زهير هواري
بيروت 3 آب 2023 ـ بيروت الحرية
رحل حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة بعد ثلاثة عقود متواصلة في إشغاله هذا الموقع. مرَ عليه خلالها الرؤساء: الياس الهراوي واميل لحود وميشال سليمان وميشال عون . أما رؤساء الحكومات فهم: رفيق الحريري الذي أتى به من شركة “ميري لنش”، وسليم الحص ونجيب ميقاتي وتمّام سلام وسعد الحريري وحسان دياب انتهاء بنجيب ميقاتي وحكومته لتصريف الاعمال. إذن مرت على رياض سلامة في المصرف المركزي عهود وحكومات ووزراء مالية يصعب احصاؤهم. وكانوا كلهم يتغيَّرون فيما هو باق في موقعه ملكاً غير متوج. ومنذ صبيحة يوم الاثنين في 1 آب 2023 تسلم نائبه الاول وسيم منصوري مهامه، وغادر سلامة إلى بيته في الصفرا بعد سنوات طويلة أمضاها بممارسات قادت بنتيجتها إلى الوضع المالي والنقدي الراهن، والذي ساهم في دفع قطاعات البلد ومؤسساته كافة في القطاعين العام والخاص إلى انهيار، يحتاج الخروج منه إلى سنوات طويلة. وهو الخروج الذي يبدو مستحيلاً بالاستناد إلى الأداء السياسي لدى منظومة الحكم التي تركت الحبل على غاربه لسلامة يهندس لها سياسات النهب مقابل شراء الوقت، واستسهال الغرق في وحول الأزمة.
المؤكد إلى الآن أن تعهدات رئيسي المجلس النيابي والحكومة للحاكم الجديد ونوابه، لن تصل إلى مستوى التصدي للمعضلات المتراكمة عبر عملية اصلاح فعلية، وأقصى ما يجودان به عملية ترقيع لا تسمن ولا تغني عن جوع. وهنا لا نتحدث عن توصيات صندوق النقد الدولي، بل عن أقل من ذلك بكثير. والدليل على عدم وجود نوايا حالياً لتجرع كأس قرارات كان يجب أن تتخذ منذ سنوات، أن البداية غير مبشرة لا من رئيس المجلس ولا من حكومة تصريف الاعمال ولا من الحكام الاربعة الذين أتت بهم إلى مواقعهم ولاءاتهم لمصادر القرار، وهم سيجدون أنفسهم يتعرضون تباعاً لتدجين المنظومة التي احترفت النكث بالوعود والمراهنة على الإنقاذ الآتي من عالم الغيب.
وفيما كان المتوقع من المجلس النيابي إقرار مشروع، أو اقتراح قانون يجري العمل عليه بين مجلس النواب والحكومة، أو بالاصح بين ميقاتي وبري لتأمين المصرف المركزي رواتب العاملين في القطاع العام من مدنيين وعسكريين بواقع 200 مليون دولار على مدى ستة أشهر، تبين أن هذا الاتفاق مزغول بدليل ما استهل به ميقاتي اجتماع مجلس الوزراء وأحال بموجبه الموضوع على عدد من النواب للاقتراح من جانبهم، ما يعني تقاذف كرة المسؤولية، وتجاهل مضاعفات ذلك على النقد الوطني والحاكمية الجديدة وجملة الوضع الاقتصادي.
علماً أن استدانة الحكومة وبالدولار لدفع الرواتب هو بدعة جديدة سيكون لها نتائجها السلبية، فالدولارات هي أموال ستصرف بالضرورة مما تبقى من أموال المودعين التي تتناقض باستمرار بفعل ما تعرضت له ماضياً وما ستتعرض له راهناً ومستقبلاً ، ثم إنها أموال خاصة شاء حظ اصحابها العاثر أن تكون رهن قرار سلطة سياسية – مالية عابثة. ما يقود حكما إلى المزيد من نهبهم، وتآكل ما تبقى من موجودات المصرف المركزي من العملات الصعبة. أما محاولات منصوري والحاكمية بتقليص المبلغ إلى 150 مليون دولار شهرياً وليس 200 كما تطالب الحكومة، فلن يكون سوى عملية تخدير موضعي ومؤقت لمعضلة وضع افلاسي.
