلسطين، كما يلي:

1- الحرب الروسية – الأوكرانية وعودة الحرب الباردة التي يمكنها أن تتحوّل في سياقها الحالي، وبسرعة، إلى حرب حامية.

2- إيران وبرنامجها النووي والصراع المحتدم مع الولايات المتحدة وإسرائيل جرّاء ذلك، خصوصًا أن إيران خرجت منذ نحو عشرين سنة من نطاقها القومي، لتصبح دولة مركزية تحتاج إلى مجال حيوي لأمنها القومي.

3- الصراع على المحيط الهادئ بين الصين والولايات المتحدة وهو صراع له تأثير جدّي في المنطقة العربية، ولكن بشكل غير مباشر، مع أن الاتفاق السعودي – الإيراني جرى في بيجين (أو بكين) وبرعاية صينية خالصة.

4- العقدة الآسيوية والنزاع الهندي – الباكستاني، ومن الصعب العثور على تأثيراتٍ مباشرةٍ لهذا النزاع في قضية فلسطين.

تغيرت في بلادنا الوقائع و”تشقلبت” الموازين كثيرًا، فقد انتهت حقبة الحرب العربية – الإسرائيلية في عام 1973 التي أعقبها خروج مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي، الأمر الذي أدّى إلى انتهاء التهديد العربي الجدّي لإسرائيل، وإلى انخراط بعض الدول العربية في تطبيع علائقها مع إسرائيل بصور مكشوفة ومخفيّة، وإلى تدهور المكانة الاستراتيجية للمشرق العربي (مصر مثلًا وإدارة الأفارقة الظهر لمصالحها كما ظهر ذلك في بناء إثيوبيا سد النهضة، والعراق وهلهلة المجتمع العراقي بين طوائفه وإثنياته واعتماده الحيوي على إيران في الكهرباء والماء والأمن والسياسة، وكذلك سورية وانشطارها جغرافيًا بين اللاعبين الأربعة: تركيا وروسيا وإيران والولايات المتحدة). هنا، في هذا الميدان، أحاول أن أقرأ موقع فلسطين في سياق هذه التحوّلات التي عصفت ببلادنا العربية، والتي ما برحت تعصف بقضية فلسطين بالتبعية.

لا أمل في التفاوض

تحتفل إسرائيل، في 14 مايو/ أيار المقبل، بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها، وسيُحيي الفلسطينيون، في الوقت نفسه، الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة. إنها حقبة مديدة غمرت المشرق العربي بتحوّلاتها العنيفة. ولعل الحدث الأخطر الذي واجهه المشرق العربي منذ نحو مئة سنة كان انتقال السيطرة على فلسطين في سنة 1917 من الدولة العثمانية إلى الاحتلال البريطاني؛ هذا الحدث الذي مهّد الطريق لتأسيس دولة إسرائيل في سنة 1948 كما هو معلوم. واليهود الذين كانوا أقلية في فلسطين تمكّنوا، لأسباب شتى، من إقامة دولةٍ منيعةٍ في قلب بلاد الشام والعالم العربي. وما حدث آنذاك كان شأنًا خطيرًا قلب الأمور رأسًا على عقب، وأوجد تحدّيًا لا سابق للعرب به، وجعلهم يتصدّون لعقابيله أحيانًا، ويتجنّبون مخاطره أحيانًا أخرى، ويسايرونه من موقع المهزوم لا من موقع المقتدر. لقد مثّل سقوط فلسطين في سنة 1948 تحديًا قوميًا للدول العربية الناشئة حديثًا والضعيفة عسكريًا، وأوجد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وتبعاتها، وفتح الأبواب أمام صراعٍ جديدٍ في المشرق العربي هو الصراع العربي – الإسرائيلي الذي شكّل خطرًا أمنيًا وعسكريًا واستراتيجيًا على العرب، وهذا هو التحوّل الثاني الكبير بعد التحوّل في عام 1917.

