ماري ديجيفسكي*
ضربته لأراضي دولة عضو بالحلف مجاورة لأوكرانيا ذكّر بسيناريوهات طالما أفزعت الغرب منذ بداية الحرب. لقد وقع هذا الحادث إما صدفة أو كأمر طال تَوَقعه. إن ذلك الصاروخ الذي سقط وأدى إلى قتل شخصين في مزرعة ضمن الأراضي البولندية على تخوم حدودها مع أوكرانيا، كان يمكنه إشعال الحرب العالمية الثالثة. بعد انفجار الصاروخ، حتى الآن على الأقل، يبدو أن العقلانية قد سادت في التعامل مع القضية. ومن المفيد أن نلاحظ أنه أحياناً، وربما نادراً، يكون من شأن حجم الخطر المحدق أن يدفع الجميع نحو الرد بشكل حذر ومتناسب.
حدث ذلك بالطبع، ومن قبيل الصدف، مع وجود ذلك العدد الهائل من الزعماء الوطنيين مجتمعين بأشخاصهم في المكان نفسه، في ساعة سقوط الصاروخ. وبالتالي، لقد أُفسِحَ في المجال أمام انعقاد ما يشبه قمة عالمية أمنية على الفور. وكذلك كان العالم محظوظاً لأن صفوف أولئك الزعماء غاب عنها أيٌّ ممن يميلون إلى الصراخ من الهامش، بأن القوة أو العنف هما “اللغة الوحيدة التي تفهمها روسيا”.
يملك الرئيس فولوديمير زيلينسكي كل الحق في التعبير عن غضبه. إذ جاءت الضربة [على بولندا] وسط عاصفة من الضربات الصاروخية التي استهدفت حوالى نصف الطاقة الكهربائية المولدة في أوكرانيا، فأخرجتها من الخدمة. ويبدو أن تلك العاصفة شكلت الرد الروسي الرافض لنقاط خطة السلام العشرة التي اقترحها الرئيس الأوكراني وقدمها قبل ساعات من الضربة [أمام قمة دول العشرين المجتمعين في بالي]. كذلك ليس من الصعب أن نتفهم أن يعمد [زيلينسكي] إلى توجيه اللوم بشكل غريزي لروسيا، وكذلك من المفهوم ربما أمله المقنع بأن تؤدي تلك الحادثة إلى توريط حلف الأطلسي بشكل رسمي، بدلاً من التورط غير الرسمي حالياً للحلف، في تلك الحرب.
“الصاروخ البولندي”… طائش أم مقصود؟
في المقابل، لكان مؤسفاً لو أن فطنته [زيلينسكي] السياسية وكرامته اللتين ميزتا حتى الآن خطاباته العامة، انزلقتا إلى خطابات من النوع الذي طالما بدت مفضلة لدى الزعيم الجورجي السابق مخيائيل سكاشفيلي، غير المسؤولة والمتهورة. [تولى سكاشفيلي رئاسة جورجيا بين عامي 2008 و2013. عرف بمواقفه المناوئة لروسيا التي شنت حرباً على بلاده وضمت إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إليها].
وفي هذه اللحظة، علينا أن نواصل التمسك بالأمل الذي يتمثل في مفهوم أنه لا بد لنا “كلنا”، بما في ذلك الأوكرانيون، أن نعمل من أجل تأمين بقاء دولة أوكرانيا مستمرة وقابلة في المستقبل لأن تكون دولة مزدهرة ومستقلة، من دون إشعال فتيل حرب واسعة على المستوى الأوروبي أو حتى العالمي الأوسع.
ثمة إمكانية دائمة لوجود أكثر من تفسير للضربة التي أصابت مبنى المزرعة في الأراضي البولندية. ويمكن وضع تلك التفسيرات وفق ترتيب معين. هنالك التفسير الأكثر خبثاً الذي يرى أن روسيا عمدت قصداً إلى ضرب أطراف الأراضي القريبة جداً من أوكرانيا داخل جارتها المنضوية ضمن حلف الأطلسي في محاولة لامتحان مستوى الرد الذي قد ينفذه حلف الناتو. وهنالك تفسير ثان مفاده أن ذلك الامتحان حدث عبر خطأ عسكري رافقه انحراف طفيف لصاروخ موجه لضرب هدف أوكراني، فسقط ضمن الأراضي البولندية الجارة. وفي المقابل، ثمة تفسير مواز يبدو أنه حظي بإجماع أقوى، يرى أن الصاروخ لم يكن روسياً، بل هو أوكراني، وقد أُطلق في سياق محاولة لصد الهجمات الصاروخية الروسية، لكنه انحرف عن مساره وسقط بشكل درامي على الأراضي البولندية.
