علي علوه
قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، والقوى الاشتراكية والتغييرية في العالم في حالة ازمة متعددة الوجوه والاتجاهات فكرية – سياسية إجتماعية – بنيوية وحتى وجودية .
وقد تعمقت هذه الأزمة وتشظت وأخذت أوجها متعددة مع سقوط النظام السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. ومع بلوغ الأزمة هذه المرحلة تميزت ردود الفعل عليها بالكثير من التنوع، كالخروج من المنظومة الفكرية والسياسية ونفض اليد من المسؤولية، وممارسة مراجعات سريعة ومتسرعة،والمكابرة والتمسك بالماضي بكل صلف وديماغوجية، وتنسيب الأزمة إلى الممارسة… إضافة إلى بعض المراجعات الجزئية التي لم تستطع أن تقدم اجوبة مقنعة ووافيه وخصوصا حول أزمة النظرية.
وبذلك دخلت قوى الحركة الاشتراكية في حالة من الارتباك والتخبط والضياع وصولاً للبطالة السياسية. ما أدى إلى تراجع أدوارها وضمور قواها وضعف فعاليتها، بمختلف تنوعها ومشاربها في سائر أنحاء المعمورة. فالاحزاب الشيوعية والاشتراكيه في الكثير من دول اوروبا الغربية حيث كان لها دور وازن في الحياة السياسية: ايطاليا – فرنسا – اسبانيا…الخ. باتت اليوم هامشية وغير مؤثره لا في محصلة تكوين السلطة في بلدانها، ولا في نفوذها من المواقع الاجتماعية والنقابية والثقافية
ولم يكن الحال أحسن في اميركا اللاتينية، فبعدما حسمت دول عديدة السلطة لصالح اليسار وكان نشاطها مؤثرا في بلدان كثيرة أخرى، تراجع دورها وفقدت السلطة والدور ونما اليمين واستعاد السلطة. وانكفأت كوبا للاهتمام بوضعها الداخلى، وفقدت دورها كمرجعية لتلك الحركة الناشطة في القارة، واضطرت لتدوير الزوايا حفاظاً على نظامها وخصوصا بعد أن فقدت السند الدولي ببعديه الاقتصادي والعسكري.
وفي الشرق الاوسط، وبعد اختلال ميزان القوى العالمي لصالح وحدانية السيطرة الاميركية، ونتيجة للدور الذي تلعبه إسرائيل، وخوف النظم الحاكمة في دول المنطقة على مصيرها. لا سيما بعد الاحتلال الاميركي للعراق وتدمير دولته، في موازاة تمدد الدور الايراني على رافعة تصدير ثورته الإصلاحية – الشيعية. وعليه اندفعت الانظمة الحاكمة ذات الولاء الغربي اصلا – لتجديد طلب الحماية من الولايات المتحدة الاميركية ووفق دفتر شروطها، وهي التي تعتمد الكيان الصهيوني وكيلاً حصرياً ووحيداً في المنطقة.
في موازاة ذلك اتجهت القوى المعترضة على الدور الاميركي-الاسرائيلي إلى الخيارات الدينية لتزخيم خططها الاعتراضية، الأمر الذي نتج عنه تضخم دور الميليشيات الشيعية المرتبطة بايران في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن.
حدث ذلك بالتوازي مع انتعاش دور ووزن الفصائل السنية السلفية المتناسلة من حركة الاخوان المسلمين. و في طليعتها كان انتشار تنظيم القاعدة في العديد من الساحات، على رافعة ما كان لها من دور في افغانستان، برعاية اميركية ودعم مالي وتسليحي خليجي باعتبارها خط الدفاع الاول سواء في مواجهة الاندفاعة الايرانية. وهي التي تمكنت من تعزيز مواقع نفوذها وترسيخها في البلدان التي عُرّفت بالهلال الشيعي، وفي بعض دول الخليج ذات البنية المجتمعية المختلطة من السنة والشيعة (السعودية – البحرين وإلى حد ما الكويت). وهي الاندفاعة التي استغلت أزمة الاحزاب القومية في حركة التحرر العربي، التي لن ندخل في زواريبها في كل من العراق وسوريا ومصر وباقي مناطق نفوذها، لأن ذلك يستوجب بحثاً مطولاً ودقيقاً وتفصيلياً ليست هذه العجالة مكانه المناسب.