ويلوح لي أن قضية فلسطين باتت اليوم عالقة في استعصاء متعدّد الحلقات، فقد انتهى عصر الحروب الكبرى بين العرب وإسرائيل في 1973، ولم يسفر ذلك عن أي تسوية سياسية (مصر وحدها انفردت بالتسوية في 1979). وشارفت حقبة التسويات على الانصرام، من غير أن تشهد فلسطين خاتمةً لآلامها المتمادية، مع أن منظمة التحرير الفلسطينية اجتهدت وجهدت منذ 1974 كي تكون أحد اللاعبين في ميدان التسويات و”السلام”، فلم تفلح، حتى بعد أن صاغت برنامج النقاط العشر في 1974 صعودًا إلى إعلان الاستقلال في 1988. والبرنامج الأول يتضمّن قبولًا مواربًا بوجود إسرائيل، فيما يتضمّن الثاني قبولًا صريحًا بها.

أنهت حرب تشرين (أكتوبر) 1973 فكرة التوسّع الجغرافي الإسرائيلي، لكنها دفعت فكرة التسوية والصلح مع المحتلّ خطوات إلى الأمام، وأنعشت التيارات الإسلامية على حساب القوى اليسارية والعلمانية وأيقظتها من رقادها، ثم أخرجت مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي جرّاء انتهازية الرئيس المصري أنور السادات ومسلكه السياسي المهين. وهذه أمور كلها أدّت إلى إعادة صوغ مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي التي بُنيت على التفوّق والحرب الخاطفة وضرورة نقل المعركة إلى أراضي “العدو”، وحصر الأعداء بمصر وسورية والعراق والفدائيين، فجعلت عناصر الأمن القومي الأساسية مرتبة على النحو التالي: التفوّق والردع والاستيطان وتحييد ما أمكن من العرب من خلال اتفاقات غير مكشوفة. وبقي هذا الستاتيكو قائمًا حتى مؤتمر مدريد للسلام في 1991. آنذاك، كانت القضية الفلسطينية تعاني آثار خروج الفدائيين من بيروت في 1982، وتبدّل موازين القوى العالمية جرّاء سقوط الاتحاد السوفييتي، وكذلك حصار دول الخليج العربي منظمة التحرير الفلسطينية ماليًا وسياسيًا بعد اجتياح العراق الكويت في 1990 ثم إخراجه منها في 1991، وطرد الفلسطينيين من الكويت. وفي المقابل، كانت الولايات المتحدة منتشيةً بسقوط الاتحاد السوفييتي، ومنتفخة بالانتصار على العراق، وتستعدّ لإعلان نظام عالمي جديد تحت قيادة جورج بوش الأب ووزيره جيمس بيكر في ما سُمّي “القرن الأميركي الجديد”. وفي هذا السياق، رغبت الولايات المتحدة، باعتبارها القطب الأوحد، في أن تتعامل مع قضية فلسطين كدولة قادرة على حل الصراعات الإقليمية. لقد صحّ منها العزم لكن الدهر أبى، وفعل مكر التاريخ ما فعل، فانقشع سراب التسوية التي أطلقها اتفاق أوسلو 1993 بعد 14 عامًا من التفاوض غير المجدي عن لا شيء. وأخال أن أي مفاوضات، الآن أو غدًا، ستلقى المصير نفسه إن لم تتغير موازين القوى الإقليمية، وهو ما برهنه بوضوح وجلاء مصير اتفاق أوسلو؛ فقد حاولت منظمة التحرير بشتى الطرق والطرائق، بالسلاح والسياسة، أن تجعل اتفاق أوسلو مدخلًا إلى تطوير دينامية سياسية تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى قيام دولة فلسطينية، لكن هذا المسعى لم يصل إلى خواتيمه، بل دُمِّر إلى حدّ بعيد.

