مجتمع

صيدا والجهاد المتأخّر ضد المايوه!

دلال البزري*

نحن في العام 1961. عمري تسع سنوات. نسكن وأهلي في صيدا، في بيت جدّي القديم. بينه وبين رمال البحر جادّة رياض الصلح. نقطعها بملابس السباحة، على أكتافنا مناشف. لسنا وحدَنا. الشاطئ يضجّ بروّاد، أطفال وشباب وشابّات، رجال ونساء. أبي بطل سباحة. يصل إلى الزيرة (الجزيرة الصغيرة) بدقائق. يحكون عن مآثره. أنقذَ عديدين من الغرَق. كل يوم من أيام أواخر الربيع وأوائل الخريف، يوقظنا من النوم باكراً، لننزل معه إلى البحر ونسبح. المياه باردةٌ للحظة، ثم ننسى أنفسنا. والنزهة تتكرّر بعد الظهر، قبل الغروب، مع إخوتي وأبناء عمّي.

بعدما سكنّا في بيروت، صرنا نحضر إلى صيدا ونحن مستعجلون للإرتماء في البحر المواجه لبيت جدّي. مع أننا كنّا، في بيروت، نسبح يومياً في المدينة الرياضية، ونتدرّب على يد الأستاذ جان بتراكيان. ولكننا نضيق بصرامته وبرائحة الكلور. فتكون صيدا وبحرها … آه! كم كان بحرُها عطراً، فسيحاً، حرّاً. نعود إليه بلهفة المشتاق. نتبارى على من يسبح حتى الزيرة، نصل إليها لاهثين. وعندما تعلو الأمواج، يكون ذلك من حظّنا، من أننا سوف نطير معها، نصعد عالياً، ونناور مع تيارات المياه، فندوخ وتسري في أنوفنا تلك الرائحة، رائحة اليود اللاسعة العذبة.

وفي هذا الوقت، كنّا نصوم رمضان، نحتشم، يقرأ لنا أبي سوراً قرآنية قصيرة، نحتفل بالفطر والأضحى في أراجيح منصوبة على واجهة بحرنا. بقيتُ هكذا عشر سنوات، أتنعَّم بخيرات صيدا البحرية، حتى تزوّجت، وانتقل البحر إلى بيروت.

تغيّر شاطئ صيدا شيئاً فشيئاً. تركته الحرب الأهلية في أيدي المليشيات. والغزو الإسرائيلي دمّر محيطه من البيوت، وقرّر القيّمون تبليط مساحة منه. فتوسّعت الطرقات، وأقيم “الكورنيش البحري”. وابتعد البحر عن بيت جدّي. وبعد ذلك، بيع هذا البيت لمقاول أقام بدله عمارة شاهقة “سوبر ديلوكس”. ومنذ تلك الأيام أخذ بحر صيدا وجهاً آخر، تسلّل إليه الإهمال، والعقلية الجديدة، التي درج على وصفها بـ”الإسلامية”، أو “المتشدِّدة”. وفي السنوات العشر الأخيرة على الأقل، هُجِر بحر صيدا. مع أنه “مسبح شعبي”، أي مجّاني. وإذا ارتاده أحد، أو مجموعة صغيرة، فلا يكونون إلا من الرجال، من لابسي المايوه الرثّ، أو مجرد سرْوال. … الآن، بعد مضي أكثر من قرن. غابَ بحر صيدا عن مدينته، وأصبح مكاناً خطيراً.

سيدة صيداوية، اسمها ميساء اليعفوري، صاحبة نشاط في مدينتها. عضو لجنة مهرجانات صيدا. تتّجه إلى ذاك البحر المهجور، مع زوجها. إنهم وحدهم في هذا البحر. تتعرّض لحادثة، لا نعرف إن كانت مسبوقة. تروي أن شيخاً ظهر على الشاطئ، اسمه عبد الكريم علّو، معه شيخ آخر. يقدم نفسه على أنه يقوم بواجبه، أي”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، يأمرهما بمغادرة الشاطئ، قائلاً “إن لباسها (المايوه) حرام شرعاً ولا يراعي تقاليد المدينة، هذا عُرفٌ، ونحن من يضع الأعراف هنا”. ثم خيّراها، هي وزوجها: “إمّا أن ترحلوا خلال عشر دقائق أو ما بتعرفوا شو بيصير (يحصل)”… وتتابع السيدة ميساء، أنه بعد انقضاء هذه الدقائق، حضرت مجموعة من أكثر من 15 شابّاً، “تحلّقوا حولنا وبدأوا يرجموننا كالشيطان بعبوات المياه البلاستيكية المعبّأة بالرّمل والكرات التي كانوا يلعبون بها أو بتقاذف الرمل بأقدامهم”. مع سَيل من الكلام موجّه لزوجها: “بدك تتشكّى عليّ للبلدية؟ هيك عم تقلِّل من احترامي! نحنا ما منخاف من حدا بدك تبعت (ترسل) الدولة إبعت (أرسل)”. ثم يأمرهما بالذهاب إلى صور أو الرميلة، جنوباً أو شمالاً.

يتصل زوج ميساء بأحد أعضاء بلدية صيدا للمساعدة في حلّ الأمر، فيكون جواب الأخير الإيعاز بالانصياع لطلب الشيخ وفرقته ومغادرة الشاطئ. ويخرجان منه. وتكون تظاهرات وتظاهرات مضادّة تتدخّل البلدية لوقفها، وترفع لافتة كبيرة عند مدخل الشاطئ: “التقيد باللباس المحتشم ومنع إدخال المشروبات الروحية”. أي في سياق ما نحن بصدده، اللباس غير المحتشم هو مايوه النساء. فالشيخ لم يعترض على مايوه زوج ميساء. وما كان ممكناً أن يحصل هذا كله، لو كان هذا الأخير يسبح وحده بالمايوه الخاص بالرجال، أو بالسروال.

