زهير هواري
بيروت 23 أيار 2024 ـ بيروت الحرية
ذاب الحراك الطالبي الجامعي في لبنان الذي انطلق مطلع شهر مايو/ أيار الجاري، بعدما شهدت العديد من الجامعات تحركات احتجاجية خجولة ما لبثت أن تلاشت، بينما تابعت الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على غزة برعاية ودعم الولايات المتحدة فرض وقائعها القاسية على الفلسطينيين واللبنانيين وعموم المنطقة العربية. وفي الواقع، لم تكن تلك التحركات التي نظمها طلاب جامعيون في حرم الكليات والمعاهد ذات وزن ملموس، فهي انطلقت أساساً من محاولة عربية لمواكبة الحراك الطالبي العالمي الذي انفجر منتصف شهر إبريل/ نيسان الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وامتد منها إلى الجامعات الأوروبية في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا ووصل إلى أستراليا وغيرها من الجامعات الأجنبية.
الوقفات المتواضعة التي انطلقت تنديداً بحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، والمطالبة بوقف فوري لاطلاق النار جاءت متأخرة عن انطلاقة العدوان، حينها كانت وقائع المواجهة قد تجاوزت زمناً حوالي السبعة أشهر، وقادت إلى مصرع أكثر من 35 ألف شهيد وجرح أكثر من 79 ألف وألوف المفقودين تحت الأنقاض ودمار حوالي 60 في المائة من القطاع بمدنه ومخيماته ومرافقه الأساسية من مستشفيات ومدارس وبنى تحتية وشوارع وبيوت ومحطات تكرير المياه وتوليد الطاقة الكهربائية. وتخللها ما هو أعنف من القصف بما هو حرب التجويع التي عاناها الفلسطينيون في القطاع الذين كانوا يحملون بعض ما تبقى لديهم من أثاث وينتقلون في رحلة ملحمية يزنرها الموت، على عربات تجرها الدواب الهزيلة أو على أقدامهم العارية من الشمال إلى الوسط ثم إلى الجنوب.
وكل ما ترافق مع تحرك الطلاب الجامعيين كان هزيلاً، فالمشاركون في الاعتصامات كان عددهم قليلاً بالمقارنة مع عدد طلاب هذه الجامعات، أو هذه الكلية أو تلك من التي شهدت تجمهراً أمام مبانيها أو في الشوارع القريبة. البيانات التي أصدرها الطلاب باسم “ملتقى الأطر الطلابية” وغيره كانت أسماء على غير مسمى، وركزت على المطالب المعروفة بما هي وقف إطلاق النار ووقف العدوان، ومحاسبة مسؤولي الكيان الاسرائيلي عن جرائمهم، وقطع العلاقات مع الشركات الداعمة للاحتلال، وسحب منتجات الشركات المدرجة في قوائم المقاطعة العربية لإسرائيل من الأسواق.
في أفضل الأحوال، لم يتجاوز المشاركون مئات عدة، ومع بعض المبالغة يمكن القول إنهم تجاوزوا الألف أو الألفي طالب، وهو رقم هزيل بالقياس لعدد طلاب كل من الجامعات اللبنانية واللبنانية الأميركية وبيروت العربية والأميركية واللبنانية الدولية والقديس يوسف وهايكازيان والروح القدس – الكسليك وغيرها. ولدى تقسيم عدد المساهمين في هذا التحرك على الجامعات، يتبين كم كان المشاركون محدودي العدد، وخصوصاً أننا نتحدث هنا عن المراكز الرئيسية في العاصمة بيروت والفروع في بعض المحافظات اللبنانية كطرابلس وصيدا والجبل والبقاع. تجمعت تلك الأعداد دون تحضير مسبق ومعها الأعلام الفلسطينية واللبنانية وبعض الملصقات وهم يرتدون الكوفيات الفلسطينية ويهتفون باللغات العربية والإنكليزية داعين لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر وغيرها من شعارات ثم تفرقوا أيدي سبأ.
