سياسة صحف وآراء

طارق متري لـ”المدن”: طريق الفيدرالية مسدود ومطلوب مشروع وطني

   * دنيز عطالله

يصعب في أزمنة الانقسامات والمعسكرات المتواجهة إيجاد مساحة لكلام يشخّص الواقع بعيداً عن حسابات السلطة والمصالح الصغيرة والعصبيات على أنواعها.

يحاول رئيس جامعة القديس جورج، الوزير السابق طارق متري، من مكتبه في الأشرفية في بيروت، أن يقارب الواقع بعقل بارد و”قلب حار”. فيبدأ الحديث مع الـ”المدن” من غزّة و”جرائم الحرب المتتالية والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب فيها”. يقول “كانت اسرائيل بعد 7 تشرين تتمنى إبادة غزّة والغزيّين. وهو ما ليس غريباً عن تاريخها في التطهير العرقي منذ العام 1948. وهي اليوم، بعد صمود أهل غزّة المذهل، تحوّل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش حيث يفتك الجوع والمرض بالناس ويفتقدون إلى أبسط مقومات الحياة في أيام لا نظير لها في فلسطين والمنطقة”.

ورغم كل ذلك يعتبر أن “اسرائيل، ورغم ما تحاول أن تقوم به في الضفة من مواصلة الاستيطان وقضم الأراضي الفلسطينية، عجزت عن منع القضية الفلسطينية من أن تصبح حاضرة في وعي الشعوب والحكام”.

لبنان والحرب
ومن غزّة إلى لبنان والخوف المقيم من توسّع الحرب بعد قصف الضاحية الجنوبية واغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر، يقول متري: “لن نصل في المدى المنظور إلى الحرب الشاملة، أقله بالإرادة المعلنة للطرفين. إسرائيل لا تستحق أن نثق بها، لا سيما مع التناقض الكبير بين السياسيين والعسكر، وكذلك الموقف الملتبس للإدارة الأميركية الذي يفتح مجالاً لتقديرات متباينة، وإن كانت تؤكد أنها تريد تجنب حرب إقليمية واسعة، وهناك تفاوض حقيقي مع إيران. وفي هذا السياق، موقف حزب الله أوضح. فهو يعلن أنه مساند لغزّة، ومتى توقفت الحرب عليها يتوقف.
ومع ذلك، مهما كانت العمليات مضبوطة ومدروسة، فإن كل الحروب قد تنحرف عن مسارها في لحظة ما وخطأ وسوء تقدير.

  • يعتبر بعضهم أنه كان بامكان لبنان تجنب الدخول في هذه الحرب

– باستثناء أهل الجنوب، فإن اللبنانيين يستأنفون حياتهم بشكل طبيعي. وما نسمعه من ديبلوماسيين همساً وجهاراً أنهم يريدون تجنيب لبنان حرباً مدمّرة. واللبنانيون ليسوا طلاب حرب، بما في ذلك جمهور حزب الله. لكن الحزب، بتكوينه، يحتل العداء لإسرائيل مكانة عليا في سلم قناعاته. وهو يعتبر أن شرعية سلاحه تأتي من حماية لبنان من عدوان اسرائيلي.

  • لكن هل ساهمت الجبهة اللبنانية في التخفيف عن غزّة ومساندتها؟

لا يتردد متري في الإجابة: “هو سؤال يحتمل إجابات عدة، ولن أجازف بالإجابة عليه لأني لست الجهة الصالحة لذلك”.
ويصف اقتراح بعضهم إرسال الجيش إلى الجنوب لوقف الحرب بـ”الكلام غير الواقعي”.

ديبلوماسية جديرة باسمها

  • ألم يكن لبنان قادراً على إفادة غزّة أكثر بالوسائل الديبلوماسية مثلاً

– كان يمكن أن يكون لبنان مفيداً لغزّة لو كان لدى لبنان ديبلوماسية وسياسة خارجية جديرة بهذا الإسم. وهذه السياسة تحتاج إلى ثلاثة شروط غير محققة، أولها أن يكون اللبنانيون مجمعين على الموقف من إسرائيل وأن يتضامنوا مع شعب فلسطين، وأن يكونوا متفقين بحكمة على ضرورة تجنيب لبنان الحرب.
مع الأسف، لم يبقَ من رصيد لبنان في الخارج إلاّ بعض شفقة. يقولون لبنان “خربان” فلمَ نضيف إليه خراباً؟ وهذا يتحمّل مسؤوليته السياسيون بكل اتجاهاتهم. فالاعتراض لا يصنع سياسة. فلا تكفي المعارضة من دون مشروع وطنيّ. وأي مشروع وطني هو الذي لا يقوم إلاّ على معارضة حزب الله؟

الفيتوقراطية والمشروع الوطني
يقر متري بقوة حزب الله بسلاحه “لكنه أيضاً يمثل فئة من اللبنانيين ولديه احترام جمهوره ومحبته ومؤيدوه لأسباب عديدة. وهو في الحياة السياسية الداخلية أقوى من كل خصومه. وهذا قبل 8 تشرين. فلماذا يتصرفون اليوم وكأنهم تفاجأوا بقوة حزب الله؟ هو قويّ من يوم تكرّست الفيتوقراطية (Vetocracy). فالحزب يمنع تأليف حكومة ويمنع انتخاب رئيس ويمنع عقد جلسة حكومية أو حتى تعيين مدير عام. بالتالي، اختل التوازن التقليدي، وصرنا في دولة ضعيفة.

  • أي صار الحزب أقوى من الدولة؟

– صار أقوى من اللادولة.