كأنها حرب الاسترداد

هل إسرائيل في مأزق؟ نعم، هذا صحيح. ونحن في مأزق أيضًا. إسرائيل غير قادرة على ضم الضفة الغربية بسكانها، وغير قادرة على ضم الأراضي الفلسطينية بعد طرد سكانها، وغير قادرة على الانسحاب منها كذلك. وما تعرضه إسرائيل يرفضه الفلسطينيون، وما يطالب به الفلسطينيون لا يمكن أن تقبل به إسرائيل؛ إنها تشبه zero sum game. ولم يكن أمام إسرائيل إلا واحدًا من عدة خيارات: إما أن تتخلّى عن الأرض والسكان في الضفة الغربية والقدس كي تحافظ على الطابع اليهودي لها؛ أو تضم الأرض والسكان فتتحوّل دولة ثنائية القومية، وهو خيارٌ كابوسيٌّ ستحسمه الديموغرافيا في المستقبل؛ أو أن تحتفظ بالأرض وتطرد السكان، وهو خيارٌ من المحال تحقيقه في الأحوال الراهنة، أو أن تستمرّ في احتلال الأرض وبناء المستوطنات مع تحويل السكان إلى ما يشبه السود في جنوب أفريقيا وإعطائهم حكمًا ذاتيًا محدودًا، وهو الخيار الذي تعمل إسرائيل عليه بمثابرة. وهنا لا أجازف في القول إن إسرائيل عملت بلا كلل، منذ 1967، وازدادت وتيرة عملها بعد اتفاق أوسلو، على توطين أكبر عدد ممكن من اليهود في الضفة الغربية. وأخال أنها ستسعى في مرحلة آتية إلى التخلص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. كيف؟ بالعثور على بلادٍ جاذبةٍ للفلسطينيين مثل أوروبا وأميركا. إذاً بعد 75 سنة وصلنا، نحن والإسرائيليين، إلى عجزين: عجز الإسرائيليين عن إطفاء شعلة التحرّر لدى الشعب الفلسطيني، وعجز الفلسطينيين عن تحرير وطنهم بالأوراق السياسية والنضالية المتاحة بين أيديهم. وهذه المعادلة تُولّد، ولو نظريًا، إمكان التسوية بين الطرفين. وكان اتفاق أوسلو المحاولة العملية الوحيدة لترجمة تلك المعادلة إلى واقع سياسي جديد. لكنه، على مساوئه الكثيرة، فشل بعد 30 سنة من التفاوض المرّ بعدما تحولت المفاوضات إلى مطالب يعرضها الفلسطينيون على الطاولة فيرفضها الإسرائيليون.

لماذا؟ لأن الصراع في فلسطين حالة خاصة في تاريخ الصراعات في العالم، فهو لا يشبه الصراع الهندي – الباكستاني مثلاً، أو العراقي – الإيراني، أي صراع بين أمتين متجاورتين. كما أنه لا يشبه مسارات حركات التحرّر الوطني المعروفة كالجزائر وفيتنام على سبيل المثال. ففي حالة حركات التحرّر الوطني، تنتصر الثورة حين يصبح الاحتلال مُكلِفًا للمحتل وغير مجدٍ. وفي حال الصراعات الإقليمية، ينتهي الأمر في العادة إما بانتصار أحد الطرفين أو بالتوصّل إلى اتفاق سلام. أما في بلادنا فإن لقضية فلسطين فرادة خاصة، أن الصراع فيها ليس بين دولتين يمكن حلّه بمقادير من التفاوض أو الحروب، بل هو صراع بشري وجغرافي وسياسي وتاريخي وحضاري وقومي، فنحن لا نواجه جيشًا محتلاً كالجيش الفرنسي في الجزائر، أو الجيش الأميركي في فيتنام، بل نواجه جيشًا ومجتمعًا ودولة وعمقًا دوليًا. إنه صراع ممتد في الزمن، ويدور على الأرض الفلسطينية كلها. وإسرائيل، بهذا المعنى، ليست دولة استعمار تقليدية ونقطة على السطر، وهي ليست دولة احتلالٍ وكفى، إنما هي الدولة التي جسّدت خلاص أوروبا من المسألة اليهودية، وكانت الدولة الحارسة للمصالح الغربية الكبرى في هذه المنطقة. وها هي صورة إسرائيل على الأرض الفلسطينية تعكس حقيقتها دولة إخضاع؛ فالجندي فيها يتصرّف كأنه في حرب الاسترداد في إسبانيا Reconquista حيث “الشراكة” بين شعبين مثلًا غير مطروحة قط، وإنما المطروح إزالة “الغرباء” أو إزالة وجودهم السياسي على غرار ما جرى في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا مع السكان الأصليين.