إذاً، كان التحرك في لبنان صدى لتحرك عالمي انطلق من جامعة كولومبيا في نيويورك وسرعان ما امتد إلى باقي الولايات. وكانت الشعارات المرفوعة من قبل المتظاهرين الأميركيين هي وقف العدوان ودعم انتفاضة فلسطين وصمودها، وسحب الاستثمارات الأكاديمية مع الجامعات والشركات الإسرائيلية، والضغط على إسرائيل لوقف عدوانها بدلاً من تزويدها بالأسلحة والهبات المالية، فضلاً عن الرعاية السياسية وتغطية جرائمها والوقوف في مواجهة المجتمع الدولي والأممي واستخدام حق النقض الفيتو لقطع الطريق على الحق الفلسطيني في إقامة دولتهم على ترابهم الوطني وعاصمتها القدس. ودخلت أجهزة الشرطة الحرم الجامعي بناء على طلب الإدارات وقوضت الخيام التي أقامها الطلاب وألقت القبض على أكثر من ألفي طالب، مع إضافة عقوبات أكاديمية طاولت الأساتذة وطلاباً منعوا من نيل حقهم بالتخرج وهم في نهاية مرحلة تخصصهم الأكاديمي. وكانت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق، هي من منحت الشرعية الأولى للشرطة عندما طلبت منها دخول الحرم وفض مخيم اعتصام أقامه الطلاب تضامناً مع فلسطين، فيما ساق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتهامات للطلاب بـ “معاداة السامية”. وقبل النجاح في وأد انتفاضة الجامعيين الأميركيين كانت الاحتجاجات قد توسعت إلى جامعات أميركية عدّة، أهمها هارفارد وجورج واشنطن ونيويورك وييل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ونورث كارولينا، ليتخطى الحراك الطلابي لاحقاً حدود الولايات المتحدة ويشمل جامعات عريقة في فرنسا مثل السوربون وجامعات بريطانية وألمانية وكندية وسواها.
لماذا الهشاشة في لبنان؟
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا الهشاشة في لبنان رغم أنه جزء من الحرب المفتوحة ومهدد بالتدمير كما يلوح بذلك قادة إسرائيل. بدا التحرك فاقداً العصب الذي يمكنه من الاندفاع وشق طريقه لأسباب عديدة أبرزها ما يلي:
أولاً: نقل الطلاب الشعارات التي رفعها زملاؤهم في الجامعات الأميركية التي سبقتهم، فقد طالبوا بإنهاء العقود أو الاتفاقيات أو الرعايات المعقودة مع أية شركة مُدرجة على قوائم حركة مقاطعة إسرائيل “بي دي إس”، ومعلنين عن الرفض القاطع لاستضافة أي مُطبّع أكاديمي أو دبلوماسي في حرم الجامعات، بالإضافة إلى زيادة التركيز على القضية الفلسطينية داخل الصفوف ورفض التعتيم عليها. وجرى تغييب هذه القضية عن نشاط وتعبئة الأحزاب منذ أكثر من عقدين من الزمن من جهة ثانية.
ثانياً: لم تكن هناك مقدمات للحراك الطالبي الشبابي على الصعيدين الشعبي والحزبي، فلم تشهد بيروت وباقي مدن المحافظات تظاهرات وازنة رغم مرور أشهر على مذبحة غزة والضفة الغربية، مع ما يشهده الجنوب اللبناني من تدمير ممنهج لقرى الشريط الحدودي مع المستوطنات الإسرائيلية في الشمال. إذ إن التحركات التي عرفها لبنان في غضون الأشهر السبعة المنصرمة كانت رمزية أكثر منها فعلية، واقتصرت على بعض المحازبين الذين ساروا في مواكب صغيرة في شوارع المدينة.
ثالثاً: غلبة الطابع الطائفي والجهوي على العمل القومي والوطني، فمنذ انتفاضات الربيع العربي أي منذ العام 2011 وإلى الآن لم تعرف جامعات المنطقة العربية إلا في ما ندر حضوراً للقضية الفلسطينية التي أسدل الستار عليها لصالح تعبئة وتحريض طائفي وفئوي ومناطقي. ومع أن الإحصاءات أظهرت استمرار تمتعها بحضور وازن، إلا أن الجامعيين لم يظهروا حماساً لاستحضارها. وإذا أردنا أن نتحدث عن لبنان وجامعييه يمكن أن نقول إنه منذ بداية القرن الحالي غلب الانقسام إزاءها على ما عداه.
رابعاً: كانت مساندة حزب الله في حرب غزة خطوة إضافية في مسيرة الانقسام الداخلي والهيمنة على القرار اللبناني، فاللبنانيون يتخوفون من هذه المشاركة التي قد تقود إلى تدمير لبنان في ظل ظروف بالغة الصعوبة على الصعد السياسية والاقتصادية. ويرى قسم من اللبنانيين أن دعم فلسطين وغزة يكون بحماية لبنان وتحصينه وعدم المغامرة بمصيره.