ما يعني أن الحلقة المفرغة ستستمر بالدوران، آخذة في طريقها النقد الوطني وأموال المودعين وتوفير الحد الادنى من الإنفاق على الدوائر والمؤسسات الحكومية لتسيير الخدمات العامة على الاقل، ولا نتحدث هنا عن مشاريع تنموية لا وجود لها في حسابات السلطة الحاكمة. بل عن حد أدنى يجب أن يكون متاحاً لتأمين عمل المرافق العامة ( إدارات عامة، ميكانيك، دوائر عقارية، مدارس رسمية والجامعة اللبنانية) وقيام جهازها الوظيفي بتوقيع معاملات المواطنين وتعليم التلامذة الطلاب وتأمين خدمات النظافة والقرطاسية… وجباية ما يتوجب من رسوم وضرائب للدولة والإدارات. لذلك، وفي ظل فرض المزيد من الضرائب ضمن مشروع الموازنة، لم يكن مستغرباً أن تعمل الإدارة العامة النقابية على تمديد اضرابها حتى شهر ايلول المقبل.
والواقع أن الدولة اللبنانية بما هي سلطة سياسية تنفيذية وتشريعية سلمت الامور المالية والنقدية لسلامة وكلفته بإدارة مقاليدها، أي أنها تخلت عن دورها الاقتصادي والاجتماعي العام، إن لم نقل إن هذه الطبقة من أصحاب الحصص في السلطتين، وبتواطوء من القطاع المصرفي ومعه، ارتضت بتلك الإدارة، مقابل ما تحققه من فوائد لها على ايداعاتها أو صفقاتها المشبوهة، والتي وصفتها المؤسسات المصرفية العالمية بأنها سياسة بونزية بامتياز، باعتبارها اكبر عملية احتيال تعرضت لها بلاد على امتداد الكرة الارضية. وعندما اكتشفت هذه الطبقة بقواها السياسية – المالية أن السفينة تجنح نحو الغرق، عملت على القفز منها، ونقلت أموالها من لبنان إلى الخارج.
أما المخبَّأ في خزائنها الخاصة فقد أعادت توظيفه من أجل تجديد شرعيتها، ومتابعة النهب من خلال عمليات المضاربة، يعاونها على ذلك شبكات من المستفيدين سواء أكانوا من الذين جيَّروا أموال الدعم لاحتكاراتهم، أو المضاربين على سعر الصرف، أو المستثمرين في منصة صيرفة، التي قيل أنها ستلجم سعر صرف الدولار، فإذا به يرتفع منذ قيامها إلى الآن من 16 ألف ليرة إلى 146 ألف ليرة باستثناء الاشهر الأخيرة، حيث استقر على سعر 90 ألف ليرة تقريباً.
وعليه، استمرت هذه الطبقة في الغَرف مما تبقى من أموال في البلاد سواء عبر منصة صيرفة، أو بواسطة الاسعار المتعددة للدولار الاميركي في سوق الصرف، ونجحت في جني مليارات الدولارات على حساب المكلفين والمودعين وذوي الدخل المحدود. وقد ثبت خلال السنوات الاربع الأخيرة التي كشفت الأزمة ما تخبئه حقيقة الاوضاع، أنها مستمرة في استنزاف وحلب “البقرة” دون حد أدنى من المسؤولية الوطنية والاخلاقية، مستندة إلى أنها خارج أي عملية محاسبة أو مساءلة عن ارتكاباتها وقيادتها البلاد على النحو الكارثي. كما ثبت أن الإفلات من العقاب هو القاعدة لأن المتهمين بدور ما في جريمة تفجير المرفأ التي تمر علينا الآن ذكراها الثالثة باتوا أعضاء في لجنة الإدارة والعدل وخطباء المنابر والمناسبات..وقس على ذلك.
والآن إلى أين
مع أن أداء سلامة الذي بدأ عهده بدولار على سعر 1510 ليرات، وأنهاه على النحو الذي انتهى إليه، يستحق صفحات ومجلدات لن تكون سهلة المصادر، باعتبار أن سلامة الملاحق أوروبياً على الأقل ضَمِنَ من المنظومة السياسية أمنه، وعدم تسليمه إلى الانتربول مقابل صمته عن الارتكابات التي مورست على الاقتصاد الوطني عموماً، وخصوصاً على المال العام وعلى المودعين من مقيمين ومغتربين وذوي الدخول المحدودة من مهنيين وعمال وموظفين، لكن ما يتوجب التشديد عليه أن سلامة لم يتصرف خارج الترسيمة التي جاءت به بداية، ثم مددت له تباعاً حتى استقرت على 30 عاماً بالتمام والكمال، دون أن يجرؤ أحد على “رميه بزر ورد”، الا ما تطلبته المصالح الفئوية لبعض قوى السلطة من ابتزاز له، من خلال إدعاء العفة والظهور بمظهر المدافع “الامين” عن المالية العامة وأموال اللبنانيين، لتبلع ألسنتها في أعقاب حصولها على حصتها. أما المحاسبة لسلامة وسواه فالثابت أنها كانت ولا تزال مفقودة.
