ثقافة

سؤال الهوية بين الأنا والآخر

كمال اللقيس 

١- هي البداهة ان يكون سؤال الهوية اشكاليًا ملتبِسًا لأنه مفهوم متحرك يتداخل فيه التجريد النظري مع الممارسة التاريخية ويرسم مسارًا  سوسيو/ثقافيًا يؤمن بثوابت عامة في الهوية ويسعى إلى نشرها وتوظيفها على المستوى الايديولوجي. فإذا ما تناولنا مفهوم الهوية من جانبه الاصطلاحي – على المستوى النظري –  نجده مصطلحًا فضفاضًا يختزن قدرة التمدد إلى اكثر من مصدر انتماء. وكل حامل هوية يحوز رأسمالًا رمزيًا خاصًا يمنحه قدرة تمكنه من الإعتراف بالآخر، أو رفضه حيث يتخذ الصراع من اجل الإعتراف أو الرفض بُعدًا محوريًا في الحياة الاجتماعية. وهذا الرأسمال الرمزي يشكل خطًا بيانيًا تصاعديًا بإتجاه الشرف والسمعة والمكانة.

يُعتبر مفهوم الهوية – في الواقع المشخص- مفهومًا غير واضح المعالم ويتنقل – في الآن ذاته – بين حالات مختلفة من الثبات والتغيّر في معظم المجتمعات المعاصرة بشكل عام (في مرحلة ما بعد الحداثة) .

يعاني مفهوم الهوية المعاصر من وطأة حياته في سياق سوسيو/ ثقافي لأفراد يسعون تحت مظلة القيم الحاكمة لعالمنا المعاصر إلى تحقيق خصوصياتهم الفردية بقوة،  وإن كانوا يدورون اجتماعيًا حول مركز رأسمالي صارم يمنحهم -جزئيًا- ادوارًا متغيرة ويؤطر سلوكياتهم  تسارع مفاهيمي مضطرب لا يعرف استقرارًا وانماطًأً اقتصادية متنافرة .

تتداول مفهوم الهوية علوم متعددة (علم النفس- علم الاجتماع – علم الإناسة – علم الاديان..) وتتجاذبه اتجاهات سياسية ثقافية اجتماعية نفسية وإثنية مختلفة ما يجعله يتمتع بإستقلالية نسبية في كل مجال من هذه المجالات ويُسبّب – في الوقت عينه-  تشابكًا في المفهوم وانتماء – يصعب الحدّ منه- الى اكثر من مستوى معرفي .

٢- وعلى الرغم من احساسنا عند سماع لفظة “هوية” بشمولية ما، وبالتكامل مع آخرين، فإن هذا المصطلح يهتم في حقيقته بالاختلاف، ويدل – منذ الوهلة الاولى- على ثبات معياري لخصوصية ما، تؤسس اختلافها عن الآخر ومعه،  اكثر مما يدل على الاتفاق والتوحد ضمن إطار المواطنة،  التي تُعتبر الهوية الجامعة للهويات التي  تفترض وجود اختلاف مبدئي فيما بينها وإن على مستوى الوطن الواحد.

وهذا يعني أن لفظة “الهوية” – من منظورها الثقافي-  تصبح لفظة مقاوِمة  لسياسات التعميم، ولكثير من المقولات الثابتة لخطاب الإرث الغربي بشقيه الماركسي والليبرالي في عصر التنوير الاوروبي،  وإن ظلّ المصطلح في العموم معبِرًا عن جماعة لها مصدر متفَق عليه من مصادر الانتماء، فغالبًا ما تتسم لفظة “هوية” بوجود سمات مكتسبة من ميراث معرفي يمنحها خصوصيتها.

