علي نور الدين*
قد يكون عنوان المقال بديهيًا، أو من المسلّمات التي اعتدنا على سماعها يوميًا. ومع ذلك، قد يكون مناسبًا أن ننطلق من هذه الفكرة أولًا، على أعتاب استحقاقات سياسيّة واقتصاديّة داهمة، تتصل بمستقبل كيان الدولة في لبنان. فالعديد من الخيارات التي يقف أمامها اللبنانيون في هذه اللحظة بالذات، تفضي إلى إحدى نتيجتين: إمّا أن يلتحقوا بركب الدول المتفكّكة والمهشّمة في المنطقة العربيّة، أو أن يحافظوا على الحد الأدنى من تماسك دولتهم.
وعلى كل اللبنانيين أن يعرفوا جيّدًا اتصال كل خيار أو قرار يتم اتخاذه اليوم، بمستقبل دولتهم الوطنيّة، وبمصير الأدوار التي يقوم بها القطاع العام في لبنان. وعلى اللبنانيون أن يعرفوا كذلك مصير مجتمعهم إذا تفكّك كيان دولتهم الوطنيّة.
مصير الدولة والعواقب التي لا رجعة فيها
لا يوجد أدنى حد من المبالغة حين نتحدّث عن المخاطر التي تحيط بمستقبل الدولة ككيان واستمراريّة، طالما أنّ نموذج الدول المفكّكة بات حالة تم تعميمها على العديد من دول المنطقة، وطالما أنّ الخيارات الراهنة تقودنا بهذا الاتجاه.
حين تحدّث صندوق النقد الدولي قبل سنة بالضبط عن “العواقب التي لا رجعة فيها” في لبنان، التي ستنتج عن “بقاء الوضع على ما هو عليه”، خصّ بالذكر كل ما له علاقة بمستقبل الإدارات العامّة وخدماتها، وتحلّلها التدريجي. فعلى ما تقول تجربة الأمم التي سبقتنا إلى أزمات من هذا النوع، بإمكانك دائمًا أنّ تعوّض أي نقص بالاستثمارات أو الوظائف، حين تسلك طريق التعافي والنمو. لكنّك إذا قوّضت كيان الدولة، فلا يمكنك أن تستورد دولة أخرى، ولا يمكنك أن تسلك طريق النمو والتعافي أصلًا. هذا ما تعنيه عبارة: العواقب التي لا رجعة فيها.
وفي واقع الأمر، ومن الناحية التطبيقيّة على الأقل، لم يخبرنا علم السياسة حتّى تاريخه عن نماذج أرقى وأكثر فعاليّة من نموذج الدولة الوطنيّة التي نعرفها اليوم، ولم يخبرنا عن شعوب سلكت طريق الرخاء من دونها في التاريخ الحديث. حيثما ذاب كيان الدولة في تاريخنا الحديث، حلّت مكانها الحروب والمجاعات والروابط القبليّة والطوائفيّة، وكل ما يعود بالأمم إلى قرون غابرة. وحين تخسر الشعوب دولتها، فهي تخسر كل شيء. لا يمكنك بعدها أن تحلم بديمقراطيّة أكثر، ولا بعدالة اجتماعيّة أفضل، ولا يمكن أن تطلب حريّةً أو حقوقًا من أحد. حين نخسر الدولة، نسقط من مرتبة المواطنين إلى مراتب الرعايا لدى طائفة أو ميليشيا ما، لا أكثر.
وعلى المستوى السياسي، ثمّة ما يفرض علينا الآن بالتحديد العودة إلى هذه المسلمّات، والإصرار عليها، والتشديد على إثارتها في كل مناسبة. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، انقسم الكثير من اللبنانيين بين خيارين. ثمّة من غرق بحسابات الحروب الإقليميّة واصطفافاتها وأولويّاتها، بشعارات تدرّجت من وحدة الساحات إلى الجبهات المساندة. وثمّة من عاد إلى خصوصيّاته المناطقيّة والطائفيّة، باحثًا عن غطاءٍ يقيه من تبعات الحروب الإقليميّة ونزاعاتها. وثمّة من لم يعد يجد حتّى جدوى من البحث عن ترف سيادة الدولة في هذه المرحلة، وبات يقيّم جدوى أن تدير كل طائفة حساباتها المحليّة بنفسها.
أمام هذا المشهد، وبمعزل عن أحقيّة الأسئلة والهواجس التي تطرحها الجماعات الطائفيّة في لبنان، تهمّشت الأسئلة التي ترتبط بمستقبل الأزمة الاقتصاديّة وأثرها على المصالح المشتركة للجماعة الوطنيّة. كما تهمّشت كل الأسئلة التي ترتبط بمسقبل الدولة أو أدوار القطاع العام، كنتيجة للقرارات التي يتم اتخاذها تباعًا من السلطة السياسيّة.
عمليًا، كان من الممكن أن يتفهّم المرء تهميش هذه الأسئلة، أمام المخاوف الجديّة التي ترتبط بإمكانيّة توسّع نطاق الحرب، والتي قد تترك –سياسيًا وماليًا- تداعيات تطال مستقبل الدولة نفسها. غير أنّ غض النظر عن هذه الأسئلة، يترافق اليوم ـ وربما بالاستفادة من الانشغال بالحرب – مع اتخاذ خيارات حاسمة على مستوى الأزمة الاقتصاديّة. وهذه الخيارات المحتملة، ستحدّد إمكانيّة نهوض الدولة خلال السنوات المقبلة، أو على العكس تمامًا: استمرار تحلّلها وتهشيمها لعقود مقبلة.