قصارى القول هنا إن إحدى نتائج حرب 1948 كانت خسران الفلسطينيين وطنهم، أما اليهود فتمكّنوا من تأسيس “وطن” لهم. ومع ذلك، ما برحت إسرائيل مصرّة على اعتراف الفلسطينيين بها دولة قومية لليهود وحدهم. وهذه المفارقة عجيبة؛ فإذا كانت منظمة التحرير لا تمتلك، من وجهة نظر إسرائيل، السيادة على الأراضي الفلسطينية، فلماذا إذاً تطالبها إسرائيل بالاعتراف بحقّ اليهود في امتلاك معظم أراضي فلسطين؟ ذلك إقرارٌ صريح بأن مصير إسرائيل مرهونٌ بإرادة الفلسطينيين، على الرغم من التفوّق الإسرائيلي الظاهر، وهو يعني أن اعتراف العالم بإسرائيل، بما في ذلك بعض العرب، الذي كان كافيًا في الماضي، ما عاد كافيًا اليوم، وأن مستقبل اليهود في فلسطين لا يمكن ضمان ديمومته إذا لم تُحل قضية فلسطين حلًا يُرضي الفلسطينيين أنفسهم. وعلى صورة هذا الحل السديمي، يستمرّ الصراع بالدوران في المكان.

الضفة الغربية هي الميدان

مفتاح السلم أو الحرب في فلسطين موجود اليوم لا في مخيمات سورية أو لبنان، مثلما كانت الحال عليه عند انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في سنة 1965، ولا حتى في مخيمات قطاع غزة، بل في مخيمات الضفة الغربية ومدنها وقراها، وفي مدينة القدس وجوارها. هناك يوجد كعب أخيل الإسرائيلي، وهناك يكمن مقتل الاستيطان الذي يُعد، في الفكر الاستراتيجي الاسرائيلي، أحد أهم عناصر بناء “الأمة اليهودية الجديدة”، وأهم عناصر الأمن القومي الشامل، لأن غزّة كانت تعتبر، وما زالت، مشكلة أمنية لإسرائيل وليست جزءًا من “أرض إسرائيل”، بينما الضفة الغربية والقدس تجسدان ميدان الصراع الحالي والنهائي، حيث المواجهة تجري وجهًا لوجه. هناك بالتحديد إما أن يُهزَم مشروع الذروة الإسرائيلي وينتصر مشروع الحد الأدنى الفلسطيني، أو يمتد الصراع في الزمن إلى ما لا نعرف. وعلى تلك الأرض، سيتقرّر مصير قضية فلسطين في هذه الحقبة التاريخية. وسيكون الفلسطينيون في شتاتهم مؤازرين لذلك القسم من شعبهم الذي يتصدّى للاحتلال فوق أرضه مباشرة، وليس عبر الحدود. وهذا تحوّل شديد الأهمية، من ثورةٍ قامت على أكتاف اللاجئين وفي مخيماتهم وعبر الحدود العربية، إلى ثورة تقوم الآن على أكتاف اللاجئين وغير اللاجئين فوق قسم من أرض فلسطين.

وقد بدّل هذا الأمر عناصر القوة لدى الفلسطينيين تبديلًا جوهريًا؛ ففي الماضي، كان الفلسطيني في الضفة الغربية (بما فيها القدس) هو الأقل تأثيرًا في عملية التحرير الوطني قياسًا على الفدائي في مخيمات الشتات وفي القواعد العسكرية عند الحدود. أما اليوم فإن التاريخ الفلسطيني يصنعه الفلسطينيون الموجودون تحت الاحتلال، بعدما تمرّسوا في المواجهة طوال سنين. أما الفلسطيني الذي يعيش خارج فلسطين، خصوصًا في أوروبا والولايات المتحدة وكندا والدول الاسكندنافية، فهو لا يضير الاحتلال الإسرائيلي إلا في حدودٍ يمكن احتمالها. فليقل ذلك الفلسطيني ما يشاء، ويكتب ما يشاء، ويتظاهر كما يشاء، فليس له وزن سياسي حاسم، لأنه ليس لاعبًا على الأرض الفلسطينية. واللاعب القوي هو الفلسطيني الموجود فوق بقاع الضفة الغربية وبين حارات القدس، فيما باقي الفلسطينيين مؤازرون. وعلى هذا القياس، الفلسطيني في تركيا، مهما علا صوته أو تجلجل، لا قيمة جوهرية له، ولا خطر مباشرًا منه. أما الفلسطيني في الضفة فيُحسَب حسابُه بلا ريب.

