زاهي البقاعي
من استمع إلى تصريحي وزير الخارجية الايرانية عبد الامير اللهيان في كل من انقرة ودمشق لاحظ كيف تحاول ايران بلغة دبلوماسية معروفة عن ممثليها الامساك بالعصا من الوسط. فهي بحاجة ماسة في الظروف التي تجتازها إلى تركيا، كما أن استثمارها في الوضع السوري لا يسمح لها بالتخلي عن موقع القوة المتقدم، الذي دفعت من أجل بناءه الكثير من الدماء والمقدرات المالية.
حاول اللهيان في العاصمة الاولى اعلان تفهم ايران لدوافع العملية العسكرية التي تنوي القوات التركية تنفيذها في شمال شرق سوريا. وجاءت زيارة الوزير الإيراني إلى سوريا ولقائه الرئيس بشار الاسد ووزير الخارجية فاروق الشرع عقب زيارة مماثلة إلى تركيا التقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو. وشكّلت تصريحات عبد اللهيان خلالها تحولاً كبيراً في موقف طهران من العملية العسكرية التي تنوي أنقرة القيام بها في شمال شرق سوريا. وقال عبد اللهيان من تركيا، إن طهران “تتفهّم جيداً مخاوف تركيا الأمنية”، كما نتفهّم أن “عملية خاصة في سوريا قد تكون ضرورية”، الأمر الذي شكّل تحولاً واضحاً في موقف إيران الرافض للعملية في بداية الكشف عنها. يومها قرأ كثيرون الموقف على أنه موافقة ايرانية على العملية التركية المرتقبة. وكان قد سبق ذلك نشر معلومات حول اكتشاف وإلقاء القبض على شبكة من مخابرات الحرس الثوري الايراني، تخطط لشن هجمات على سياح ودبلوماسيين اسرائيليين، ما اعتبرته الحكومة التركية بمثابة تحدٍ لسياستها الخارجية، في ما تعمل بدأب على تعميق العلاقات التركية – الاسرائيلية لارتباطها بمسألة خطوط النفط والغاز التي تنطلق من شرق المتوسط نحو اوروبا، التي تعاني بفعل توقف الامدادات الروسية عنها بعد حربها على اوكرانيا.
حركة وزير الخارجية الايرانية جاءت أيضاً بعد زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للعاصمة التركية ولقائه مسؤوليها، بعد رفع يد القضاء التركي عن قضية مقتل جمال خاشقجي، باعتبار أن مصرعه جرى على أرض سعودية ( مقر دبلوماسي)، وتحويل الملف من القضاء التركي إلى القضاء في المملكة العربية السعودية. ايران التي وجدت نفسها بعد فشل محاولات انقاذ الاتفاق النووي وتعطل اجتماعات فيينا، بأمس الحاجة إلى حركة دبلوماسية قالت ما يرضي كلا العاصمتين، مستخلصة على لسان اللهيان ضرورة حل المشكلة بالحوار بين الدولتين الجارتين. ما يعني عودة العلاقات إلى سابق عهدها من التواصل. وهو أمر مستبعد، إن لم نقل مستحيلاً طالما أن حبل “الود” مقطوع منذ سنوات بينهما.
والواقع أن انقرة تجد الفرصة مؤاتية لضرب ضربتها، والتخلص من الأرق الكردي على حدودها رغم استمرار الرعاية الاميركية للقوى الكردية التي تصنفها تركيا بالمجموعات الارهابية، بعد أن ضمنت شبكة من العلاقات الدولية المتداخلة مع اميركا وداخل الناتو ومع روسيا كذلك، وكلها تتيح لها حرية الحركة. خصوصاً وقد ترافق ذلك مع ضعف واضح في فاعلية الدور الايراني على الصعيد الاقليمي، بدليل قصف مطار دمشق وتعطيله لأكثر من أسبوع، ثم تلاحق الضربات الجوية الاسرائيلية. فايران وحتى اللحظة لم تستطع الرد على الضربات الاسرائيلية في الداخل ومناطق نفوذها في سورية، وهي أحوج ما تكون إلى تمرير المرحلة بأقل مستوى من الاشتباك، خصوصاً وسط ارتفاع وتيرة اللقاءات وتواتر الحديث عن “ناتو عربي – اسرائيلي” بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، يضم مصر والاردن والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية وهدفه حصار الأذرع الايرانية في المنطقة، ونقل المعركة بالتالي إلى داخلها المنهك مع ارتفاع اسعار السلع والحاجيات وتردي قيمة العملة وغيرها من مشاكل البطالة وتدهور الاقتصاد وتراجع أداء البنية التحتية التي تفتقد إلى الأموال اللازمة لمتابعة خدماتها بالجودة السابقة.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن عن استعداد بلاده للبدء بعمل عسكري على الحدود الجنوبية لبلاده مع سوريا. وأشار في حينه إلى أن الهدف من وراء هذا العمل هو إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً، بعد طرد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) منها، على أن تبدأ العملية من منطقتي منبج وتل رفعت في شمال شرق حلب. وفي مواقف لاحقة أكد أكثر من ناطق رسمي تركي أن لا وجود لتفاهمات أو صفقات محتملة مع النظام السوري لعودة اللاجئين السوريين، لأ نه من “غير المنطقي عقد مثل تلك التفاهمات أو الاتفاقيات، وإرسال الذين فروا من الحرب وعانوا وتألموا منها، وتسليمهم له”. وتصف تركيا إنشاء “مناطق آمنة” في عفرين وإدلب وتل أبيض ورأس العين، أنه بهدف “خلق بيئات آمنة، يستطيع اللاجئون من سوريا خلالها الحفاظ على حياتهم”.
