سياسة مجتمع

عام آخر من الأزمات والتحديات التي تواجه اللبنانيين

زكي طه 

أيام قليلة ويبدأ عام آخر في تاريخ الكيان. سبق ذلك  قبل أشهر نهاية العهد  الأسوأ والأخطر في تاريخ لبنان. وقد خلّف وراءه كم هائل من الازمات المفتوحة.  لا يختزلها فراغ موقع رئاسة الجمهورية، ولا وضع الحكومة المستقيلة العاجزة والممنوعة في آن عن القيام بالحد الادنى من  مهام تصريف الاعمال. بل تشمل ايضاً دور المجلس النيابي الفاقد أصلاً للإرادة والقدرة. وإذا كان تعطيل نصاب عشر جلسات، بعد الاقتراع بالورقة البيضاء من قبل الثنائي الشيعي يحول دون  انتخاب رئيس، فإن رفض الكتل النيابية المسيحية حضور جلساته التشريعية كفيل هو الآخر بالاجهاز على بقايا هذا الدور. وهكذا يكتمل انهيار مؤسسات الدولة، وشلل اجهزتها الادارية، العاجزة أصلاً عن القيام بدورها ومسؤولياتها، في موازاة مسلسل الفضائح المتوالية فصولاً في ساحة السلطة القضائية، وما يقع في امتدادها من تعطيل للتحقيق في جريمة انفجار المرفأ، وعدم البت بمصير مئات  والآف القضايا والملفات العائدة لحقوق المواطنين، عدا المتراكم من ملفات الفساد في سائر قطاعات الادارة العامة وما يجري في السجون من عمليات فرار مشبوهة.

وبما أن الاوضاع الراهنة هي نتاج ازمات الكيان الموروثة حول الهوية الوطنية وموقع لبنان وعلاقته بمحيطه العربي والاقليمي، وطبيعة نظامه السياسي ودوره الاقتصادي. فإنه  من غير الجائز تحميل العهد السابق وحده كامل المسؤولية عما آلت إليه احوال البلد المحكوم منذ عقود، من طبقة سياسية غير مسؤولة وطنياً. ولا ينال ذلك من وصف الوضع الراهن على أنه الأخطر في تاريخه الحديث. كما لا يحول دون القول إنه ليس بمكنة أحد من المسؤولين معرفة كم سيطول ومتى وكيف سينتهي. والسبب في ذلك لا يقتصر على انعدام القدرة والارادة عن الاضطلاع بالحد الادنى من واجباتهم، بانتظار ما ستقرره المرجعيات الدولية والاقليمية من تسويات لأوضاع المنطقة بما فيها لبنان. بل لأن تلك الجهات مشغولة راهناً بأولوياتها، واعادة تنظيم جبهاتها لمتابعة معاركها المفتوحة في سبيل مصالحها السياسية والاقتصادية. ولذلك فإن ما نشهده راهناً من تواصل بين الجهات الخارجية المعنية بالشأن اللبناني، لا يتجاوز الإبقاء على الحد الادنى من المتابعة في ظل الفراغ  القائم، من أجل تنظيم وصول المساعدات التي تحول دون انفجار الوضع على نحو يصعب السيطرة عليه.

يعني ذلك أن إقامة اللبنانيين في جحيم الانهيار ومضاعفاته الكارثية مستمرة إلى أمد غير منظور. يؤكده غرق البلاد في دوامة العجز عن الخروج من أزمة الرئاسة وسط انفلات الصراع حول صلاحيات الحكومة، وفقدان السيطرة على الانهيار المريع  للعملة الوطنية. بالاضافة إلى تصاعد تعقيدات العلاقات بين اطراف الداخل واتساع حدة الخلافات بينها. وإذا كانت إدارة الفراغ  تفترض الكثير من الألاعيب والمناورات. فإنها تتطلب ايضاً الإبقاء على البلد ساحة لتوجيه الرسائل في كل الاتجاهات الداخلية والخارجية. وقد كان آخرها مقتل جندي وجرح آخرين من عديد الكتيبة الايرلندية في قوات الطوارىء الدولية المكلفة حفظ السلام في جنوب لبنان وتنفيذ القرار 1701.

وبصرف النظر عن ملا بسات الحادثة ومضاعفاتها واحتمالات تكرارها، باعتبارها تقع في امتداد خلافات اللبنانيين وسجالاتهم الدائمة حول دور تلك القوات، وتكرار مطالبات بعضهم إعادة النظر به، المرفوضة بالمطلق من قبل حزب الله. وقد أكد قادته هذا الامر عندما نسّبوا الحادثة الاخيرة كما سابقاتها، لـ”الاهالي”، وحملوا مسؤولية حصولها ضمناً لقوات الطوارىء. في المقابل كانت المواقف المستنكرة والداعية لاستيعابها أو لاستغلالها. ومما لا شك فيه أن الحادثة أتت في سياق انسداد الأفق السياسي الداخلي بين اطراف الطبقة السياسية، ومأزق قواها وحاجة كل منها لتحصين مواقعها.