صاروخ بولندا
واستطراداً، برزت فرضية رابعة تندرج ضمن “نظريات المؤامرة”، وترى أن كييف عمدت إلى عمل استفزازي مقصود عبر حرف الصاروخ [المضاد للصواريخ الروسية] كي يسقط في بولندا، ضمن جهود أوكرانية هدفها دفع حلف شمال الأطلسي إلى إعلان بدء العمل بالبند الخامس للحلف، الذي ينص على أن أي اعتداء على أي دولة عضوة فيه يشكل اعتداء على الدول الأعضاء كلها.
ومهما تكن حقيقة ما حدث، فإن الرئيس الأميركي جو بايدن، والزعماء الآخرين كلهم، وضمنهم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، قد صرح مباشرة [عقب سقوط الصاروخ] بضرورة العمل على جمع المعلومات كافة قبل الخروج باستنتاجات. لقد تصرف، هو وآخرون، برباطة جأش وروية بشكل يستحق الثناء. وتضم صفوف أولئك الزعماء الرئيس البولندي أندري دودا، الذي سارع إلى الإعلان عن أن الهجوم لم يكن مقصوداً في الغالب، وبالتالي وافق لاحقاً على أن الهجوم “في الغالب” قد تسببت به الدفاعات الجوية الأوكرانية.
وكذلك سارع المتحدث الرسمي باسم الكرملين إلى تهنئة الولايات المتحدة على “رد فعلها المدروس للغاية والمهني”، وهو أمر يؤكد جدية الموقف الروسي الذي لا يجب تغييبه. بالطبع، من المستطاع النظر إلى تصريحات المتحدث باسم الكرملين أيضاً بوصفها تقديم غصن زيتون صغير. وحينما خلدت أوروبا إلى سريرها ليل الثلاثاء، كان هناك شعور عام بأن أحد الخطوط “الحمر” قد جرى تخطيه. ولكن، حينما استفاقت أوروبا صباح الأربعاء، كان الخطر الداهم الذي طغى الليلة الماضية قد تبدد إلى حد كبير.
في مسار مواز، بعد كل الذي قيل، فإن خطر توجيه ضربة صاروخية، سواء أكانت مقصودة أم لا، على دولة جارة لأوكرانيا وعضوة في حلف الأطلسي، يشكل [ذلك الخطر] أحد السيناريوهات التي طالما تخوف من وقوعها كثيرون من حلفاء أوكرانيا الغربيين منذ بداية النزاع. ولا يقتصر الأمر على حلفاء أوكرانيا الغربيين وحدهم، بل حلفاء روسيا كذلك.
وكذلك لوحظ أن روسيا قد تفادت بشكل كبير ضرب الأجزاء الغربية من أوكرانيا، قبل أن تغير تكتيكاتها الحربية (بعد الهجوم على جسر كيرش) فتستهدف البنى التحتية للطاقة الأوكرانية. [يربط جسر كيرش بين شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014، وأراضي البر الروسي]
ولقد تفادت روسيا توجيه ضربات إلى تلك المناطق على الرغم من كافة المساعدات الغربية العسكرية التي وصلت أوكرانيا عبر المناطق الحدودية الغربية بالذات.
واستكمالاً، لقد أظهرت تلك الأمور أيضاً درجة تخوف روسيا من مثل ذلك السيناريو [توجيه ضربة إلى دولة عضو في حلف الأطلسي]. وتبدى ذلك بجلاء من خلال سرعة إصدار وزارة الدفاع الروسية روايتها حول حقيقة ما جرى، وإشارتها إلى الصور ونوعية الدفاعات الجوية المستخدمة. وكذلك كشفت روسيا عن المناطق القريبة التي استهدفتها صواريخها، وتقع على مسافة 35 كيلومتراً من الحدود البولندية داخل أوكرانيا، ما يبرز الهامش الذي تتركه موسكو للأخطاء المحتملة.
وفي الأقل، إن مسألة أن يكون هذا الحادث هو الأول الذي يجري تداوله علانية أثناء تسعة أشهر من بدء الأعمال العدوانية، وأن يجري التعامل معه بالشكل الذي رأيناه، إنما يؤشر إلى استنتاج واحد مفاده أن الولايات المتحدة وروسيا يتمنيان تحاشي وقوع أي حادث من شأنه أن يؤدي إلى توسع النزاع خارج أوكرانيا.