تصفية القطاع العام بقرارات حكوميّة متعمّدة
خلال الأيّام الماضية، انشغل الرأي العام بالسؤال عن أثر الزيادات التي أقرّتها حكومة ميقاتي على أجور موظفي القطاع العام، والتي أفضت إلى فك إضراب الإدارات العامّة بشكل مؤقّت. بالنسبة للبعض، كان القرار إشكاليًا لأسباب عدّة: هل على تتحمّل الدولة كلفة زيادات في أجور الموظفين الذين يمتنع معظمهم عن الحضور إلى مراكز العمل؟ وهل تملك الدولة أساسًا إيرادات تكفي لتمويل هذه الزيادة؟ وكيف سينعكس القرار على سياسات مصرف لبنان النقديّة، وعلى قيمة الليرة؟
في واقع الأمر، إشكاليّة الزيادة المحدودة والخجولة كانت أكبر من ذلك بكثير. فحتّى هذه اللحظة، مازالت هذه الزيادات تندرج في إطار المساعدات الاجتماعيّة الخارجة عن أصل الراتب، والتي يتم تقويمها بحسب عدد أيّام الحضور، وهو ما يفترض أصلًا ـ بل ويقونن- وجود إدارات عامّة لا تعمل. بهذا المعنى، نحن أمام حكومة تعامل موظفيها وإداراتها العامّة كمياومين أو مقدّمي خدمات غب الطلب. وبهذا الشكل، يصبح التغييب المتعمّد لتصحيح الأجور شكلًا من أشكال التصفية التدريجيّة للقطاع العام، الذي تحوّلت بعض وزاراته ومنشآته إلى هياكل عظميّة فارغة من الموظفين.
كل ما سبق ذكره، لا يحول دون الاعتراف بوجود مشكلة التسيّب وإقفال المؤسسات العامّة وتردّي خدمتها، بالإضافة إلى عبثيّة السياسات الماليّة التي تتجاهل حتّى اللحظة ضرورة القيام بتصحيح ضريبي يعيد التوازن إلى ماليّة الدولة، ويسمح لها بالقيام بتصحيح شامل للأجور. غير أن الحل لم يكن بتجاهل تصحيح أجور موظفي القطاع العام، بل بتصحيح هذه الأجور وفقًا لخطّة تشمل معالجة الثغرات الأخرى. الحل، كان يفترض أن يبدأ بإعادة تفعيل دور المؤسسات العامّة، لا تصفيتها.
مشروع مصادرة أصول الدولة
غير أن تصفية القطاع العام، يترافق اليوم مع مشروع أخطر بكثير على مستقبل الدولة والمجتمع والاقتصاد في لبنان. يوم الثلاثاء المقبل، من المفترض أن تبدأ لجنة المال والموازنة اجتماعاتها المخصّصة للبحث في مشروع قانون “المؤسّسة المستقلّة لإدارة أصول الدولة”، الذي يفترض أن ينظم استثمار المرافق العامّة لإطفاء الخسائر المصرفيّة. وكما هو معلوم، يفترض أن تحل هذه الفكرة مكان المشروع الأساسي الذي تم إسقاطه خلال الأيّام الماضية، أي مشروع إعادة هيكلة القطاع وتوزيع خسائره على المستفيدين من أرباح المراحل السابقة.
كُتب الكثير عن خطر المشروع المطروح، الذي تؤيّده جمعيّة المصارف والغالبيّة الساحقة من النخبة السياسيّة، بهدف الحؤول دون فتح دفاتر النظام المالي ومعالجة خسائره جذريًا. غير أنّ الأكيد هو أنّ مشروعاً كهذا سيعني أولًا ضرب أي إمكانيّة لنهوض الدولة خلال العقود المقبلة، بعد تجريدها من جميع المرافق العامّة المدرّة للعوائد. بل سيكون متعذّرًا أن تحقّق هذه المرافق أصلًا أي عوائد تُذكر، إذ سيكون لبنان قد سلك طريقًا يستحيل معه توقيع أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أو أي تفاهم مع حملة سندات اليوروبوند، كما سيستحيل بعد ذلك أن نشهد مسار التعافي المنتظر.
بين تصفية القطاع العام، وتهشيم أدوار الدولة، والخلافات السياسيّة حول أصل العقد الاجتماعي الذي يرعى علاقات المكونات الطائفيّة المحليّة، وأمام الحلول الذي تسقط احتمالات نهوض القطاع العام، ثمّة مشهد يقودنا للاعتقاد بأن لبنان متجه للالتحاق بركب المجتمعات البائسة في المنطقة. ورغم أهميّة السجالات التي تثيرها الحرب الراهنة، من الأكيد أن كلفة هذا السيناريو ستكون أكبر بأشواط من أي حرب قد نشهدها خلال الفترة المقبلة، ولا يوجد أدنى مبالغة عند الحديث عن ذلك.
عندها، سيكتشف اللبنانيون ـ بمختلف انتماءاتهم ومن دون أي استثناء- كم أخطأوا حين تجاهلوا الأسئلة التي ترتبط بمصير دولتهم الوطنيّة، تمامًا كما فعلوا عشيّة اندلاع الحرب الأهليّة عام 1975.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأحد 2024/03/03
Leave a Comment