ثقافة

عن عمر الزعنّي وقصائده الممنوعة.. وبَيروته

محمد حجيري*

في كتاب “الحزب الشيوعي اللبناني في أوراق الأمير فريد شهاب” (إعداد حسن خليل وعلي مزرعاني، صادر عن دار الفارابي)، كُشفت عن مستندات فريد شهاب الشخصية المتعلقة بالحزب الشيوعي اللبناني، علماً أن شهاب كان مدير الأمن العام بين العامين 1948 و1958 الشخصية. وظهرت تقارير كثيرة مكتوبة بخط اليد أو مطبوعة على الداكتيلو، وهي عبارة عن تقارير استخباراتية لبنانية عن الحزب الشيوعي ونشاطه ومنتسبيه وإجتماعاته المفترض أنها كانت سرّية. ويصاب المرء بالذهول من كثرة الأسماء والتنويهات على الهوامش، والأسهم والملاحظات. كان رجال المخابرات يعملون لمراقبة التفاصيل المملة لأصغر تحرك يقوم به الشيوعيون بهدف محاربتهم وردعهم، من فلاح في قرية، إلى الشيخ عبد العلايلي.

حين صدر هذا الكتاب وتكشفت أوراق محاربة الشيوعيين، أمنياً وإعلامياً، قلنا أن هذا كان جزءاً من أساليب “الحرب الباردة”، التي لم يكن لبنان بمنأى عنها، بل شكلت بعض فنادقه ساحة لها ولجواسيسها. لكن من يطّلع على كتاب “عمر الزعني: قصائد ممنوعة”، والذي يصدر خلال أيام عن دار “نلسن” و”نادي لكل الناس”، يجد نفسه أمام صورة أخرى لعلاقة الأمن، ليس بالسياسة والأحزاب فحسب، بل أيضاً بالثقافة والقمع والمنع. الكتاب يتضمن مجموعة قصائد مثل “ما بهوى حدّ، ما يغرك تياب، آخر دستور، بيروت، الساعة، الحالة هيه هيه… وغيرها”. وهي تتطرق إلى الواقع السياسي اللبناني البائس والواقع الاجتماعي المترهل والمتحول والمتأثر بمظاهر الحياة المعاصرة والموضة و”التغريب”، ومختومة بختم الأمن العام في خانة “الممنوع” بذريعة أنها تتضمّن كلمات ساخرة وهجائية وانتقادية وسياسية، نجدها الآن بديهية وعابرة ومسليّة…

كانت الأغنية مثل التلفزيون

بالطبع مرّت الثقافة والفنون اللبنانية بمحطات متقلّبة في علاقتها بالرقابة. وحصلت مواجهات وسجالات عبر المنابر والصفحات الثقافية، أكثر من مرّة، حول كتب ومسرحيات وأفلام مُنعت أو تعرضت للبتر والحذف والتشويه. وغالبية المواجهات تأتي على خلفية “المسّ” بالأديان والطوائف أو الذات الإلهية أو شبح التطبيع. وبالعودة إلى أرشيف الممنوعات وكواليسه، يمكن استخلاص فداحة السياسة في لبنان، وفداحة الرقابة والنظام، وفداحة تدخلات رجال الدين في أبسط الأمور، وفداحة الوصاية السورية في زمن غازي كنعان الاستطلاعي.

في ما يتعلق بمنع قصائد الزعني في زمانه، يبدو أن القضية كانت تتعلق بالخوف من الكلمة وصداها. إذ كانت القصيدة أو الأغنية أشبه بمحطة تلفزيونية أو مفتاح لرأي عام، قادرة على تحريك الناس ودفعهم نحو التمرّد والاعتراض والاحتجاج، وحبذا لو يكون كتاب الزعني مفتاحاً أو خطوة أولى لكشف مسار الرقابة في لبنان وما فعلته ومنعته وارتكبته، منذ تأسيس هذه الجمهورية، التي غالباً ما وصفت بأنها جمهورية “الحريات”.