المضمر والمعلن
السيناريوهات التي كثُر الحديث عنها في الاسابيع الاخيرة تكشف حقيقة ما تضمره الطبقة السياسية وصولاً إلى الصيغة الأخيرة التي استقر عليها، بما هي التمديد لنواب الحاكم الاربعة، وتسلم المهمة الاولى من جانب نائبه الاول. أما محاولات تعيين حاكم جديد يتمتع بالمشروعية الكاملة، فقد تكفل حزب الله والتيار الوطني الحر والطاشناق بإفشالها، بما فيه منع انعقاد جلسة مجلس الوزراء للبت بأمر التعيين. أما نواب الحاكم الذين لوحوا بداية بالاستقالة للتنصل من المسؤولية، فإن اجتماعاتهم مع لجنة المال والموازنة النيابية، ولقاءاتهم المتكررة مع رئيس الحكومة ووزير المالية، كان الهدف منها الحصول على الغطاء القانوني للتصرف بأموال المودعين، وتقديم أوراق اعتمادهم، وعرض تصوراتهم حول ممارستهم لمهام تصريف أعمال المصرف المركزي، والتوافق على المخرج الممكن بشأن تحرير سعر صرف الليرة أمام الدولار، والحصول على وعد بإقرار قانون الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف وتحقيق التوازن المالي و…. وهي الطروحات التي تتوافق مع إدعاء الخلاف مع ما مارسه سلامة في الشهرين الاخيرين، وقاد إلى حال من الثبات في سوق القطع.علماً أن الثمن المدفوع لتحقيق الثبات المشار إليه كان على حساب المودعين والاقتصاد الذي فقد عدة مليارات دولار في غضون عدة أشهر، كما حدث في غضون السنوات التي ظهر فيها معالم الانهيار، وكان القرار السياسي واضحاً بالحفاظ على سعر الصرف ما أفقد البلد ملاءتها المالية.
لقد تبين بوضوح من أداء الطبقة السياسية أنها لا تبحث عن حلول فعلية تفصل بين دور المصرف المركزي ودور وزارتي المالية والاقتصاد، بقدر ما تحاول شراء الوقت واستثماره لصالحها من خلال طبع العملة، ودفع رواتب تفقد قيمتها بين كل صبح وعشية، وهو ما جربته بداية عندما اقترحت التمديد للحاكم ونوابه الاربعة تحت مطالعة عدم جواز تعطيل المرفق العام، وضرورة الاستمرار في إدارته من قبل نوابه والمجلس المركزي. لكن الشروط التي وضعها نواب الحاكم أمام رئيس الحكومة ولجنة المال في المجلس النيابي على صعيدي تحرير سعر الصرف وإلغاء منصة صيرفة أحبطت المحاولة. والأبرز في تلك “الدويخة” التي استهلكت أسابيع، أن الثنائي الشيعي كان يرفض أولاً تحمل عبء القرار المالي للدولة من خلال إشغال شيعييْن للقرار المالي مع كل أعبائه ومسؤولياته ونتائجه وسط الشح العام. الاول هو وزير المالية، والثاني نائب الحاكم الاول الشيعي هو الآخر والمسؤول عن القرارات النقدية التي سيتخذها، والتي يمكن أن تقود للقضاء على ما تبقى من أموال المودعين، وصولاً إلى رهن الذهب وغيره من ممتلكات عامة.