قد لا يكون ذلك مطمئناً للرئيس زيلينسكي الذي يطالب بدعم غربي أكبر بكثير مما توفر لقواته حتى الآن أو بالنسبة لكل أولئك الأوكرانيين الذين يقولون إنهم لا يقاتلون من أجل بلادهم وحدها، بل دفاعاً عن الحضارة الأوروبية ضد البربرية الروسية. ولكن من شأن ذلك ربما أن يشكل أيضاً نوعاً من العزاء لمن لا يرون تلك الحرب عبر ذلك المنظور الأوكراني، ومن يأملون بقوة شديدة، وحتى بشكل أناني، بإمكانية العمل على احتواء هذه الحرب.
واستطراداً، فحتى لو حُيدت هذه الحادثة بشكل ناجح، فليس من ضمانات لعدم وقوع أخطاء أخرى، قد تؤدي إلى توسع تلك الحرب في المستقبل. بالطبع، كلما طال أمد تلك الحرب، تزايدت إمكانية ارتكاب مزيد من الأخطاء. وقد لا يكون ممكناً العمل على احتوائها بشكل حكيم في المرة المقبلة.
وفي المقابل، ليس هنالك من شك بأن روسيا تتحمل وحدها مسؤولية هذه الحرب، بعدما اجتاحت دولة أخرى بشكل غير مشروع. من ناحية أخرى، إن خطر اندلاع شرارة في هذا الجزء من أوروبا يكون من شأنها إشعال القارة الأوروبية برمتها، بدا أمراً محتمل الحدوث خلال فترة العقدين الماضيين، إذا لم نقل منذ تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي.
ويستتبع ذلك إن رفض الولايات المتحدة وحلف الأطلسي الموافقة على اتخاذ تدابير أمنية على المستوى الأوروبي تعترف بالمخاوف الأمنية الروسية، يشكل جزءاً من خلفية ما يجري حاضراً. وبالتالي، يكمن العامل المفصلي في كيفية تعامل حلف الأطلسي مع عمليات ضم الدول الأقرب إلى الحدود الروسية الغربية. بالنسبة للجانبين، لقد شكلت أوكرانيا ممرا لعبور النازيين إلى روسيا قبل ثمانين عاماً، وبالتالي فإنها تمثل الحدود الأخيرة بالنسبة إلى موسكو.
استناداً إلى ذلك، لا ضرر من الإشارة إلى أنه يحق لأي دولة ذات سيادة أن تتوفر لديها حرية الاختيار. ولقد جرى التصرف بعقلانية من قبل بولندا ودول البلطيق، وبلدان أخرى كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو في الماضي. إذ تصرفت تلك الدول بشكل يخدم مصالحها من خلال طلبها الانضمام إلى حلف الأطلسي سعياً منها إلى نيل الحماية التي يوفرها البند الخامس الشهير [من ميثاق حلف الأطلسي، وينص على جماعية أمن الدول المنضوية تحت لوائه]. في المقابل، ثمة تبعات لذلك الخيار، وقد توضحت أمام أعيننا اليوم.
لقد باتت الدول الأعضاء في حلف الناتو (وهذا لا يشمل الدول التي لا تتمتع بعضوية رسمية في الحلف) تواجه روسيا ضعيفة من أجل تأمين مستقبل أوكرانيا، ولكن بشكل غير كامل. ماذا يمكن أن يحدث لو أن الولايات المتحدة الأميركية استنتجت خلال هذا الأسبوع أن الصاروخ الذي سقط على الأراضي البولندية كان بالفعل صاروخا روسياً؟ ماذا كان ليجري لو استُنتج أنه لم يسقط من طريق الخطأ؟
بين عامي 1999 و2004، فيما عمل حلف الأطلسي على توسيع قاعدة عضويته كي تضم عدداً أكبر من دول تعتبر من بين الأقرب إلى روسيا، كان السؤال الافتراضي الذي يطرح نفسه باستمرار، متمثلاً في مدى استعداد الأميركيين للدخول في حرب مع روسيا بهدف دفاع عن إحدى الدول من أعضاء الحلف الجدد والأصغر حجماً على غرار إستونيا.
لم ترشح يوماً إجابة واضحة على مثل ذلك السؤال. وفي المقابل، كلما طال أمد الحرب في أوكرانيا، يضحى ممكناً طرح مثل ذلك السؤال أو غيره، وربما بصورة أكثر جدية. وبالتالي، سيكون من شأن الجواب في حينه، أن يكشف عن أن ضمانات البند الخامس إما أنها لا تستحق الورق التي كتبت عليه، أو أنها تؤدي إلى فتح احتمالات اندلاع حرب عالمية جديدة. لقد جرى احتواء ذلك التهديد في هذا الأسبوع، ولكن إلى متى؟
*نشر في “اندبندنت” بتاريخ 09 تشرين الثاني / نوفمبر 2022
Leave a Comment