موليير الشرق

على أن سيرة عمر الزعني (1898 -1961) يمكن أن ترسم مآل الأحوال الثقافية والفنية والسياسية في لبنان، بوجوهها وتناقضاتها والتباساتها وزيفها. فبالنسبة للباحث أكرم الريس، “تشكّل نصوص عمر الزعني في هذا المشهد سجلاً للحوادث والتحولات الحاضرة. وارتبط بالأغنية والأداء المسرحي المتقن، فجمع بين الغناء والتمثيل في النوادي والمسارح والصالونات الأدبية، والاسطوانات، والإذاعة، ولاحقاً التلفزيون”. فالشاعر أو القوّال أو الزجال المديني أو القرّادي وصاحب الألقاب الشعبية الكثيرة “ابن البلد”، و”شاعر الشعب” و”موليير الشرق”، ولد في حي البطركية في زقاق البلاط(بيروت)، ينتمي إلى عائلة متديّنة من أصل مصري، والده الشيخ محمد كان صاحب متجر للحبوب في محلة مينا القمح في مرفأ بيروت، ويتبع الطريقة الشاذلية الصوفية. عندما بلغ عمر الثامنة من عمره، أدخله والده الكلية العثمانية لصاحبها الشيخ أحمد الأزهري، ومن زملاء عمر في الكلية، الأديب عمر فاخوري والشاعر عمر حمد والأخوان محمد ومحمود المحمصاني ومحمد عزالدين وعبدالله المشنوق ورياض الصلح وعبد الغني العريسي والدكتور مليح سنو. في العام 1914 تخرج عمر في الكلية العثمانية حائزاً شهادة البكالوريا أو ما يعادلها في ذلك الزمان، وظهر ميله للمطالعة والكتابة منذ الحداثة. بعد تخرّجه، جُنّد في الجيش العثماني وأُدخل الكلية الحربية في حمص حيث تخرج بعد ستة شهور برتبة ضابط إداري، وعُيّن مديراً للإعاشة الخاصة بالجيش في الشام. وبقي في ذلك العمل طيلة الحرب العالمية الأولى، متنقلاً بين الشام والقدس وبئر السبع في فلسطين. لكنه لم يشترك طول تلك الفترة في المعارك الحربية.

عاد الزعني بعد انتهاء المعارك، مارس التعليم في مدارس أهلية عديدة، ومنها الكلية العثمانية التي كان من تلامذتها، والمدرسة التوفيقية التي أسسها الشيخ محمد توفيق خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية في ما بعد، والمدرسة الأهلية لصاحبتها ماري كساب. وكان الزعني بدأ العام 1918 طريقَ الفنّ وموسيقى البزق والشعر الضاحك، وأحيانًا القارص والانتقادي، مع صديقه الشيخ رائف فاخوري… في مسرح الكريستال، قدّم الشيخ رائف مسرحيّة “جابرُ عثراتِ الكرام”، وخلال عرض المسرحيّة بين الفصل والآخر، كان الزعني يصعد إلى المسرح ويقدّم أغنيةً من تأليفه مطابقةً لواقع القصّة وللأحداث التي كانت تمرّ فيها البلادُ آنذاك. وفي العام 1922 عمل الزعني موظفاً كمساعد قضائي في محكمة بيروت البدائية، وفي تلك الأثناء انتسب إلى كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت مستعيناً بمنحة دراسيّة قدّمتها له جمعية “المقاصد الخيرية الإسلامية”. في هذه المرحلة من حياة الزعنّي، نضجت نزعته إلى النظم والتأليف، وبدأت مشواره الهجائي والساخر ومتعدّد الوجوه…

حردان

ففي العام 1926، دُعي إلى إنشاد إحدى قصائده في مسرح سينما الكريستال في بيروت، بدعوة من نقابة الصحافة آنذاك، فأنشد قصيدة يصوِّر فيها تدهور قيمة العملة الفرنسية (الفرنك) بعنوان “حاسب يا فرنك”: “شوف النار الدرب قدامك/ حاسب يا فرنك شد فرامك”… وقد أزعج بها سلطة الانتداب الفرنسي، فأوعزت إلى الحكومة المحلية الى نفيه ونقله من وظيفته في بلدية بيروت إلى وظيفة أخرى في منطقة البترون البعيدة، كذلك أشارت إلى إدارة كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية أن تحرمه من دخول الامتحانات. ويصف الزعنّي واقع حاله وشعوره بالظلم في قصيدة “حردان”: “من وظيفتي فصلوني / من معاشي حرموني / من حفلاتي منعوني / ربع ساعة في الإذاعة / يا جماعة، ما عطيوني / وبتقولوا لي، ليش حردان؟ / اللي بيطبّل أو اللي بيطنطن / صفّى مغنّي، صفّى ملحّن / ولولا منّي، لولا فنّي / مين بيغنّي، مين بيلحّن / في سوريا، وفي لبنان؟”.

بدنا بَحرِية” التي استولى عليها ميشال طعمة!

ولم يزعج الزعني الفرنسيين فحسب، بل أزعج الرئيس شارل دباس، بقصيدة أيضاً، عندما اكتشف عجز دباس عن حكم البلاد بمعزل عن سلطة الإنتداب، رغم إقتناعه بوطنيته وحسه الإستقلالي، فخاطبه على طريقته بأغنية حملت عنوان “بدنا بحرية يا ريس”. كثر لا يعرفون أن هذه الأغنية كتبها في الأصل، الراحل الزعني، في ثلاثينيات القرن الماضي، ولحّنها، ويقول فيها: “… بدنا بحرية يا ريس صافيين النيّة يا ريس بزنود قوية يا ريس أبداً ما تحلس يا ريس…”، ويضيف: “البحر كبير بحرية حمير”، و”الريح معاكس يا ريس والخشب مسوس يا ريس، قاعد ومسرسغ يا ريس لأنك ريس يا ريس”… هذه الأغنية سُلبت وتحولت من أغنية نقدية سياسية الى أغنية فولكلورية لوديع الصافي(سبق أن كتبنا عنها)، ولا نعرف ما الذي دفع بالموسيقار محمد عبد الوهاب الى تلحينها، وما الذي دفع ميشال طعمة إلى توقيعها باسمه وهي في الأساس لعمر الزعني. هذه الأغنية التي نسمعها بصوت وديع الصافي، هي الأغنية التي انتقد فيها الزعني السلطة الصُوَرية لرئيس الجمهورية اللبنانية شارل دباس. وقد استعار فيها المقارنة بين قبطان السفينة (الريّس، باللهجة العامية) ورئيس الجمهورية، كذلك استعان في اللحن والغناء، باللحن الشعبي الذي يخاطب به البحارة قبطانهم.