يمكن وصف ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده منصوري محاطا بأعضاء الحاكمية، وإن كان يعبر عن رغبة اصلاحية شكلاً، الا أنه يفتقد الالتزام – كما سيظهر لاحقاً – من جانب الطبقة السياسية تجاه مواجهة مضاعفات الأزمة المالية التي تطغى على البلاد. فالتوجه نحو تحرير وتوحيد سعر الصرف – كما يطالب صندوق النقد – يفترض التخلي عن منصة صيرفة. وهذه مسألة على قدر بالغ من الخطورة في بلد لا يتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي. باعتبار أن إخضاع سعر العملة الوطنية لقانون العرض والطلب، ودون تدخل من جانب المصرف المركزي من شأنه إثارة شهية المضاربين ومكتنزي الدولارات في خزائنهم. والملفت هنا أن يترافق الحديث عن الإنفاق من مما تبقَّى من الاحتياط الإلزامي المتوافر- أموال المودعين – مع الحديث عن تسييل التغطية الذهبية. ما يعني أن التغطية الذهبية باتت في المرمى مباشرة. كما أن توحيد سعر الصرف يتطلب تعاوناً من جانب وزارة المالية التي تأخرت في إعداد موازنة العام 2023 عشرة أشهر عن موعد تقديمها، وقدرة على ضبط للنفقات في بلد تصدر موازناته، إن صدرت، دون قطع حساب مع العام السابق. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يثير هذا مسألة احتساب الرسوم الضريبية، وقدرة الحاكم ونوابه على الصمود في مواجهة الضغوط السياسية التي ستتسلط عليهم من جانب المرجعيات النافذة، وهي سبق ومارست تهديدها لسلامة للانصياع لتوجهاتها وتجاهل مخاطرها على العلاقات المالية الدولية، وبين المصارف والمصرف المركزي، وعلى الاقتصاد برمته والوضع المعيشي للناس.
أما حديث الحاكم بالوكالة عن التوقف عن تمويل الحكومة إلا وفقًا لتغطية تشريعيّة يقرّها المجلس النيابي، وبسقف مالي واضح ولمدّة زمنيّة محددة، فهو الباب الذي ستدخل منه الرياح المسمومة من جانب الحكومة والمجلس على حد سواء. ويبقى القول إن ذلك يجب أن يترافق مع إقرار أربعة قوانين إصلاحيّة طلبها صندوق النقد الدولي، وهي: قانون الكابيتال كونترول، وموازنة العام 2023، بالإضافة إلى قانوني إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإستعادة انتظام القطاع المالي. وكما هو معلوم، سيفرض إقرار هذه القوانين الاتفاق على معادلات توزيع الخسائر، حسب الخطّة الحكوميّة التي تم إقرارها بالتوافق مع صندوق النقد الدولي، والتي تم على أساسها توقيع الاتفاق على مستوى الموظفين. وكلها أمور تتطلب جلسات نيابية مشكوك بانعقادها، أو التوافق على التوجهات بين مكونات المجلس، في ظل تواصل الفراغ الرئاسي الذي تعانيه البلاد، فضلاً عن مشاريع أو اقتراحات القوانين نفسها. وهو ما يبدو متعذراً في ظل الانقسام العمودي الحاصل. ثم هناك القوى المالية التي ستلقي بثقلها رفضاً للحد من أرباحها وامتيازاتها، وهو أكثر ما ينطبق على القطاع المالي وجمعية المصارف تحديداً، التي استطاعت في فترات معينة أن تفرغ توصيات صندوق النقد الدولي من مضمونها، لقطع الطريق على أي مس بأرباحها، واستمرت بالتواطؤ مع المصرف المركزي في نهب أموال المودعين وكأن شيئاً لم يكن. ومن المعلوم أن للجمعية “جنوداً مجندة” في مجلس النواب، تحول دون المساس بهيكليتها ومكتسباتها، حتى ولو كان ثمن ذلك خراب القطاع والبلد معه.
دون مزيد من الشرح يمكن القول إن الوعود بممارسة مختلفة عن ممارسة سلامة شيء، وتنفيذها شيء آخر. ولعل الايام المقبلة ستظهر أن نهاية عهد سلامة مجرد حلقة في مسار، يتابع خلاله قطار الانهيار سيره دون محطات توقف، بألف دليل ودليل. لعل الأبرز فيه تعذر التسوية الداخلية حول انتخاب رئيس جديد للبلاد، وما ظهر من خلاف بين رئاستي السلطتين التشريعية والتنفيذية لدى أول مناسبة، ما يستحيل معه اعتماد اصلاحات ضريبية وضبط الحدود السائبة. وكله يؤشر إلى تعذر فتح نافذة على الامل الذي يتطلب معاناة طويلة الأمد للوصول إلى تحقيق نتائج فعلية ملموسة. طالما أن أي اقتراح أو مشروع سيكون مجال تجاذب لا أفق مرئياً له.
Leave a Comment