سومر شحادة*
حيث التفتَ المرء يرى حروباً مشتعلة، ويرى حصّة المنطقة العربية من الحروب مستقرّة، فإذا ما خفتت حربٌ أو انطفأت، سُرعان ما تشتعل في جوارها حربٌ أُخرى. وأن تكون الحرب موضوعاً في أدب هذه المنطقة، لم يعُد خياراً لدى المشتغلين في الفنون، فمن الصعوبة أن يلتفت الفنّان عمّا يحيط به من اقتتال وحروب.
لم يعد الروائي أو الرسّام يعوز الموضوع، فالحرب، التي ما هي إلّا عنفٌ وشراسة ضدّ دعة المستكين والمستقرّ، تفجِّر مع نشوبها موضوعاتٍ كثيرة. لكن في واقع الحرب، أوّل ما يواجه الروائي – وسواه من الفنّانين – حقيقة أنّ الحرب بدّدت ما سبق وقوعها. إنَّها خطرٌ يضرب العلاقات، علاقات البشر مع بعضهم، وعلاقاتهم مع أمكنتهم، وعلاقتهم مع أنفسهم.
وهذا التخريب أو النسف، كلُّه، لما سبقَ الحرب؛ يحدّد ويرسم ويكتسب تعريفاً، باستخدام بقايا لغة نُسفت، نسفتها الحرب، وبأساليب تلملم أشلاء أساليب قديمة. فالحرب تحضر قيمها معها، وتبتكر لغتها الجديدة. وهذا أمرٌ يحدث في كُلّ مناحي الحياة، حتّى في الاقتصاد، يوجد اقتصاد الحرب، يصنعه الاحتكار والقلّة والتهريب. حتّى إنّ البطل بالمعنى الاجتماعي، أو “المثال”، في وقت الحرب وما يليها، يختلف اختلافاً كلّيّاً عن البطل أو المثال الذي كان سائداً قبل الحرب.
الأدب الذي يُنتَج في وقتِ الحرب، وفي ما يلي وقوع الحرب، أو ما يَعقب انتهاء الحرب؛ يتعامل مع متغيّرات حدثت بصورة أشدّ وأعمق ممّا كان يحدث في أزمنة سبقت وقوع الحرب، حتَّى إنّ الأشخاص الذين يخوضون واقع الحرب، أو يُفرض عليهم، يصير لديهم رأيٌ مغاير في الصداقة والحبّ والأوطان، ويصير لديهم رأيٌ في المستقبل وفي النجاة، كما يكتسبون محاكمات استقطابية، أحياناً قاسية، وأحياناً متسامحة بصورة غارقة في الحنين واللوعة، للأزمنة التي سبقت نشوب الحرب.
بالمبدأ، الحرب حدثٌ عنيف، إلّا أنّ عنفها لا يقتصر على عنف الخارج، بل يطاول عنفُ الخارج الداخل. ويصير مَن يخضع لظرف الحرب مقاداً بنوازعه النفسية أكثر ممّا هو مُقادٌ بالمنطق السببي. فما اكتسبه بالمنطق السببي قاد إلى واقع جنوني هو الحرب. إلى واقع مكروه ومنبوذ وغير إنساني ومتفلّت عن القوانين التي اعتاد المرء التعامل معها.
أخيراً، الحرب تدفع المرء إلى التفكير بنفسه، ليس فقط كي ينجو، وإنّما تدفعه إلى تعريف نفسه من جديد، واكتشاف هويته من جديد، والبحث عن تفسير لما قاده إلى أن يصبح ضحيّة بلا حول أو قوّة. الأسئلة التي يسألها من هو تحت القصف أسئلة بسيطة، لكنّها تحاكي أسئلة الفلاسفة الأوائل، إلّا أنَّها لا تحمل الإجابات التي يحملها ترف الفيلسوف.
بهذه الصورة، يتساءل الفلسطيني الذي خرج من غزّة إلى رفح كي ينجو من آلة القتل الصهيونية المدعومة من عدد من أنظمة “العالم الإنساني”، ووسط تردٍّ عربي غير مسبوق، مع انهيار آمال التغيير بصورة مُبرمة، يتساءل الفلسطيني على الحدود، عالقاً تحت القصف: لماذا يحدث معه هذا؟ ويتساءل مَن هو بالنسبة إلى العالَم؟ ويتساءل “لوين نروح؟” و”ماذا فعلنا؟”. حتّى الطفل يسأل مسعفه إن كانت ساقه المبتورة ستعاود النموّ.
العالم انقطع. وصفُه بالقاسي وصفٌ مُترَف، فالعالم محضُ قسوة. شوارعه خالية إلّا من عربة اسمُها الحرب، عربة تتحصّن بالكراهية والعنصرية، وتتحصّن بقيم الاستهلاك التي وصلت إليها البشرية، قيم فصمت البشر إلى عالمين؛ أحدهما مكتوبٌ له أن يعيش، والآخر مكتوبٌ له أن يموت. والفنّ عالقٌ في هذا البرزخ، يصرخ بصوت الضحية وبأسئلة الضحية؛ يفكّك العجلات التي تسير بالجثث، وعلى الجثث، عجلات العربة الكريهة التي اسمُها الحرب.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 21 شباط / فبراير 2024
Leave a Comment