زهيرهواري
بيروت 27 آب 2023 ـ بيروت الحرية
غادرنا ونحن “على الطريق” في الجلجلة التي تلف المنطقة العربية. نلعق جراحنا النازفة دون بارقة ضوء قريبة. غادرنا وغاص في تراب شمسطار البعلبكية التي إليها انتسب وأحب. تركنا نحن زملاءه وتلامذته وقراءه أمام حيرة أسئلة النزول عن خشبة الصليب، حيث طعنات الجنود تتلاحق فتصيب منا الخواصر، ولا نستطيع لها ردعاً أو منعاً من أن تدمي أجسادنا العاجزة. وكلما داوينا جرحاً أصابتنا جراح أعمق وأشد غوراً في أحشائنا.
لن تعيد الكلمات إلى الروح ألق “السفير”، و صاحبها الذي تكسرت أحلامه وأجنحته، ونحن معه، على وقع أوضاع تتردى باستمرار. لم يبق لنا سوى الحنين إلى زمن مضى كان مسكوناً بكل الآمال العراض، في أن يكون لهذه البلاد العربية موقع تحت الشمس على هذه الكرة اليابسة. خابت آماله وأمالنا، وإنكسر حبر القلم مرة ومرات، ومع ذلك قدرنا أن نغالب اليأس. كان يكفي ابن الدركي المتنقل بين ربوع وطننا تبعاً لأوامر الخدمة، التي تنقله من هنا إلى هناك، أن يتعرف على تلك القرى والبلدات بعد أن ترك مسقط رأسه، قبل أن يستقر في الشياح، ويبدأ منها مغامرته عارياً إلا من عزيمته وقراره أن يكون له صوت وسط مجتمع تعلو فيه أصوات النافذين الغُلاة من كل الضفاف. تدرج في مهنة البحث عن المتاعب من مجرد شاب مصحح ومدقق لغوي للمحررين المحترفين، وتنقل من “النضال” إلى “الاحد” و”الكفاح” و”المحرر” و”الحرية” و”الحوادث” و”الانوار” و”الصياد”، حتى ساعدته ظروف عربية ولبنانية وموقع ودور عاصمة حواضره عندما كانت أهم مراكز الاعلام العربي عشية حربه الاهلية أن يؤسس “السفير- صوت الذين لا صوت لهم، جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
صدرت السفير في العام 1974 وكانت المدينة تغلي وتجمح في انتفاضتها. فقد سبقتها حرب العام 1967 بكل ما رافقها من عار وعزيمة، وبرزت ظاهرة العمل الفدائي التي زعزعت أنظمة مأزومة وعاجزة بدليل حرب الايام الستة. وفي رحاب هذه المؤسسة الناهضة تلاقت وتلاقحت أقلام من مشارق البلاد العربية ومغاربها، فكان فيها الفلسطيني والمصري والسوري والعراقي واللبناني أولاً، فتجاوزت ما يمكن تسميته مجرد إضافة مطبوعة إلى قائمة مطبوعات البلد. ومن خلال التزام القضية الوطنية بما هي تجاوز إعاقات نظام الطائفية السياسية، والقومية ممثلة بأبرز حلقاتها القضية الفلسطينية ونصرة ثورتها وشعبها، نجحت “السفير” في أن تنافس على قمة الصحافة العربية واللبنانية. واجهت ليبرالية وتاريخية ونخبوية “النهار” بهذا الالتزام من جهة، وبالعمل المهني المثابر من جهة ثانية، وحجزت لها مكاناً على رأس هذه القمة. كان للبنان حلمه الوطني في بناء دولة متحررة من الطوائفيات والاقطاع السياسي ودولة المزرعة كما عبرت عنه الحركة الوطنية اللبنانية. واندغم هذا الطموح الوطني، بالحلم الفلسطيني الذي حملت دماءه على راحاتها منظمة التحرير الفلسطينية، والذي ظلل روح شباب المنطقة في أن تكون هناك مساحة متاحة ورئيسية للتحرر من التخلف، وبالتالي للصراع مع العدو القومي، وبنهضة تمكن من استعادة التراب السليب. كانت هذه حساباته وحساباتنا. ولكن هذا الحلم انكسر عربياً قبل أن ينطوي سورياً ثم اسرائيلياً، دون أن ترفع بيروت – “السفير” الراية البيضاء، أمام تدفق جحافل الغزو في نزلة السارولا نحو شارع الحمراء وكل مناحي العاصمة.
لم تسلم “السفير” وصاحبها من هذا المنحدر، عندما تقرر أن يكون لبنان والمقاومة الفلسطينية تحت أحكام هذه المقصلة. جرت محاولة لتفجير منزل طلال سلمان ومطبعة الجريدة، وتوجت بتدبير عملية اغتيال نجا منها بأعجوبة، وأحتفظ بعطب دائم في فكه ووسام جراح على صدره. ثم تصاعدت بإيقاف “السفير” عن الصدور بموجب قرار سياسي ـ قضائي، لكن “السفير” لم تحتجب فقد بادرت “بيروت المساء” وامين عام منظمة العمل الشيوعي القائد الراحل محسن ابراهيم إلى تحويل امتياز الأخيرة لها، ما منع تعطيلها وإيقافها عن الصدور، فكان أن صدرت “السفير” باسم “بيروت المساء” طيلة الايام العشرة لقرار التعطيل، ولم تغب يوماً عن قرائها، وهو ما درجت عليه في أشد الساعات إظلاما خلال سنوات الحرب الاهلية والاجتياح الصهيوني.
