جهاد بزي*
لم تكن مواجهة بقدر ما كانت محاكمة ساحرات. إليز ستيفانيك، من مقعدها العالي في الكونغرس، توجه السؤال نفسه إلى السيدات الثلاث الجالسات قبالة “لجنة التعليم”، كما لو أنها توجهه لتلامذة أذنبوا وعليهم أن يعترفوا بـ “نعم” وإلا فالعقاب.
السؤال الموحد الذي طرحته النائبة الترامبية كان: “هل الدعوة إلى إبادة اليهود تنتهك مدونة السلوك الخاصة بجامعاتكم أو القوانين المتعلقة بالتنمر والتحرش، نعم أم لا؟” المستجوبات هنَّ رئيسات جامعة بنسلفانيا، ليز ماغيل، وهارفرد، كلودين غاي، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا سالي كورنبلوث. لقاؤهن في ندوة أو حتى في مقهى يثير فضولاً حول شكل الحوار الذي من الممكن أن يجري بين الثلاث اللواتي وصلن إلى مناصب كهذه في مثل هذه الصروح الأكاديمية. لكن الجلسة أمام لجنة التعليم في الكونغرس والتي استمرت لأربع ساعات لم تكن للاستماع إلى رأيهن، ولو الأكاديمي على الأقل، في تأثير حرب غزة على “حرية التعبير” في جامعاتهم، وما تفعله هذه الجامعات لصونها في الأزمات الكبرى التي تخضع فيها هذه الحرية “المقدسة” نظرياً للاختبار الحقيقي. الجلسة كانت لاستجوابهن حول ما تفعله الجامعات رداً على “معاداة السامية” و”الدعوة إلى إبادة اليهود” والتي يبدو أنهما متفشيتان بين الطلاب بشدة حتى يضطر مشرّعو الكونغرس إلى استدعاء الجامعات وإقامة المحاكمة العلنية لها.
الساعات الأربع كانت لتمر من دون أن تلقى ما لاقته من ضجة لولا أن ستيفانيك كانت ذكية بما يكفي لأن تحول الجلسة إلى استعراض يكاد يكون بكل تفاصيله الطبق الأمثل لعالم السوشال ميديا. سؤالها الغرائبي لا يمكن الإجابة عليه بنعم أم بلا، بل لا يمكن الإجابة عليه في الأصل. ليس سؤالاً افتراضياً حتى، بل قاطع وحازم في أن هناك طلاباً في أميركا، قد يكونون أفارقة أميركيين، أو يساريين أو ليبراليين، أو مسلمين أو عرباً، وليسوا من البيض المتطرفين، يجاهرون علناً باللاسامية وإبادة اليهود، ولم تسرق كاميرا واحدة هتافهم.
ثم أن أي دعوة إلى أي نوع من الإبادة لا يمكن وضعها تحت خانة التنمر أو التحرش. كان يمكن للأكاديميات الثلاث نقاشها لساعات في سؤالها أو حتى ساعدنها في صياغته كي لا يبدو وصاحبته على هذا الحد من السذاجة. كان يمكنهن أن يشرحن لها كيف أن الأكاديميا ترفض الإجابة بنعم ولا لأن واجبها الأول هو التحفيز على التفكير والتحدي والتشكيك والتجريب والنقاش وعدم القبول بالمسلمات وغيرها مما يعطي لهذا العالم شأناً رفيعاً. لكنها، ومن موقعها السياسي بصفتها ممثلة الشعب الأميركي، كانت تستعجلهن الإجابة على السؤال لكي تنهي مرافعتها بإطلاق حكمها بأن يجب طرد الثلاثة من مناصبهن، وبتهمة تتعلق بالدعوة إلى إبادة اليهود، كفيلة بالقضاء على حاضر أي شخص ومستقبله وماضيه معاً.
الثلاثة اكتفين بجواب مبهم يتعلق “بالسياق”، من الواضح أنه مدروس وموضّب قانونياً مسبقاً. لسن في ندوة وكل كلمة ستحسب عليهن، وهن عالقات بين الترهيب الذي يمارس عليهن، وبين واجبهن في حماية حرية الرأي والمعتقد، وأيضاً في فهمهن المختلف حتماً عن فهم ستيفانيك وزملائها للسامية كما للقضية الفلسطينية.