أمام هذه اللوحة لتوزع القوى، السؤال الذي يطرح نفسه أين هو موقع ودور اليسار بفرعيه القومي العربي والشيوعي؟ خاصة وأن أزمة الجناح الشيوعي في منطقتنا، موصولة بأزمة الحركة الشيوعية العالمية وخصوصا في جانبها الفكري – النظري وحتى العملياتي ـ السياسي. حيث أنه بعد ثلاثة عقود ونصف من زوال الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، لم يتبلور جواب منطقي ومقنع حول ابعاد هذه الأزمة بكل مندرجاتها وانعكاساتها، وخصوصا عند الاحزاب التي كانت وثيقة العلاقة مع الاتحاد السوفياني. والافدح من ذلك أن الهم الفكري النظري غاب عن جميع محافلها في المؤتمرات والأدبيات والحياة اليومية
وما يبرر التشديد على ضرورة البحث الجدي، ليس عمق أزمة النظرية الاشتراكية، في ضوء ما انتهت إليه التجربة التي قامت في الاتحاد السوفياتي وبلدان المنظومة الاشتراكية. ولا في ما كانت تبشر البشرية به، أحزابها من دعاوى اختتام المرحلة الاشتراكية والدخول في تطبيق المرحلة الشيوعيه. ولا في الواقع الذي لم يعد موضع جدال، في أن ما تمّ بناؤه في الاتحاد السوفياتي وسائر بلدان المنظومة لم يكن الاشتراكية. فيما هو نظام راسمالية الدولة التي صادرت فائض قيمة جهد العمال والفلاحين وحولتها امتيازات وزعت بين الكوادر العليا في الحزب وكبار موظفي الدولة. ولذلك لم يكن امراً عارضا في لحظة انهيار منظومة الحزب الحاكم باسم الطبقة العاملة في الاتحاد السوفياتي، والذي فاق تعداده ثلاثين مليوناً من الاعضاء، لم يعثر المراقبين على ثلاثة آلاف عضو يدافعون عن النظام القائم باسمهم. علماً أن الامر لم يختلف في سائر دول حلف وارسو. وقد سبق ذلك تجربة نقابة تضامن في بولونيا واشكاليات البلدان الاخرى.
لا تهدف هذه المقالة ولا تدعي تتبع أو الاحاطه بكل الاشكاليات التجربة على امتداد مساراتها وساحاتها. ولكن هدفها يبقى الإشارة وإيضاح الصورة لصياغة الاسئلة التي يتوجب على جميع اليساريين والتغيريين طرحها، وإن لم تجد لها اجوبة آنية. ولكنها تؤشر لطبيعة المهام المطلوبة ولضرورة إبقاء هذا الهم دائماً آنيا وملحاحاً، لدى الأطر والهيئات المعنية المطالبة بتلمس الاجوبة حول الاشكالية الفكرية – النظرية، التي يجب أن تبقى على جدول اعمال القوى اليسارية مهمة راهنة اولاً، ودائمة ثانياً لتطويرها وتعديلها، وفقا للمتغيرات البنيوية الكبرى في ميادين الراسمالية المتوحشة في طورها الراهن ، وفي ظل ما هي علية من أزمات متصاعدة وصراعات وحروب مفتوحة مرشحة للاحتدام. يؤكدها تجدد وتوسه الحركات الفاشية والعنصرية، وصعود احزاب اليمين المتطرف والامساك بالسلطة في العديد من البلدان الاوروبية. وهو ما يضع قوى اليسار والحركة الديمقراطية في تلك المجتمعات كما في سائر انحاء العالم، ليس امام مهمات الدفاع عن ما حققته سابقاً من مكتسبات، إنما من أجل بقاء مسار التقدم والديمقراطية والتطور الاجتماعي قائماً ومستمراً.
ولا اعتقد أن الحركة اليسارية في بلد واحد تستطيع بمفردها صياغة جواب كاف وواف على هذه الأزمة الفكرية، بالنظر لتنوع وتعدد وتمايز اوضاع المجتمعات والبلدان. ما يعني تعدد المقاربات وصيغ التوجهات الفكرية والبرنامجية، دون أن يلغي ذك أهمية استنباط اطر تعاون وتنسيق بين الاطراف اليسارية التي تحمل مفاهيم ونظم نظريه متقاربة تستند وتستفيد من تجاربها وطموحاتها.
إن الانتقال من تنظيمات واطر ومجموعات ذات توجه يساري إلی بناء يسار فاعل ومؤثر له شرطان اساسيان: اولاهما بلورة الهوية الفكرية. وثانيهما بناء الحاضنة الاجتماعية التي تشكل الرافعة المجتمعية للانتقال للفعل والتأثير.
إن الهوية الفكرية ليست تفصيلاً ولا ترفاً، بل هي شرط ضروري لتشخيص نبض القوى الاجتماعية وفهم واقعها وصياغة وبناء آليات عملها. إن غياب اليسار هوية فكرية ودوراً نضالياً، يبقي التغيير حلماً بعيد المنال.
Leave a Comment