لكن التحديات التي واجهتها: “السفير” كانت أشد قسوة. بين طغيان الطوائف وقواها وسلطة الوصاية وإنكفاء العمل الوطني اللبناني، والقومي، وتحول فلسطين وثورة شعبها إلى أشتات في هذه الارض البعيدة وتلك، جرى اكتساح مساحات الحرية المتاحة فكان أن رضخت “السفير” للأمرالواقع وللمرحلة بأثقالها، ما دامت السكين على الرقبة. لكن ما يجب أن يسجل لـ “السفير” ورائدها طلال سلمان أنها لم تفرط بما تجمع لديها من أقلام يسارية وديمقراطية تحترف الصحافة من موقع المعارضة. والحقيقة أن طلال سلمان لم يُخرج من كادر مؤسسته قلماً معارضاً ضريبة للآراء التي يعبر عنها، والتي تجاوزت أحياناً كثيرة عملية تدوير الزوايا التي اعتمدها. تدوير للزوايا دون أن يغادر حبر سلمان ذلك الحنين إلى المرحلة القومية والوطنية التي عبرت بقيادة جمال عبد الناصر واحمد بن بلّة وياسر عرفات وجورج حبش وكوكبة المناضلين الكبار. كما لم يشرع قلمه يوما في هجاء هزيمة المشروع الوطني بقيادة كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي وانعام رعد. بالطبع سمح لكل الاقلام التي انتمت لـ “السفير” أن تعبر عن آرائها بحرية ضمن قيد واحد أحد، هو ألا تقوده إلى صدور قرار استخباراتي ثانٍ يقضي عليه بالاعدام على غرار ما تعرض له.
حكاية طلال سلمان طوال 85 عاما من عمره الغني و42 عاماً من اصدار “السفير”، الصحيفة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، هي حكاية هذا الوطن وهذه البلاد باتساعها وتراجيدية قصتها، وصعودها وانحدارها، وهي التي تماوجت بين الاندفاع وكسر المحرمات ووقائع الخسائر والهزيمة التي أطاحت بالجيوش العربية ثم أكملت بتدمير محاولة الخروج الشعبي عليها.. والأمال العريضة بالانتصار على الإعاقات ومسلسل الهزائم . ظلت “السفير” عبر شموع هنا وهناك صامدة، رغم هذا التراجع القاتل لحركة التحرر العربية والحركة الوطنية اللبنانية. ولكن تلك التطورات قادت إلى خمود الفكرة القومية والوطنية لصالح الاستبداد وطغيان الطوائف ومرجعياتها على كل شاردة وواردة، إلى الحد الذي أحصت على الجميع أنفاسهم، وباتت معها ومن خلال أجهزة الاستخبارات تحاكم الناس ليس على الفعل، بل على النوايا أيضاً… كان وأد الديمقراطية والحريات هو المشترك بين الداخل التابع والخارج المتحكم بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة هو كلمة السر، التي مهدت للانهيار العظيم الذي نعانيه في مختلف المجالات والقطاعات عامة وخاصة، وبات أقصى طموح المواطن اللبناني ليس أكثر من تأمين رغيف يومه من الخبز…والعربي أن يمضي ليلته في بيته وينهض صبيحة كل يوم بين أهله وعائلته. وسط هذا التهاوي أو الجحيم كان من الطبيعي أن تحتجب “السفير” عن الصدور في العام 2017 ، بعد أن ضاقت مساحة الحريات حتى الندرة.
ولأنني كنت أحد المساهمين في صدورها على امتداد عقد ونصف العقد، ونسجت صداقات وعلاقات مع رئيس تحريرها وكل الزملاء سواء من أقام في مكاتبها أو عبر صفحاتها، لم أتوجه إلى “السفير” للمناسبة أواسي صاحبها على محنة خسارتها. كان تقديري أن مشروع العمر قد أفلت من أيدي من أصدرها وقادها وعبر بها كالجندي الذي يجتاز خطوط النار وحقول الالغام، فتترك على جسده وفي خاطره ندوباً عميقة. كنت أشعر أن طلال سلمان فقد حلمه الذي ركض كثيراً من أجله وغرق في حبر المطابع من أجل الوصول إليه منذ أن كان فتى في شمسطار… لم أستطع زيارته وأراه منكسر الخاطر باعتباري من الذين عرفوا كم المعاناة التي عاشها لتحقيقه…
رحل طلال سلمان وخسرت “السفير: عميدها ومؤسسها وقائد مسيرتها وكادحها الأول والأكثر عرقاً منا جميعاً. كما فقدت الصحافة اللبنانية والعربية أحد الباقين من أركانها الكبار في زمن عز وجود أمثال هذه القماشة التي عرفها لبنان والدول العربية. يرحل طلال سلمان في زمن الضحالة والتفاهة، حيث يقدم كل من أباطرة السياسة والاعلام والمال نفسه وكأنه مقدس خارج النقد والشبهات لا يُمس أو يُلمس بكلمة أو حتى إشارة، فلكل حصنه الحصين من خلال أتباعه كـ”ربنا الاعلى” المتكبر المتجبر صاحب الذات الالهية والملكوت الاعلى. يرحل طلال سلمان بعد أن كتب صفحات في تاريخ مدينة تتعرض بتاريخها وعمرانها للتدمير والافناء الكامل.
أبو أحمد وداعاً… خسرنا برحيلك أخا وصديقاً وزميلاً كانت تخرج من بين أنامله لغة متدفقة كالينابيع الصافية في زمن التلوث. تتفق معه أو تختلف معه، لكنك لا تستطيع إلا أن تحترم فيه تلك الفروسية البقاعية النادرة… يترجل طلال سلمان عن حصان التعب والكدح والحلم، ويقتنع أنه آن الأوان للنزول عن شجرة العمر المثقل باحترام الكلمة وحق هذه البلاد وهؤلاء الناس أن تكون لهم أوطان يفتخرون بها وتفتخر بأبنائها.
Leave a Comment