كتب أسامة القادري
فجأة استفاقت السلطة على صوت قعقعة بطون أهل عاصمة لبنان الثانية “طرابلس، مدينة الفقراء التاريخية”، وكأن لا فقراء في لبنان سوى في “عروس الثورة ” التي يزنرها وجع البطالة والجوع وغياب الدولة كما في بعلبك والهرمل وفي البقاعين الغربي والأوسط وقرى الجنوب والجبلين.
وفجأة وفي لحظة مباغتة تشدقت أبواق “المنظومة” وأدواتها وأجهزتها بإتهام “الطرابلسيين البسطاء” بالإسلاموية، تسهيلاً لوصمهم بالارهاب والخلايا النائمة، رداً على اتهام الجياع للسلطة بالفساد. كما تعودوا على صبغ “الفيحاء” بألوان الطوائف، إستثماراً سياسياً، للإمعان قدماً بتعطيل تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلة عن نفوذهم، لمصلحة لبنان بالعلاقة مع المجتمع العربي والدولي والبنك الدولي. وتلبية لمطلب رئيسي من مطالب “انتفاضة ١٧ تشرين”، دون الدخول في سعير جهنم، التي بشرنا بها المعطلون لتحصيل مكاسب آنية ضيقة في لحظة نزيف اقتصادي وامني واجتماعي وطني حاد.
ليس مفاجئاً عبث هذه السلطة بأمن المدينة، استكمالاً ممنهجاً للضغط ،على حساب الوجع المتجذر فيها منذ ما قبل خمسينات القرن الفائت. استعجالاً لمعركة رئاسة الجمهورية ضمن حسابات غرفة عمليات بعبدا، بهدف استكمال حرق كافة الأسماء المحتملة ومن ضمنها اسم قائد الجيش.
فجأة ظهر سياسيوها ومتمولوها، يقفون فوق ركام العوز والبطالة، يشهرون أصابع الإتهام واللوم لفقراء لا حيلة ولا قوة لهم سوى صرخات انينٍ، ورمي حجارة، وأسئلة عن الأسباب التي حالت دون تشغيل المشاريع الحكومية المقررة والمعلقة منذ عقود طويلة، (توسيع مرفأ طرابلس وتشغيل معرض رشيد كرامي الدولي، وفتح مطار حالات)، وتنفيذ مشاريع جديدة موعودة يفترض أنها تواكب التمدد السكاني لمدينة متعبة من الحرمان..
يتحدث ساسة طرابلس كأنهم قادمون من المريخ، وليسوا شركاء في منظومة الفساد والمحاصصة، هكذا تهربوا سابقاً ويتهربون اليوم من مسؤوليتهم عن تبخر الإنماء وهم الذين استثمروا فيه وشاركوا في السلطة من حساب حصة أهل طرابلس. وبالتالي كان “الإنماء” الذي أنتجوه مجرد “توزيعة” على الحاشية والمحاسيب المقربين من القيادات والتيارات السياسية، لاسيما أن القاعدة العامة لهذه المنظومة تقوم على قوائم ثلاث، أمن بالتراضي، انماء بالتراضي وخدمات بالتراضي. وبالتالي يكون الحرمان والفقر بالتوافق والتراضي، بعد أن امسى غياب المواطنة والوطنية بمثابة “أمر واقع” في كنف “المحاصصة”، وأصبح انماء طرابلس ذات الغالبية “المسلمة” مرهون بتنفيذ إنماء مدينة أو منطقة ذات غالبية مسيحية، هكذا ينسحب الوضع على كل المناطق المغبونة في تركيبة السلطة وقواها. هذه العُقد اشتدت وتصلبت أكثر في “العهد القوي”، واحدثت شرخاً وطنياً في دور ومسؤولية الدولة وعززت الإنتماء للطائفة والمذهب على الإنتساب الوطني، فضربت مفهوم العيش الوطني المشترك.
هكذا يُفرز الانماء طائفياً بالتراضي، على غرار ملف كهرباء “سلعاتا”، الذي توكد المعلومات أنه اكبر صفقة تجارية مافياوية، إضافة الى ملف العفو العام الذي لم يصل إلى خواتيم انسانية ووطنية لخضوعه لصيغة التراضي ٦ و ٦ مكرر، وكل ذلك على حساب حق المواطن في فتح الأفق امامه، والسير بمشاريع تنموية تنقذ اللبنانيين من شرنقة دوامة الطوائف ومحاصصاتها.
ليس مفاجئاً بعد عقود من الزمن وفي ظل الحكومات المتعاقبة كافة، حتى منذ ما قبل تولي ابنها الرئيس رشيد كرامي رئاسة الحكومة، أن تتعايش المدينة مع الإهمال والنسيان ومع قطارة المشاريع، لتتحول الى صندوق بريد لكل من يريد بث الرسائل محلية كانت أو إقليمية أو دولية. عبر اجهزة واحزاب وتيارات، تعمل على شد العصب الطائفي، لتحولها الى صناديق انتخابية، غب الطلب لضمان تمديد عمر سلطات المنظومة. كي يبقى انماء طرابلس وبعلبك والهرمل و… مجرد وعود زائفة.
فعلاً نجحت هذه المنظومة انها حوّلت طرابلس “الفقراء” وأهلها الطيبين إلى حزام بؤس، وإلى بؤرة “فتح الإسلام” مرة، و”تدعيشها” ثانية. ودائما كانت تهمة الاسلام المتشدد جاهزة: “قندهار لبنان”، علماً أن عكار هي امتداد لطرابلس، وينسحب الأمر على الضاحية وغيرها من مناطق محرومة كالبقاع المستتبع لذات المنظومة، التي جعلت منه جزيرة للخارجين عن القانون، والمهربين وعصابات التشليح والسرقة، ومزارعي الحشيشة وتجار المخدرات، بغطاء حزبي. حتى أمست هذه المنطقة أسيرة العصابات والطفار الخارجين عن القانون.هكذا تتعمد احزاب السلطة إحداث الفراغ وتغييب الدولة ومشاريعها الانمائية، فيكون أحد ارتداداته أمن متفلت، أو أمن بالتراضي، وربط مصالح الناس بها.
وما ليس مفاجأ بدء ارتفاع صوت الجوع فور توقف الرصاص والقذائف بين جبل محسن والتبانة، وفي أزقة المدينة واطرافها، وبعد أن استنزفوا كل الشعارات، اذا بالناس تخرج لتبحث عن رزقها وترجُم الفقر بحجارة أصابت عسكراً وُضعوا بمواجهتها، هم الآخرين يفتشون عن لقمة عيشهم بين فتات ما تبقى من رواتبهم..
أما الحديث عن أسماء ممولين ومندسين من خارج المدينة فما هو الا إحتيال على المنطق وذر للرماد في العيون، وتبرير للقمع واستعمال العنف المفرط والقاتل بحق المتظاهرين، الذين رفضوا القوقعة في دوامة الذل، واعترضوا على الاستمرار في تعطيل الدستور والمؤسسات. أما حرق البلدية أو جامعة العزم والمحكمة الشرعية، فما هي إلا أفعال موجهة من أجهزة أمنية وحزبية وتيارات سياسية مشبوهة استعجالاً للإنتخابات الرئاسية، ولحرق مراحل، ولدفع الأمور باتجاه عقد مؤتمر تأسيسي لتكوين يترجم سطوة قوى الأمر الواقع الراهنة. وبالتالي تمهيد الطريق نحو تمديد الهيمنة على مؤسسات الدولة ومرافقها الحيوية.
Leave a Comment