وعلى ذلك كان انفجار العلاقة المأزومة بين التيار الحر وحزب الله، جرّاء مأزق كل منهما. الاول، الباحث عن ضمانات موقعه ودوره بعد نهاية العهد، فيما هو محاصر بعزلة داخلية خانقة، عزّزها فشل رهاناته في الانفتاح على القوات اللبنانية، وعدم نجاح الوساطات مع قطر وفرنسا في الحد من المفاعيل السلبية  للعقوبات الاميركية على مستقبل رئيسه. والثاني، الساعي إلى تكريس موقع الهيمنة والقدرة على التحكم بملفات الوضع الداخلي، في اعقاب انكشاف سلاحه بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي. ولذلك يبدو الآن الأكثر تشدداً في مقاربته للحل الرئاسي والحكومي، وهذا ما يعطي الاعتداء على اليونيفيل أبعاداً خطيرة يصعب تجاهلها راهناً ومستقبلاً، خاصة في ضوء ما تتعرض له مواقعه في سوريا من هجمات اسرائيلية بدعم اميركي وتواطوء روسي، وما يشهده الوضع الداخلي الايراني من انفجار غير مسبوق لأزماته.

وفي امتداد ذلك يُقرأ فشل الاتصالات الخارجية خاصة الفرنسية منها، سواء مع السعودية أو ايران، وسط تصاعد حدة الاشتباك الدولي- الاميركي المفتوح مع ايران، سواء حول ممارسات النظام القمعية في مواجهة الانتفاضة ضده، أو في العديد من ساحات المنطقة المتفجرة. وبما أن النظام الايراني ليس بوارد تقديم هدايا مجانية في صيغة تمرير انتخابات رئاسية في لبنان، دون مقابل يتعلق بملفاته الداخلية والاقليمية، ولأن المبادرات الجدية بشأن التسوية الرئاسية تتطلب موافقة ايرانية واجازة اميركية لها لا مكان لهما حالياً في حسابات الطرفين. كان تأكيد الرئيس الفرنسي، في اعقاب مشاركته في قمة دعم العراق التي غاب عنها لبنان، واعلانه عدم وجود أية مبادرات لعقد مؤتمرات إقليمية أو دولية مخصصة لأزماته.  يعني ذلك أن الفراغ الرئاسي والأزمة السياسية والاقتصادية مرشحان لتمديد مفتوح. وأن مسار الضغوط السلبية التي تتعرض لها الطبقة السياسية اللبنانية إلى تصاعد. وهي لن تقف عند العقوبات المالية، خاصة حيال الاطراف التي تحمّلها الجهات الخارجية، مسؤولية الانهيار وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية، وعمل الحكومة ورفض اقرار الاصلاحات المطلوبة. هذا ما تشي به المواقف المعلنة والصادرة  عن الجهات المعنية بالشأن اللبناني، والتي تكرر المطالبة بتنفيذ الشروط الاصلاحية  وتحديد مواصفات الرئيس والحكم المقبولين لديها.

وبعيداً عن تمنيات الخارج الباحث عن مصالحه، وعن اوهام أو رغبات بعض اللبنانيين، وما يضمره أو يعلنه اطراف السلطة، ورغم ما يُبث ويُنشر في وسائل الاعلام اللبنانية من روايات حول قبول أو رفض اسماء مرشحين محتملين لرئاسة الجمهورية، تبقى من صنع خيال اصحابها. ونظراً لعدم وجود مسعى جدياً للتسوية في لبنان بين الجهات الخارجية المعنية. فإنه لن يكون مستغرباً أن يشهد البلد المزيد من الرسائل المتبادلة، ومن الضغوط الخارجية والتوترات المتنقلة، بالتزامن مع تصعيد الشروط الانتخابية، والاكثار من المناورات السياسية واللعب عند حافة الهاوية. وسط اصرار من سائر اطراف السلطة على استغلال واستثمار معاناة اللبنانيين من مفاعيل الانهيار الذي بات خارج السيطرة، من أجل تغطية سياساتها وتبرير ادوارها التعطيلية وادامة الاشتباكات بينها، بصرف النظر عن الذرائع  المتبادلة.

ومع اطلالة العام الجديد، تتضاعف التحديات التي تواجه اكثرية اللبنانيين الذين تسحقهم مضاعفات الانهيار، ويأسرهم الخوف والقلق حول مصير لبنان المحاصر بالأزمات والمخاطر. وهذا ما يضعهم امام مسؤولياتهم التي فشلوا لغاية الآن في الاضطلاع بها. وامام عبثية ادمان الهروب عبر المشاريع الانتحارية، والإحالة على الخارج  والهجرة إليه. فإن الخيار الوحيد المجدي والمتاح امامهم يكمن في مبادرة  النُخب اللبنانية المتضررة ومعها قوى المعارضة المستقلة بجميع تياراتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، إلى تحمّل مسؤولياتها والاقدام على الحوار، والاستفادة من التجارب السابقة من أجل اللقاء حول برنامج الحد الأدنى الإنقاذي الذي يفتح الأفق لبقاء لبنان وطناً لأبنائه وفتح الأفق نحو إعادة بناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات.

Leave a Comment