هزيمة إسرائيل الجزئية في المدى المنظور، وهي أمر غير بعيد الاحتمال، تعني أمرًا واحدًا، إرغام إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، أي قيام دولة فلسطينية مستقلة على الضفة والقدس وقطاع غزة. أما مشروع الذروة الإسرائيلي فيتضمّن تحطيم الوطنية الفلسطينية، وإرغام الفلسطينيين على القبول بالحكم الذاتي المحدود الذي لا يشمل الأرض، بل السكان فحسب، ثم تسويغ المقولة التي يجري زرعها في الوعي الفلسطيني العام القائلة إن الفلسطينيين غير قادرين على هزيمة إسرائيل، وإنهم عملوا وقاتلوا 40 سنة، ولم يبقَ لهم إلا الصدوع للأمر الواقع والإذعان لموازين القوى. ومهما يكن أمر هذه المجادلات، فإن أي تسوية مرحلية لا تلغي الصراع ألبتة، بل تنقله من مرحلةٍ إلى مرحلة، وتخلق طرائق جديدة لإدامة الصراع.

من المقاومة المدنية إلى المقاومة الشعبية

صحيحٌ أن موازين القوى اليوم لا تتيح تحقيق انتصار على إسرائيل، ولا حتى انتزاع دولة مستقلة من طراز ما ورد في اتفاقات أوسلو، لكن حركات التحرّر الوطني تهدف، أول ما تهدف، إلى تغيير الواقع الراهن من حالٍ إلى حال، ومن الستاتيكو قبل التحرير إلى ستاتيكو يتيح التغلّب على مكامن قوة الاحتلال والانتقال إلى التحرير. ومن العجب العُجاب أن هناك مَن يعتقد أن في الإمكان، حتى في ظل موازين القوى الحالية، إرغام إسرائيل على تفكيك الاستيطان، وترحيل المستوطنين، والانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية، ثم إرسال ستة ملايين لاجئ إلى فلسطين التاريخية. وهذا الاعتقاد هو نوع من الخُبال السياسي، إذ يحتاج تحقيقه حربًا ساحقة ماحقة منتصرة، أي هزيمة شبه كاملة لإسرائيل، وهو أمر ليس في الإمكان الوصول إليه اليوم. ومع ذلك ثمّة من يروِّج هذا التصور القيامي، ويبشّر الناس بأن موعد الانتصار يقترب.

وفي الأحوال الفلسطينية الراهنة لا مناص من تطوير الاحتجاجات العظيمة والتضحيات الجبارة للشبان الفلسطينيين، من مقاومة مدنية civil Resistance إلى مقاومة شعبية Resistance Movement لا تلغي العنف من قاموسها، فالمقاومة المدنية هي غير عنيفة تُستخدم في مواجهة الخصم، وتعتمد التظاهر والاعتصام والإضراب والمقاطعة، ويكون القصد لفت الرأي العام والمؤسّسات الدولية إلى الظلم النازل بشعبٍ من الشعوب. أما المقاومة الشعبية فهي شاملة يلجأ إليها الشعب المظلوم، وتتضمّن العنف كالتخريب والدفاع عن النفس بالسلاح. ومن الأجدى لهذه المقاومة التي نتطلع إليها وننتظرها كما ينتظر المؤمنون يوم القيامة أن تتوجّه في نضالها المسلح إلى المستوطنات الإسرائيلية والمستوطنين بالدرجة الأولى، فضلاً عن الجيش والاستخبارات والمؤسّسات اللصيقة بها، لا إلى أي أهدافٍ “مدنية” أخرى؛ فالمستوطنات هي منشآت ذات طابع مدني شكلاً، لكنها تابعة لقوة محتلة ذات طابع عسكري وأمني. والمعروف أن إحدى المهمات الأساسية للجيش الإسرائيلي حماية الاستيطان وتوسيع رقعته، لأن من دون المستوطنات يصبح الجيش الإسرائيلي في نظر حتى حلفائه، جيشًا محتلًا أجنبيًا يحكم شعبًا آخر فوق أرضه. وعلى المقاومة الشعبية الشاملة أن تحوّل الحياة اليومية للمستوطنين جحيمًا، وأن تجعل مهمة الجيش الإسرائيلي، أي حماية المستوطنين، غير ذات جدوى.