جدّدلو ولا تفزع

وإذا كان الدباس قد ضاق صدره بنقد الزعنّي، فإنّ الرئيس بشارة الخوري حرص على وجوده معه في معظم المناسبات، وكان معجباً بشخصه وأغانيه، ولقّبه بشاعر الاستقلال بعدما غنّى: “حيّا الله المخلصين / والأبطال اللبنانيّين…/ أجسادهم تحت التراب / أرواحهم فوق السحاب”… ودعا عمر إلى دعم بشارة الخوري ومن ثَمّ الرئيس كميل شمعون. وأُتّهم بأنّه “انقلب من ناقدٍ لاذعٍ الى مدّاح متطرّفٍ”، لكنّه ما لبث أن أصيب بالخيبة. راح ينتقد الرّئيس مباشرةً، هاجياً الإدارة الوطنيّة وَمواسم الانتخابات والرشوة والمحتكرين. ووقع الخلاف الكبير مع الرئيس بشارة الخوري، عندما أقنع النواب بتجديد ولايته لمرة ثانية، بعدما عدلوا الدستور، فجُدّد له ست سنوات، لم يُمض منها في الحكم إلا ثلاثاً. وعلى ضوء ذلك، أنشد الزعني قصيدته المشهورة التي قادته إلى سجن “الرمل”، فقال فيها:

جدّدلو ولا تفزع،

خليه قاعد ومربع،

بيضل اسلم من غيرو،

وأضمن للعهد وانفع،

***

تاري حساب السرايا،

غير حساب القرايا،

في الزوايا خبايا،

وفي الخبايا بلايا،

بين سوء النية،

والمطران فقس المدفع…

ثم صدر عفو جمهوري عنه من قبل الشيخ بشارة نفسه، وذلك بفعل ضغوط الرأي العام اللبناني، فزاره الوزير حبيب ابو شهلا وطلب منه أن يذهب إلى الرئيس ويصالحه، وهكذا كان… ولا ننسى أنّ ثمّة قصيدة أخرى كانت سبباً في سجن الزعنّي، عندما سخر من الواقع المزري لمحدودي الدخل في لبنان، ورفاهية الخيل في إسطبلات الطبقة اللبنانية الميسورة التي كان بعض أفرادها من هواة تربية خيول السباق. يقول في أغنيته “لو كِنت حصان”:

لو كنت حصان شو عَ بالي

أبو زيد خالي راسي عالي

من الهمّ خالي عايش سلطان

لو كنت حصان.

لو كنت حصان في بيت سرسق

باكل فستق باكل بندق

ما كنت بسرق زي الزعران

لو كنت حصان

وأثارت الأغنية ضيق الوزير الراحل هنري فرعون، فتقدّم بشكوى ضد كاتبها الذي سُجن ثلاثة أشهر في سجن الرمل القريب من الجامعة العربية في بيروت.

من قصائد الزعني الممنوعة

بيروت

بيروت زهرة … في غير أوانها

بيروت ماحلاها… وماحلا زمانها

بيروت يا حينها… ويا ضيعانها

تدبل على أمها… وتموت بيروت

1

شرب العرق… لعب الورق

خيل السبق… وصيد الحمام

رأسمال بيروت

لبس الغوى… شمّ الهوا

أكل الهوا… شاغل عقول

شباب بيروت

2

أكل وشرب… ضحك ولعب

بسط وركب.. في التاكسيات

حياة بيروت

الغندرة… والفنكرة

والبهورة… وكثر البسط

هلك بيروت

3

ما في عمل… ما في أمل

برك الجمل… ركب النحس

تجار بيروت

ان كان شفت… ولا عرفت

زفت بزفت… زفت وقطران

أسواق بيروت

4

كونياك أوتار… ونبيذ يومار

ويسكي اسستيوار… وبيرة لاموز

سموم بيروت

دروسي وكوتي.. الشيرا مي

الفلورا مي… والفلور دابور

كافور بيروت

5

البوبلين… الموسيلين

الكريب دوشي… والكريب ساتان

أكفان بيروت

التاكسيات… التراموايات

الفاكونات… سكك الحديد

توابيت بيروت

6

رب السما حامي الحمى

يلطف بنا.. ويحمي العباد

*نشرت في الزميلة المدن الالكترونية يوم الثلاثاء الموافق 2022/10/25

Leave a Comment