*محمد حجيري
رحل شوقي أبي شقرا. غصن آخر يسقط من شجرة مجلة “شعر”. سنجاب آخر يقفز من البرج، ورغم الحداثة التي تميزت بها مجلة “شعر”، بقي شعر أبي شقرا محافظاً على نكهته المحلية، حتى إنه لقِّب بشاعر السوريالية الريفية أو العربية، وهو صاحب كلمات الزيز والنملة والضفدعة والغصن والجلّ والخوخة والطلمية. وقالت عنه الشاعرة الراحلة صباح الخراط زوين، ذات يوم، إنه “أنتج قصيدة غير متأثرة بالخارج، أي بالكتابة الغربية وما أنتجته من نظريات وفلسفات”. وكان أبي شقرا صاحب فرادة في اللغة والاسلوب، صانع أبجدية الكلمة والصورة والدهشة، وأطلق الشاعر محمد الماغوط عليه لقب “المرشد الجمالي واللغوي لجماعة شعر”.
ولد شوقي أبي شقرا في بيروت، لكنه عاش طفولته في رشميا ومزرعة الشوف بسبب عمل والده في سلك الدرك، والذي فقده في سن العاشرة بسبب حادث سيارة. درس في دير مار يوحنا في رشميا، ثم التحق بمعهد الحكمة في بيروت. أغنى أبو شقرا موهبته بقراءاته المتعدّدة من روايات وشعر لكتاب فرنسيين وعرب، وكان يتردّد كثيراً إلى مكتبة المدرسة وإلى المكتبات العامة من أجل المطالعة. وبدأ بنشر أولى قصائده في مجلة “الحكمة” بعد نيله شهادة البكالوريا العام 1952، ونال تشجيعاً وإعجاباً من مسؤول المجلة آنذاك القاص فؤاد كنعان. كتب محاولات شعرية أولى بالفرنسية، ثم نظم قصائد عمودية. أما بدايته الحقيقية فكانت في إنجازه قصائد التفعيلة، قبل أن ينتقل الى قصيدة النثر في ديوانه الثالث “ماء إلى حصان العائلة”.
قيل الكثير حول أول من كتب قصيدة النثر بالعربية، ويقول الشاعر والناقد عبد القادر الجنابي المقيم في باريس إن أبي شقرا هو صاحب القصيدة النثرية الأولى. وذكر ذلك في العددين السادس والسابع من مجلة “فراديس” الخاصة بقصيدة النثر الصادرة العام 1993: “بينما كان شعراء مجلة (شعر) في حالة دفاع عن أنفسهم ضد أعداء قصيدة النثر بتنظيرات خاطئة كان أبي شقرا متربعاً لوحده في غربة قصيدة النثر دون أي اعتبار لهجومات الآخرين”. وقد نشرت جريدة “النهار” القصائد التي قام حولها جدل، أي هل هي قصيدة أو نثر؟ وفي خميس مجلة “شعر” لم يكن النقاش قد فصَل بعد إن كانت هذه القطعة شعراً أم لا. وهذا يدل على أن أبي شقرا هو الأول في الكتابة النثرية في السياق التاريخي، واعتبارها قصيدة.
أسس أبي شقرا “حلقة الثريا” مع ثلاثة آخرين هم: جورج غانم، إدمون رزق وميشال نعمة. وهو يعدّ أحد أبرز أركان مجلة “شعر” التي جمعت أدونيس، محمد الماغوط، يوسف الخال وأنسي الحاج، وقد عمل فيها سكرتيراً للتحرير. وحاز ديوانه: “حيرتي تفاحة جالسة على الطاولة”، جائزة مجلة “شعر” في العام 1962. (وكان الأول في حيازتها مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ومن بعدهما توقفت هذه الجائزة). وترجم أبي شقرا نصوصاً لشعراء مثل: رامبو، لوتريامون، أبولينير وريفيردي.
أنشأ أبي شقرا أول صفحة ثقافية يومية في الصحافة اللبنانية، إذ عمل صحافيًاً منذ العام 1960، وتسلّم في العام 1964 مسؤولية الصفحة الثقافية في جريدة “النهار” اللبنانية، التي عمل فيها أكثر من أربعين عاماً. ولم تكن نهاية مشواره في “النهار” على ما يرام، فيها جزء من مكائد الشعراء، يكتب الشاعر يوسف بزي: “في العام 1996، أُجبر عصام محفوظ على ترك وظيفته في جريدة “النهار” التي خدمها لأكثر من 30 عامًا، كان الأمر أشبه بالطرد، والذين عملوا على التخلص منه، هم بعض الذين تذكروه اليوم (في الذكرى العاشرة لرحيله) في صفحاتهم الثقافية، ربما الشعور بالذنب هو أحد دوافع إحياء ذكراه وتكريمه؛ فحادثة “المؤامرة” الثقافية الشهيرة، التي أطاحت الجسم التحريري لصفحة “النهار” الثقافية، الشاعر شوقي أبي شقرا، والناقد الأهم في بيروت نزيه خاطر، ومحفوظ، لا تزال وقائعها حاضرة في الأذهان، ولا يزال معظم مثقفي بيروت، يرون في تلك الحادثة العلامة الأساسية على بداية انهيار مستوى الصحيفة، التي كانت تمسك بلغة الثقافة ومزاجها لعقود طويلة”.
كان أبي شقرا في صفحته الثقافية مروحة تستقطب الجميع. يتحدث بشغف عن تجربته الرائدة والمديدة في جريدة “النهار” التي انتقل إليها حاملاً مهاراته في التحرير من مجلة “شعر”: “كان عندي نظرة وقدرة على التنظيف والتشذيب والصياغة، فعلت تمامًا كما كنت أفعل في مجلة (“شعر”). يروي أبي شقرا أنه وصل إلى “النهار” فوجد الصفحتين الموجودتين في وسط الجريدة، متروكتين للارتجال والفراغ، “عندها قلت لفرنسوا عقل، أعطني صفحة، بيضاء أخصصها للثقافة. لم تكن قبل ذلك صفحات يومية للثقافة كما هي السياسة. في مصر كانت الصفحات أسبوعية. خضنا تجارب ثقافية كثيرة في (النهار)، منها الملحق الثقافي أيضا، قمنا بجهد لا يضاهيه جهد”. معلوم أن أبي شقرا فتح صفحات “النهار” أمام شباب يافعين، مبتدئين في الكتابة او مفكرين كبار أو هواة. كثر يقولون: إنهم كانوا يضعون نصوصهم في صندوق البريد في مبنى الجريدة ويجدونها منشورة في اليوم التالي.
أصدر أبي شقرا 14 ديواناً شعرياً، منها: “أكياس الفقراء”، “ماء الى حصان العائلة”، “سنجاب يقع من البرج”، “يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً”، “حيرتي تفاحة جالسة على الطاولة”، “لا تأخذ تاج فتى الهيكل”، “صلاة الاشتياق على سرير الوحدة”، “ثياب سهرة الواحة والعشبة”، “نوتي مزدهر القوام”، و”تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة”. إضافة الى مذكراته التي يروي فيها كواليس العمل الصحافي والقلم الأحمر والضمة والفتحة.
(*) نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس 10 تشرين الاول 2024
Leave a Comment