في جانب آخر كان هناك دائمًا خطابان في جعبة الفلسطينيين: خطابا المصالح والحقوق. يساوي خطاب المصالح اليوم صفرًا، لأن لا شيء لدى الفلسطينيين ليبيعوه من العالم. في الماضي، كانت لدى الفلسطينيين القدرة على تهديد المصالح الغربية هنا وهناك، حين كانوا حركة تحرّر وطني ذات أسنان، أي بين 1968 و1982. لم يبقَ إذًا غير خطاب الحقوق: الحقّ في تقرير المصير، الحقّ في الحرية، الحقّ في مقاومة الاحتلال، الحقّ في مقاومة التمييز العنصري… إلخ. لكن، ما هو أهم من ذلك كله هو البقاء في المكان، لأن البقاء في المكان، أي في الأرض الفلسطينية، هو المعجزة الفلسطينية، وهو يعني، في سياق هذه المواجهة، التذكير الدائم للعالم كله بأن الشعب الفلسطيني لم يُهزم، على الرغم من موازين القوى المائلة ضد مصلحته، وهو ما برح يشكّل التهديد الدائم والداهم للإسرائيليين ومشروعهم النهائي.

وإذا كانت إسرائيل تدير اليوم ثلاثة أنظمة استعمارية: نظام الأبارتهايد في أراضي 1948، ونظام الاحتلال والسيطرة والتمييز العنصري في الضفة الغربية، ونظام الاسترداد في القدس والضفة الغربية كلها، فهذا يعني أن النضال الفلسطيني يواجه جبهاتٍ متعدّدة. وأي استراتيجية فلسطينية واقعية وعملية وممكنة يجب أن تنطلق من قاعدة تعدد ميادين المواجهة وواحدية الرؤية. وهذا يفترض وجود قيادة فلسطينية واحدة أو موحدة لتنفيذ تلك الرؤية. أما الكلام الإنشائي عن القتال والتحرير والنصر و”لعن سنسفيل اليهود” فما عاد ينفع حتى في التعبئة، لأن التجربة المديدة للنضال الفلسطيني المسلح، والذي لم يصل إلى تحقيق تطلّعاته، ترغمنا على التأمل مليًا، والتفكير بجدّية في استراتيجيات بديلة تأخذ في الحسبان وحدة الشعب الفلسطيني (أرضي 1948، القدس، الضفة الغربية، قطاع غزة، اللاجئون في الدول العربية، اللاجئون في دول العالم)، وتعدد سُبُل المواجهة (لمزيد من التفصيلات في هذا الأمر نظر: عزمي بشارة، صفقة ترامب – نتنياهو، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020، ص 107 وما بعدها). أما الانتصار المرحلي، أي تحقيق مشروع الحد الأدنى الفلسطيني (يتضمن قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وحل مشكلة اللاجئين) فلا يمكن تحقيقه إلا إذا انخراط اليهود المعادون للصهيونية فيه؛ وهذا يصبح ممكنًا إذا تمكّن الفلسطينيون بنضالهم الدائم والدائب من خلخلة المجتمع الإسرائيلي وتوسيع تشقّقاته، ثم عرض مخارج ملائمة على اليهود أنفسهم.

*نشرت في العربي الجديد في 22 آذار / مارس 2023

Leave a Comment