  • وهل من إمكانية بعد للعودة إلى الدولة والخروج من هذه الأزمة؟

– هناك ثلاث قضايا مرهون بها مستقبل لبنان. أولها إعادة بناء الدولة على أسس حديثة وليس كما تم ويتم التعامل معها كغنيمة يتقاسمها الأقوياء، حتى ضعفت مؤسساتها وماتت. وثانياً، ضرورة أن تتوقف الهجرة، فلبنان بلد طارد لأبنائه لانهم لا يجدون مستقبلاً لهم فيه. وثالثاً، وجوب أن يستعيد لبنان دوراً كان له عربياً ودولياً، قد نتفق أو نختلف على أهميته، لكن كان له دور. تآكلت صورة لبنان في الخارج بعد أن كانت رصيده الفعلي. وتحت هذه العناوين تندرج الكثير من الأفكار والسلوكيات.

لا يفوت متري أن يشير إلى أنه “من الصعب على من كانوا سبباً في وصول لبنان إلى هذه الأزمات أن يكونوا  جزءا من حلّها”. يضيف “المطلوب مشروع وطني حقيقي بنص سياسي واضح، غير انتقاد حزب الله، وإن كان يمكن أن يكون النقد جزءاً من المشروع”.

  • كان هذا جزءاً من دور المسيحيين في لبنان

– كأني بهم قد تخلوا عن دورهم. صارت الهموم فئوية، وهذه لا تطعم الناس خبزاً ولا تحسّن المدارس ولا تبني المؤسسات أو الجيش أو القضاء أو تطور الدولة.

هناك تيارات عند المسيحيين إما تهاجر أو تنكفئ عن المشاركة بصنع مصير جميع اللبنانيين. الانكفاء لا يعني قدرة على صنع مصير للمسيحيين. من يعجز في هذه يعجز في تلك. كان البطريرك صفير يقول “ما هو خير للبنان، خير للمسيحيين”.

الفيدرالية ونرجسية الفروقات
يراهن متري على الجيل الشاب “الذي فيه بذرة المواطنة الحقيقية وينظر لنفسه كمواطن”، ومع ذلك يبقى قلقاً من أن يصابوا “بعدوى العصبية الطائفية التي تنتقل كالمرض تماماً”. ويقلق أكثر من “بعض الطروحات التي تدعو، على طريقة أبي نواس، بالمداواة بالتي كانت هي الداء وهذا تخريف”.

  • هل يندرج تحت هذا التوصيف الطرح الفيدرالي؟

– نعم. فهل من الممكن في بلد صغير، فيه هذا الحجم من الاختلاط، أن يقرر طرف واحد اعتماد النظام الفيدرالي. جميعنا ننتمي إلى هويات متعددة. وتوهّم كل طائفة أن لها مجتمعاً بثقافة واحدة تميّزه عن ثقافة الآخرين غير واقعي وأساسه مترجرج. هناك بعض العبارات التي يستخدمها لبنانيون من أصحاب الطرح الفيدرالي والانكفاء والانفصال، متحدثين عن غياب أوجه الشبه بين اللبنانيين. أتمنى لو يبحثوا عن أوجه الشبه وسيتفاجأون بحجمها. في بعض هذا الكلام ما كان يسميه فرويد “نرجسية الفروقات الصغيرة”. الناس أحرار بأفكارهم وعواطفهم، ولكنني أظن أن طريق الفيدرالية مسدود.

فشل دول المشرق

  • ماذا عن دول المنطقة؟ هل ستتشظى الدول إلى كيانات وكانتونات يغلبها الفقر والتخلف من سوريا إلى العراق و…

– ليس بالضرورة أن يكون ذلك. صحيح أن اليوم في سوريا يوجد 3 دول. ولكن لا الكانتون العلوي نقي ولا السني، ربما الكانتون الكردي يمكن أن يوصف كذلك. هذا لا ينتج عنه إلّا المزيد من الفقر والمآسي والاضطراب والفقر والتخلف. مشروع الدولة فشل فشلاً ذريعاً في المشرق العربي.

  • وهو ما تتحمل مسؤوليته الأنظمة الديكتاتورية العسكرية

–  المسؤولية مشتركة بين الأنظمة الديكتاتورية العسكرية، التي تتحمل الجزء الكبير من المسؤولية، وبين المجتمعات الضعيفة المنقسمة والمفككة، التي ينخر الفساد مؤسساتها، وتنظر إلى الدولة كغنيمة تتقاسمها.

يقظة القوميات
يتابع متري أحوال العالم و”يقظة القوميات” من “الهند التي تتماهى اليوم مع الهندوسية وتعتبر غير الهندوس مواطنين درجة ثانية، إلى دول البلقان التي تفككت الواحدة تلو الأخرى، إلى يقظة العصبيات التي تفكك المجتمعات وتضعف الدول. ونشهد في أوروبا اليوم بروز هذه العصبيات بذريعة الهجرة، لاسيما هجرة المسلمين التي شكّلت وقوداً للتطرف اليميني وكراهية الأجانب. يتفاوت ذلك طبعاً بين بلد وآخر. فالعلمانية في فرنسا تحولت إلى دين جديد متوتر ومعادٍ، وأقرب إلى الدين النافي للأديان الأخرى، وليس هذا حال ألمانيا مثلاً ولا السويد ولا بريطانيا”.

يتشعب الحوار مع الدكتور متري، ويطال تفاصيل كثيرة قد تكون مؤجلة إلى زمن “عقلاني” ومنطقي آخر.

* نشرت على موقع المدن الالكتروني بتاريخ 1 آب 2024   

Leave a Comment