وليد جنبلاط*
الكتابة عن المناضل الكبير الراحل محسن ابراهيم لها وقعها الاستثنائي لأنه كان رجلاً استثنائياً بكل المقاييس وفي كل الأوقات. كان شخصية فذة، هادئة، رصينة، مثقفة، وفي الوقت نفسه حازمة وصاحبة رؤية سياسية ووطنية وعربية وفلسطينية.
إرتكز في نضاله الطويل الذي استمر على مدى عقود على الوفاء التام لقضية فلسطين، وحمل لواء الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمها حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. والأهم من ذلك أنه ناضل، على طريقته، من أجل الحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل، للحيلولة دون استثماره من أطراف أخرى، لم تكن تكترث حقاً للقضية بقدر اكتراثها لمصالحها الفئوية.
لقد كان المناضل محسن ابراهيم مناضلاً وطنياً وعربياً وأممياً، يرفع شعارات الإنسانية والعدالة الإجتماعية والمساواة والديمقراطية وإلغاء الطائفية السياسية. وكانت مقارباته للقضايا المطروحة استراتيجية وشاملة لا تغرق في التفاصيل، بل تنطلق من الإعتبارات الكبرى التي كان يجيد قراءتها وتحليلها وتفسيرها.
أذكر علاقته الوثيقة والوطيدة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان يُكن له إحتراماً كبيراً ويتناقش وإياه في القضايا العربية والوطنية وفي مقدمها الصراع مع الإحتلال الإسرائيلي وقضية فلسطين. وكانت ثقته بالراحل محسن عميقة لدرجة أن عبد الناصر أرسل له في إحدى المرات طائرة خاصة لتقله من بيروت إلى القاهرة، للتباحث في المستجدات والتطورات المتتالية. كما أذكر أن عبد الناصر دعاه إلى زفاف إبنته تعبيراً عن الألفة والصداقة العائلية. أحد أبرز اللقاءات التي جمعتهما كانت قبل حرب العام ١٩٦٧ بنحو أسبوع، ولكن الأمور أخذت منحى مختلفاً بعد النكسة.
رافق كمال جنبلاط على مدى سنوات، وقد جمعتهما رؤية مشتركة للبنان جديد، حاولا تغييره من خلال الحركة الوطنية اللبنانية، وأطلقا البرنامج المرحلي في العام 1975 في محاولة جدية وصادقة لتلافي انفجار الحرب الأهلية، ولتحقيق التغيير الديمقراطي للنظام الطائفي اللبناني، ولكن كانت الظروف أقوى منهما فسقط البرنامج مع اندلاع الحرب ولاحقاً استشهاد كمال جنبلاط.
لا يمكنني أن أنسى وقوفه إلى جانبي فـي تلك الأوقـات الصعبـة التي تلت إغتيـال كمال جنبلاط وهو ما ثابر عليه في السنوات اللاحقة. وهو الذي كان أميناً على وصيته وتراثه، وسعى بكل جهده لمواصلة العمل في الحركة الوطنية مصراً على السعي الحثيث لإكمال المسيرة.
لقد تعلمت منه الكثير على المستويين السياسي والشخصي. فخبرته السياسية الواسعة، ورأيه السديد والصريح دائماً، ومواكبته المستمرة مع رفاق آخرين، كانت من العناصر التي ساعدتني على الإنطلاق في العمل السياسي، الذي كان شديد الصعوبة في تلك اللحظة التي تشابكت فيها التعقيدات الداخلية والخارجية، واندلعت الحرب وتوسعت رقعة الإقتتال.
واجه بشجاعة مع رفيقه الشهيد الكبير جورج حاوي كل المشاريع المتتالية لمصادرة القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وارتبطا بعلاقة وثيقة مع الشهيد ياسرعرفات، رمـز الثـورة الفلسطينية والقضية الفلسطينيـة. كمـا كانا قــد واجهــا بشجاعــة مـع كمال جنبلاط الدخول العسكري السوري إلى لبنان سنة 1976 وأدركا مبكراً الأهداف الحقيقية لهذا المشروع وانعكاساته على لبنان والثورة الفلسطينية على حدِّ سواء.
لقد مثّل محسن ابراهيم ذاكرة النضال العربي والناصري والفلسطيني. وهو الذي كان أميناً على تراث اليسار التحرري الديمقراطي التغييري العلماني.
كم نفتقد اليوم رؤيته الثاقبة والعميقة وتحليله المتوازن والشامل … ونفتقد كثيراً وجهه البشوش وابتسامته الخجولة.
رحم الله الرفيق محسن…
*رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي
Leave a Comment