صبا مدوّر
لا يبدو أن للحرب في أوكرانيا أو تداعياتها نهاية قريبة أيا كان شكلها، ولا يبدو أن التفاهم الغربي مع إيران يمكن أن يمضي بسلاسة سواء حول الاتفاق النووي أو أي ملف آخر، وقضايا المنطقة المشتعلة غير مرشحة للهدوء قريباً، فالعراق يمضي بشكل متسارع نحو العنف الشامل، واليمن عاجز عن تمديد الهدنة، ولبنان ربما يعيش شهوره الآخيرة قبل إعلان الإفلاس، وسوريا كما هي، منقسمة وتعتاش اطرافها على قوة أو ضعف الآخرين. باختصار، كل الملفات مفتوحة على نار متوقدة، مع تلميحات واضحة بأن الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل.
هذا الصراع متعدد الأوجه والمستويات له أسبابه، وما بعده لن يكون بالتأكيد كما قبله، لكن ما يهمنا فيه، ليس فقط أننا جزء من عالم يمكن أن تبيده حرفيا، حرب نووية كونية باتت أكثر واقعية لأول مرة على الإطلاق، بل ما سيحصل لمنطقتنا التي يبدو أنها أصبحت في مركز الصراع وعين العاصفة، وتعقدت ملفاتها الداخلية والإقليمية بالاستناد للصراع الدولي، والضرب الجاد تحت الحزام بين القوى الكبرى دون حساب للمخاطرة الفعلية بتصعيد لا يمكن حساب مداه.
وأول ما ندركه من هذا الأفق السوداوي، هو أن الصراعات المعروفة سياسيا وطائفيا وعسكريا لم تعد منفتحة على تسويات ممكنة، في المدى المنظور على الأقل، وأنها في مرحلة تصاعد متسارع، وكل ما فيها مرشح ليتحول إلى عنف دامي، يشمل الجميع بلا استثناء. هذه الملفات تشمل لبنان، والعراق، واليمن، كما تشمل إيران وأذرعها الإقليمية وفي مقدمتها حزب الله مع اسرائيل، ولن يكون أي بلد في المنطقة بعيداً عن الشظايا أو التداعيات.
في هذا المناخ الملتهب، ثمة فرصة، يمكن أن تكون مخرجا من الأفق المسدود لسوريا، حيث تكون الأزمات الكبرى مقدمة لتسويات كبرى تشملنا كما تشمل سوانا، وحينها، ستجد سوريا نفسها على الطاولة، غير مركونة في زاوية مظلمة تنتظر جلاديها كل يوم.
لكن هذا المستوى من التسويات، ليس مجانيا، وسيكون كالعادة لصالح طرف على حساب آخر، وهنا لن يحصل السوريون على مقعد مع المنتصرين أو حتى مع الضحايا، لو ظلوا خارج حسابات الصراع، وبالتالي حسابات التسوية، وسيكونون مجرد نتيجة عرضية، وضحية للسلام، كما كانوا من قبل ضحية للحرب.
تجنب مثل هذه النتيجة سيحتاج إلى الانخراط أكثر في سياقات الأحداث الراهنة، لتشكيل رقم سوري، في معادلات المنطقة، فالبقاء على أبواب الآخرين، لن يقدم غير وعود وأماني ومصير لا يختلف عما واجهه سابقون صاروا جندا للآخرين، فلمّا حان موعد جني ثمار التسويات، كانوا خارج الحسابات أو أنهم حصلوا على الفتات، وتاريخ منطقتنا حافل بذلك، منذ ثورة الشريف حسين في الحجاز حتى اليوم.
أدرك أن الأمر صعب وعصيب، وأن وضع المعارضة السورية في أسوأ حالاته، انقساما وتشرذما، لكن في النهاية هناك طرف أو أكثر تتعامل معه القوى الدولية والإقليمية من بين هذه المعارضة، وهو من يجب أن يتصدى لترتيب سياق سوري ضاغط، سياسي أو مسلح، لا يكون رهينة لأحد، ويمكن أن يحظى بمقعد على الطاولة عندما يحين موعد التسويات.
مثل هذا الهدف، لن يكون غير واقعي، فهو ما زال بالمتناول، برغم الوضع الذي آلت له المعارضة السورية، وحضور فصائل متطرفة على الأرض تزيد من تعقيد المشهد والفرص، إلا أن القدرة على المناورة ما زالت قائمة، لا سيما في المساحات الواسعة التي باتت تفصل بين الأطراف المتصارعة، ونذكر هنا إيران وروسيا من جهة، والعالم الغربي من جهة أخرى، ولن يكون معقدا بالطبع معرفة الطرف الذي يمكن أن ينحاز له السوريون في هذا الصراع بمواجهة النظام وداعميه.
لقد أثبت الاعتماد على مسارات أستانة والمفاوضات العقيمة للجنة الدستورية، وانتظار بعث القرار 2254 من الموت، مثل هذا النمط السياسي لن يفضي إلى نهايات ذات معنى، إن كانت له نهاية أصلا، وتغيير المقاربات صار واجبا وطنيا وأخلاقيا، ليس فقط لإنقاذ الوضع الراهن لملايين السوريين، بل لإنقاذ مستقبل سوريا، ومحاولة ترتيب وضع إقليمي مناسب لها في خضم ترتيبات محتملة لن تنتظر أحدا، أو تحترم ضعيفا.
هذه الطموحات لن تتحقق من تلقاء نفسها، كما أن النمط الراهن من الأداء لن يفضي لغير الفراغ، وما نحتاج إليه، ضغط شعبي سوري لخلق قيادة معارضة جديدة، غير مرتهنة لأحد، تحظى بالشرعية، ويكون لها هدف واحد، هو بعث الثورة ليكون عبور الأمتار العشرة الأخيرة ممكنا وقابلا للنجاح، إن لم نقل الانتصار.
لقد خلقت الحرب واللجوء والنزوح والتدخلات الخارجية والإرادات الشخصية، قدرا من السكون والقبول بالأمر الواقع لدى الملايين من السوريين، وصنعت كذلك، شبكة من المصالح والارتباطات والمكاسب لمن كان يفترض أن يمثلهم من المعارضة، وفي نفس الوقت أوجدت على الأرض في الشمال المحرر، قوى ومراكز نفوذ ذات تأثير وسطوة، وبعضها يعتبر “إرهابيا” بموجب توصيفات دولية وحتى إقليمية، وكل ذلك، يضع مصير الثورة، ومعها سوريا، في دائرة قرار الآخرين، بل أن مستقبل سوريا جغرافية وتكوينا سيكون مرتبطا بما يقرره المنتصرون في المواجهة الحالية أو التي يمكن أن تجري، بلا صوت لأهلها ولا دور، حتى أن موقف السوريين أيام الانتداب الفرنسي يبدو أكثر تقدما ونضجا وقدرة على فرض الشروط والمطالب.
لم تخلُ سوريا من الثوار الشرفاء، وإن ابتعد كثير منهم، وهذه لحظة تاريخية لهم ليعودوا، ويأخذوا زمام الأمر، ولن يتهيأ لهم ذلك من غير دعم شعبي حقيقي ومستمر، يضعهم حيث يجب أن يكونوا ويجبر جميع الأطراف على القبول بهم كممثلين شرعيين لسوريا الثورة، عسى أن يتمكنوا من اللحاق بالأحداث وتحقيق ما فشل فيه من سبقهم.
المدن ـ الأحد ـ 2022/10/09
Leave a Comment