انتظرت ستيفانيك عدم انصياع التلميذات أمامها لتبدأ بتقريعهن واحدة بعد الأخرى، وتحكم بأنه ينبغي طردهن من مناصبهن. لم تصبر عليهن ليشرحن ما المقصود “بالسياق”. حتى أنها حين قالت لها إحداهن أن حرم جامعتها لم يشهد دعوات إلى إبادة اليهود، ردت ستفانيك: “وماذا عن “انتفاضة”؟ قالت اللفظ بالعربية، فكأنما انقشعت السماء فجأة وسطعت الشمس على وجه الأميركي العنصري الممتلئ بنفسه والذي يحق له أن يعتبر أن كلمة عربية واحدة، ليست “الله أكبر” حتى، هي دعوة إلى إبادة اليهود. هذا الاختزال للفظة العربية، كان يمكن توصيفه في حياة أميركية أخرى بأنه إسلاموفوبيا، أو فلسطينوفوبيا. لكنه يمر في الكونغرس من دون أن ينتبه إليه أحد، بينما تنطلق حملة شعواء على الرئيسات الثلاث ليس بناء على أربع ساعات استماع إليهن، بل على الدقائق القليلة التي لم يسمح لهن بالكلام خلالها.
غني عن القول إن “معاداة السامية” بات تعبيراً مطاطاً إلى درجة مضحكة لكن مخيفة في آن. ومع أنه لطالما كانت مناهضة اللاسامية هماً يسارياً، إلا أن اليمين الأميركي انتهز الحرب لكي يحاول الإطباق على هذه الجامعات العريقة التي باتت وكراً لكل الأفكار والقيم التي يبغضها اليمين. الموجة الأولى من الغضب على الرئيسات الثلاث دفعت بمتبرع رئيسي لجامعة بنسلفانيا إلى سحب المئة مليون دولار هبة لأنه، حرفياً، “شعر بالفزع بسبب تجنب ماغيل الإجابة عن السؤال”. استقالة ماغيل السريعة بدت خسارة فادحة لما تفتخر به الأكاديميا من استقلالية، وهي ترضخ لسلطتي السياسة والمال. تشفت ستيفانيك بأن “واحدة سقطت، باقٍ اثنتان”، لكن رغبتها لم تتحقق. هارفرد، التي تكبر الولايات المتحدة الأميركية بمئة وأربعين سنة، قررت ألا تصغي لإحدى خريجاتها. ساندت غاي وأبقتها في منصبها. كذلك فعل معهد “أم تي آي”.
حافظت الجامعتان على اتزانهما في خضم حالة أميركية يمكن وصفها بالمسعورة في التعاطي مع الفلسطينيين وقضيتهم. حالة توحد فيها معظم الذين على جانبي الممر في الكونغرس، وتوحد فيها جو بايدن مع دونالد ترامب وصحيفة نيويورك تايمز مع قناة فوكس نيوز. هذه الهستيريا العامة ليست حباً بإسرائيل فحسب بل كرهاً بعدوها أيضاً. التبني الكامل لإسرائيل في محرقتها المتصلة منذ أكثر من شهرين هو تبنٍ للثأر والانتقام اللذين ترتكبهما، بصفتهما أميركيين أيضاً. ثمة تماهٍ غير مسبوق. كأنها حرب أميركية بحتة. عدائية أميركية عالية منذ بداية الحرب الحالية ضد مناصري القضية الفلسطينية على اختلاف أطيافهم تذكر بعدائية “الوطنيين” الأميركيين ضد كل من اعترض على حملات جورج بوش انتقاماً من 11 أيلول. عدائية تبرر كل وأي عنف. العدائية التي تبرر تقريع نائبة لثلاث جامعات، كيف يتعامل معها أي عربي في أميركا موشوم على ملامحه أنه معاد للسامية حكماً؟ كيف يمكنه أن يتحرك في حقل ألغام من الكلمات المتقاطعة كلها تحيله إلى أنه يدعو إلى إبادة اليهود، أو أنه، إذا لم يعلن دعوته بالكوفية على كتفيه، فإنه يضمر ما يسعى إلى تحقيقه؟
إليز ستيفانيك هي النموذج الفاقع للعدائية الأميركية ضد كل من يشبه الفلسطينيين أو يناصرهم. وهي تمثل تياراً برمته. لكنها وتيارها، مهما اجتهدا، سيعجزان عن اللحاق بجو بايدن فيما ارتكبه منذ بداية الحرب وحتى الآن. جو بايدن يمثل تياراً بدوره. التياران المتنافران التقيا أخيراً على تفسير كلمة انتفاضة بأنها دعوة صريحة إلى إبادة اليهود، في خضم العدّاد اليومي إياه، ذاك الذي لا يسأم من الارتفاع.
*نشرت على صفحات المدن الالكترونية يوم الخميس 2023/12/14
Leave a Comment