وكان ذلك انتصاراً للشيخ و”جماعة الأمر بالمعروف.”.. فأقاموا صلاة الجمعة على الشاطئ. صلاة الانتصار على المايوه النسائي، استغفروا فيها الله من “لابسات المايوه”.. وأطلق أحد الشيوخ العنان للأوصاف إياها: أن لابسات المايوه “من أهل العري والفسق والفجور”، وأفتى آخر بأن “السباحة تحدٍّ لله”. أما نائبا المدينة، فلم يتفذْلكا، ونطَقا بالكليشيهات الرخْوة المعروفة. النائب عبد الرحمن البزري: “صيدا للكلّ”. النائب أسامة سعد: “لطالما احترم الصيداويون التنوّع الديني والثقافي والاجتماعي”.

ولم يختلف كثيراً “اللقاء العلماني” الذي عُقد بعيد الحادثة؛ حشدَ وجمعَ 24 جمعية وهيئة علمانية، وأصدر بياناً على القدر نفسه من العموميات البائتة من نوع: “الدولة العلمانيّة الديمقراطيّة”، “دولة العدالة الاجتماعيّة”، “العلمانية هي نظرة شـاملة”، “ضد أي تمييز طائفي”. ويتابعون غزلهم بأنفسهم حول “تراكمات” أحرزوها سابقاً، “في الوعي والعمل”. وكان الأجدر بهذا “اللقاء” أن يخرُج من تعابيره الجاهزة. ألا يتباهى كثيرا بـ”التراكم”، فما شهدناه في صيدا هو العكس. العلمانية لم تراكم. إنما تراجعت. وصارت مرادِفة للـ”كفر”، وفي صلب عداوات الشيوخ “الفكرية”. وعندما يُخرج هؤلاء امرأةً من الشاطئ بالذي رويناه، يعتبرون أنفسهم منتصِرين على العلمانية. والشيوخ أيضاً، بموقعتهم هذه، بدوا مفَوَّتين عن زمنهم، خارجين منه، متأخّرين. خذْ تعبيرات “إسلامهم”. تبدو أقل إحكاماً وحذاقة من أي إسلام سياسي آخر، محلياً، كان أو “إقليمياً”.

في الشقّ المحلي، أي الإسلام الشيعي، المتمثل في حزب الله، والذي لا يبتعد عن شاطئنا بأكثر من مائة كلم، بدا هذا الإسلام السني على صورة أبناء طائفته؛ هزيلا وناعِسا. فيما يخوض أصحابُه الجهاد ضد المايوه، كان دعاة نظيره الشيعي، وعلى لسان شيخ أيضاً، يتحدّون لبنان وإسرائيل بمناورة عسكرية ضخمة، منظّمة، هي فعلاً نتيجة “تراكم”. وهم أيضا، حلّوا مسألة المايوه، بأن سمحوا به على شواطئهم، كما سمحوا بالبوركيني والحجاب، وكامل الثياب … إنه “شاطئ صور” الشيعي الجنوبي، الذي عناه الشيخ المعتدي.

وفي الشقّ “الإقليمي”، بدا شيوخُنا بعيدين سنواتٍ ضوئية عن نظرائهم السُنّة. تركيا التي يحكمها حزب إخواني، منذ عقدين، ولخمس سنواتٍ مقبلة، أنظر إلى شواطئها … أو مصر التي قضت على “إخوانها”، وأبقت على سلفيةٍ دينيةٍ سلوكية، فكانت معركتها أخيرا السماح للابسات الحجاب والبوركيني والمايوه بالسباحة في المنتجعات الراقية كافة. فيما السعودية تعدّ في “نيوم” مشروعاً سياحياً ضخماً على شاطئها الشمالي الغربي، يُسمح فيه للنساء بلبس المايوه. وليس من المستبعد، بعد تحقيق هذا المشروع، أن تطلّ حركة نسائية سعودية تطالب بإجازة المايوه على شواطئ جدّة وغيرها.

ونحن لم نتكلم عن شواطئ “الطوائف” اللبنانية الأخرى، فالصيداويون المقتدرون من محبي السباحة، وعدم الكشف عن سيقان نسائهم على شواطئ صيدا، تجنّباً للمعايرة، يهاجرون إلى الشواطئ الشمالية، في الرميلة والجية، المسيحيتَين، القريبتَين، كما أمرَهم الشيخ المعتدي. والميسورون من بينهم بنوا في حدائق فيلاتهم أحواض سباحةٍ تعفيهم من مشَقّات الأنظار والطريق.

ثلاث فئات متضرّرة من هجمات الشيخ، وإذعان البلدية والنواب: مسيحيو صيدا، الذين لا تعنيهم إيمانياً أوامر الشيخ، فقساوستهم وزعماؤهم ليسوا أبداً بهذا الوارِد. المسيحيون، إذن، يليهم الفقراء، القدماء والجُدُد، الذين لا يملكون ثمن بنزين سيدفعونه لبلوغ شواطئ، ولو مجّانية … وأخيراً النساء. إذ يبقى الشاطئ مفتوحاً لرجال، من دون زوجاتهم، أو بناتهم، أو أخواتهم. أي أن جهاد مشايخنا موجّه ضد المسيحيين، والفقراء والنساء. وبهذا فإنهم لا يختلفون عن بقية الأحزاب الحاكمة إلا بأسلوبهم الفضائحي، النزِق، المتأخّر المسْتعجل.

*نشرت في العربي الجديد في 1 حزيران/ يونيو 2023

Leave a Comment