وكان الرئيس التركي قد كشف حينها عن مشروع من أجل إعادة نحو مليون لاجئ سوري “بشكل طوعي” إلى منازل، بنيت خصيصاً لهم بالتعاون مع منظمات تركية وأخرى دولية وعربية في مناطق شمال وشرق سوريا.
على أي حال الثابت أن لا اتصالات سياسية سورية – تركية، وجل ما في الامر هو علاقات استخباراتية دورية بين جهازي الأمن في البلدين الجارين، بالمقابل حشدت تركيا قوات كافية للشروع في العملية، التي تنتظر ساعة الصفر وليس إذنا من النظام السوري. وقد سبق ونفذت ثلاث عمليات عسكرية، تميز الرد السوري عليها بالضعيف إن لم يكن بالهزيل. سوريا أعلنت بدورها عن ارسال قوات اضافية للمنطقة، معربة عن استعدادها للتصدي لأي قوات تخترق حرمة أراضيها.
وما يجري على الحدود الجنوبية لتركيا والشمالية لسوريا، لا يختصر المشهد السوري الغارق في فوضى تصفيات واغتيالات بلغت حدود أنها باتت بمثابة الخبز اليومي للسوريين، وشملت أقاصي جنوب البلاد وحتى الشمال منها، وهي في معظمها عبارة عن تصفيات بين قوى وأجنحة ومراكز قوى مرتبطة بالنظام أو ايران بهذا الشكل أو ذاك، وكل منها تتنازع محاولة وفرض سيطرتها ونفوذها و” خواتها” على المواطنين. على أن اللافت هو تراجع وزن وأداء الوحدات العسكرية النظامية التي كانت تتلقى الدعم والتأييد من النفوذ الروسي بعد نشوب الحرب في اوكرانيا.
ويبقى اللاعب الايراني الذي تتراكم امامه المتاعب السياسية والأمنية على حد سواء. فالساحات التي مثلت تعويضاً له على صعيد الدول والعواصم التي طالما تباهى بالسيطرة على قرارها وتبعيتها له، باتت في حال مزرية يعجز معها عن إدارة شؤونها بالوسائل التي سبق وأثبتت نجاعتها في السنوات والعقود السابقة. ويبدو المأزق مستحكما متى ادركنا أن ايران في هذا المفصل لا تستطيع التقدم ولا التراجع. فالحصار حولها يشتد، والتشدد الاميركي- الاوروبي في الملف النووي، مع ما يتجاوزه من ملفات تتناول الصواريخ البالستية والتدخلات الاقليمية لا تترك لها فرصة للإفلات من الشباك التي علقت بها، وإمكانية الرد على الضربات الاستخباراتية التي تتوجه لها في الداخل الايراني، والتي تستهدف نوعية مختارة من خبراء الحرس الثوري وعلماء الذرة، وما تتعرض له منشآتها من هجمات سيبرانية… مع ما يرافق ذلك كله من تحركات في شوارع المدن الايرانية و”بازارتها” التجارية، كلها تؤشر إلى ما يشبه الهجوم على النظام من خواصره الرخوة. وبالطبع سوريا في مقدمة مواقع الاستهداف المتقدمة.
أما النظام السوري فيبدو في حالة من العجز المطلق مسلماً مصير البلاد لأقدار تتحكم بها. ليست الأقدار سماوية، بل هي نتيجة حتمية لما آلت إليه أوضاع البلاد من تحلل وتفكك وقصور عن الخروج من مستنقع حروب كلفت الشعب السوري نصف السكان بين قتلى وجرحى ومعتقلين ولاجئين ونازحين … هذا عدا حالة الجوع التي تعصف بالفئات الفقيرة والوسطى التي سبق وخسرت ما راكمته من ثروات في زمن مضى ولن يعود.
Leave a Comment