٣- تميل الهوية إلى رسم الحدود، أو إلى الانفصال كلما اقتربت من الجماعات الصغيرة (لبنان نموذجًا). فكلما زادت ثوابتها  اضحت أداة تجزئة يختلط فيها فهم ما يميل إلى الثابت بما يميل إلى المتحول.  وإن كانت الهوية الثقافية العامة تسعى إلى الاتصال حين تقترب من المكونات البنيوية المشكِلة للثابت في مجموع الهويات الخاصة. اي حينما تقترب من بعدها الوطني. وهذا البعد أراه كفيلًا – لو تم توظيفه بشكل مترابط ومدروس – بتخفيف حدة التأثير والسيطرة، اللذين يمارسهما نظام ما او مرجعية طائفية ما. وعندما تتوجه الرسالة إلى جماعة واعية لإنسجامها فإن الأفراد يتقبلون الآراء المخالفة لآرائهم بصعوبة اكبر، مما لو كانت الرسالة موجهة إلى جماعة ذات وعي ضعيف بتضامنها. اي أنّ الوعي التضامني لدى  جماعة ما يمثل وسيلة من الوسائل المُقاوِمة للتأثير.

لكنَّ وجود هويات متعددة في المجتمع الواحد يفضي – بالبداهة- إلى سيل من الاسئلة. اي من الهويات يمكن اعتبارها اصلًا والباقي فروعًا ؟ وما الهوية التي يمكن أن نعاملها بوصفها فرعًا من اصل ولماذا؟ واي هذه الهويات  يجب اقصاؤها، أو تنقيتها لمصلحة أهداف سياسية أو استراتيجية ؟ وما الثابت النسبي والمتغير في حراك الهوية الجمعي ؟ وما السلطة التي تملك الحق في هذا الإقصاء أو في تلك التنقية؟ وما المرجعية السياسية أو الثقافية أو العلمية التي تستند إليها ؟

فمع التباين الكبير بين الهويات القاتلة(الاثنيات) المشكِلة للمجتمع الواحد، يتلقى الوطن الجامع لها الطعنة تلو الاخرى، ومن ثم يكون لديها من الأسباب ما يجعلها تميز هوياتها الثقافية عن هويتها الوطنية. وإذا ما وصلت مكونات الهوية إلى السيطرة على المفهوم يتم التعامل مع الهوية من قبل الذين يحملونها كأنها معطى تاريخي ناجز. فيلجأون إلى آلية العزل والاختزال لمن يسمونه “الآخر” حتى ولو كانوا يحملون الهوية القومية الواحدة (الانزلاق نحو القُطْرية). وتقوم الهوية المتسلطة سياسيًا بنزعة التطهير الطائفي والعرقي. لأن اختزال من يسمى الآخر إلى موضوع يعني تجاهل المميِز الرئيسي له، وهو انه ذات انسانية، شخص يتكلم، وبالتالي لا يمكن للمجتمع ان يختزل الأفراد مهما كان عددهم ضئيلًا .

٤- ويعود هاجس سؤال الهوية ليحذر الواطئ في حقل الغامه، وليؤرق عقل الباحث فيه. وتتبادل الاسئلة مواقعها بين الثابت والمتغير، وبين الفرد والمجتمع، من دون تحديد حاسم. وتقف نقطة ارتكاز هذه الأسئلة على ارضية الإقصاء فكل مجتمع نظنه واحدًا وذا هوية واضحة، هو في حقيقة الامر مجمع هويات  متجاورة ومتعددة.  تقوم هوية منها مهيمنة  -تشترك مع غيرها بسمات ثقافية ما- بدور اساسي في التغيير.  وقد تلعب دورًا تاريخيًا نسبيًا  في التأسيس لهوية جامعة قد تشكل ثابتًا بنيويًا للهويات في الحد الاقصى الممكن تاريخيًا .

وفي خلاصة القول اعتقد – ولا اجزم- بأن سؤال الهوية قد يجد اجابته “المطلقة في نسبيتها” في الإقرار بأن الآخر  ليس مرآة للذات فحسب، بل هو المكان التي تولد فيه تلك الذات التي لا تعرف نفسها الّا من خلال تماسها واحتكاكها وعلاقتها بالآخر المختلف، فهو فضاء اختبارها الحيوي والحصري .

وفي خلاصة القول اعتقد  – ولا اجزم- بأن العلمنة كسيرورة كونية قطعت مع نمط معرفي قديم (اسقاطي يقيني) وانتصرت للذات الإنسانية بكل خياراتها. قد تشكل –  الحد الأقصى الممكن تاريخيًا حتى كتابة هذا المقال- كهوية جمعية الإجابة عن سؤال الهوية.

Leave a Comment