السلاح الجامعي المثلوم
من يعرفون الحياة الطالبية قبل الحرب وحتى خلال سنواتها 1975 – 1990 يدركون أن مصدر قوة طلاب الجامعات قد اضمحل حتى الحدود الدنيا. ففي سنوات ما قبل الحرب كان الانقسام هو بين اليمين واليسار، لكنه الانقسام الذي لا يمنع من قيام تحالفات وتحركات مشتركة في سبيل مطالب موحدة. وكان العصب مركزه الجامعة اللبنانية حيث كلياتها موحدة. وهذه تحصل على دعم من الجامعات الخاصة قليلة العدد، مع أن لكل منها نكهتها الخاصة. فالأميركية أنكلوفونية، واليسوعية فرانكوفونية، والعربية ناصرية، وجامعة الروح القدس مارونية لبنانية. ثم إن الطالب كان يتمتع بحساسية تسييس عالية منذ المرحلة الثانوية، وعندما يدخل إلى الجامعة يلتحق بمن سبقوه من رفاقه وأصدقائه، ويندمج مع التحركات المقررة.
في أعقاب الحرب الأهلية، فقدت الجامعة اللبنانية ما كانت تتمتع به من مميزات. وباتت عبارة عن فروع لكل منها طابعها الطائفي والفئوي الخاص تبعاً للهيمنة على المنطقة التي تتواجد فيها. ففي مناطق هيمنة حزب الله بات التيار السائد هو الحزب مع حركة أمل، وفي المناطق السنية كان تيار المستقبل، وفي المناطق الشرقية القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية والتيار الوطني الحر، وفي الجبل الحزب التقدمي الاشتراكي. حتى أنه لم يعد هناك جامع مشترك بين كل هذه القوى باستثناء الانقسام. وفرضت كل من هذه القوى قوانينها الطائفية على الباقين، ما أدى إلى تحولها إلى سلطة قمعية. فمنذ سنوات مثلاً، منع حزب الله أغاني فيروز في الحرم الجامعي الرئيسي في الحدث، كما جعل من مناسباته الخاصة أمراً مفروضاً على الطلاب والأساتذة.
وهكذا جرت مصادرة الحياة الطالبية. وما ينطبق على الجامعات التي يتوزع طلابها على 45 مؤسسة تعليم عالٍ ينطبق أكثر على الثانويات، التي خرجت من معادلة المساهمة في تفعيل الحياة الطالبية. وخلال السنوات التي مرت على البلاد في أعقاب الحرب الأهلية، لم يشترك طلاب لبنان في تحرك موحد حول أي من الأهداف التي كانت تجمعهم قبلاً. وبالطبع، يجب أن نعطف ذلك على موروثات الحرب والصور النمطية التي غرسها الأهل في رؤوس أبنائهم حول القضية الفلسطينية والآخر أكان مواطناً لبنانياً أم فلسطينياً أم سورياً. وهكذا ترسخ النظر إلى الآخر، كونه مصدرا للريبة، وباتت المعادلة عميقة في الوجدان العام، ما حال دون التفاعل والحوار مع الآخر وعقد الصداقات والتحالفات معه. ثم إنه كان لدى طلاب الجامعة اللبنانية اتحاد موحد هو “اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية”. ومنذ أكثر من عقد من الزمن، لم تجر انتخابات بين طلاب كليات هذه الجامعة تنتهي بإعادة الروح للاتحاد. وهكذا فقدت جموع الطلاب حيويتها الشبابية وحماسها للقضايا الوطنية والقومية في زمن باتت فيه الانقسامات معممة على مختلف الدول التي باتت كل واحدة منها عدة دويلات. وبات الهاجس لدى الطالب العربي إنهاء دراسته والتخرج وتدبير مشروع سفر أو الحصول على عقد عمل في الداخل أو الخارج.
إذاً، كانت هبة طلاب لبنان هزيلة وعلى قياس ما هو عليه الوضع السياسي من انقسام وتمزق. وما أنتجته لا يخرج عما هو عليه المآل المجتمعي في الأحزاب والنقابات والحياة الديمقراطية والتمثيلية وكلها تعاني من أعطاب قاتلة. أما القول من جانب هذه القوة أو تلك أنها تمثل الاتحاد فليس أكثر من مجرد ادعاء لا يعبر سوى عن المصادرة وغطرسة القوة الحزبية. لذلك، تعبر بسرعة مثل تلك الأقاويل ولا تترك وراءها سوى بقاء الوضع على حاله من الضعف والركاكة، ما ينعكس على القضية الفلسطينية والقضايا الوطنية في معظم الدول العربية التي تعاني من انعدام تأثير الشباب الجامعي على وقائع صراعاتها. ولعل ما تشهده دول مثل اليمن وليبيا وسورية ولبنان والعراق وفلسطين ليس سوى البرهان الساطع على الحاجة إلى إعادة ضخ دماء وروح جديدة للخروج من حال الموات إلى آفاق الحياة الواسعة.
نشرت المقالة على موقع العربي الجديد، بتاريخ 17 آيار/مايو 2024.
Leave a Comment