محسن إبراهيم

ذكريات البدايات مع معلمي الأول

صلاح صلاح*

عشت اللجوء في أسوأ حالاته؛ عشت في خيم لمن هجّرتهم النكبة من فلسطين. خيم شديدة الحرارة صيفاً، وفي الشتاء حين يشتد البرد وتعصف الرياح تتساقط بعضها فوق رؤوس ساكنيها ، ليستيقظوا في الصباح وقد وجدوا أحد أطفالهم قد مات إختناقاً.

مخيمات تفتقر إلى أي من مقومات الحياة الإنسانية؛ بلا بنى تحتية، لا ماء ولا كهرباء ولا طرق، ولا مصارف صحية. يقطنها جيل مهزوم، محبط، يائس، يعاني مرارة فقدان الوطن بكل ما يعنيه من علاقات انسانية وتراث وحضارة وتاريخ وثقافة وتقاليد. في هذا الجو تتوزع في المخيمات نشرة صغيرة الحجم، من 8 صفحات (نشرة الثأر)، تنعش الأمل وترفض الهزيمة ولا تقبل الإستسلام للأمر الواقع. تدعو إلى التمرد، إلى إعادة تجميع القوى، إلى الإعداد ليوم الثأر. تحمست إلى هذه النشرة وصرت أحد موزعيها في مخيم عين الحلوة ومروجيها بين زملائي الطلاب. هذه النشرة هي المفتاح الذي أدخلني أوائل عام 1953 إلى بيت شاب ضعيف البنية قصير القامة لأحضر أول إجتماع لأول خلية للشباب القوميين العرب في الجنوب. الاجتماع  يحضره أربعة أشخاص ومسؤولهم الذي يُعقد الإجتماع في بيته “الأخ” محسن إبراهيم. يبدأ الحديث بإسم العروبة، يتحدث عن القومية العربية، الأنظمة العربية الرجعية ودورها في ضياع فلسطين. يركّز على الإستعمار ودوره في تمكين الحركة الصهيونية من إغتصاب فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، لكنه يسهب في الحديث التعبوي التحريضي، ودور الشعب العربي في مواجهة أعدائه، والدفاع عن مصالحه والنضال لتحقيق أهدافه في “الوحدة والتحرر والثأر”، ومدلولات كل واحد من هذه الشعارات الثلاثة. كان الإجتماع طويلاً، ربما لأنه التأسيسي، لم تكن مداخلاتنا طويلة، ليست أكثر من تأكيد تأييدنا لما قيل، وترحيبنا لأن نكون المجموعة الأولى لتأسيس فرع الشباب القوميين العرب في الحنوب (من صيدا حتى بنت جبيل).

“للإستاذ” محسن إبراهيم، كما ندعوه أحياناً بسبب مهنته في التدريس تلك الفترة، الفضل بأن وضعنا أمام هذا الخيار القومي وما يستوجبه من مهمات ومسؤوليات، وفي القلب منها قضية فلسطين. علّمنا الأحرف الأولى من أبجدية العمل الثوري المتواصل الذي لم أغادره. هو الذي نقل إلينا روح التحدي ورفض الهزيمة التي إنطلقت على أساسها المجموعة الأولى من الشباب القوميين العرب (حركة القوميين العرب لاحقاً)، وما يتطلبه ذلك من ضرورة إكتساب المعرفة والوعي، والتقيد الصارم بقرارات القيادة وتعليماتها. كان عليه أن يجسّد النموذج الذي يحاول الشباب أن يثبتوا من خلاله جديتهم وحماسهم وإستعدادهم العالي لتحمل المسؤوليات الصعبة التي يتصدون لها. لا تردد في المحاسبة على أي خطأ أو تقصير، ولا تساهل في الإنضباط والدقة في المواعيد. لكن هذا السلوك الذي يشترطه العمل لبناء تنظيم من نوع جديد سرعان ما يحل محله نموذج آخر للمسؤول المتواضع الودود، الذي يحرص على علاقات أخوية تجعل من المجموعة كأبناء أسره واحدة، يشعر كل منها بالحماية مع الآخرين. النقد ضروري لكن للتصحيح والتطور نحو الأفضل، والخطأ مفهوم ومبرر لكل من يعمل، المهم الإعتراف به ومعالجته. لم أر مثله في القدرة على ترطيب الأجواء وتوفير مناخات إيجابية، والتغلب على الصعاب والتعقيدات التي كنا نواجهها- وما أكثرها- بإسلوبه المرح وسرعة بديهيته في “القفشات” المحببة وإستنباط المزح من الجد.

من المعروف أن قضية فلسطين هي محور الإهتمام في برامج وتوجهات الشباب القوميين العرب، بإعتبار أن وجودهم كان ردة فعل على النكبة عام 1948 التي هزت ضمير العالم، فمن الطبيعي أن تترك تأثيراتها العميقة في أوساط الشعب العربي، السلبي منها والإيجابي، خاصة أن القوى المعادية الي إغتصبت فلسطين وشردت شعبها لم تكتف بذلك، بل أرادت إستغلال الوضع المأساوي للاجئين الفلسطينيين للوصول من خلالهم إلى حل بتوطينهم وتجنيسهم في البلدان المقيمين فيها أو غيرها من جهة، ودعوة الدول العربية للإعتراف بإسرائيل والصلح معها من جهة ثانية. هنا كان ميدان الإختبار الأول للشباب القوميين العرب ليثبتوا جديتهم في حمل أعباء قضية فلسطين، بدءاً من التصدي لمشاريع تصفيتها المتكررة، وبرعاية دائمة ومباشرة من الولايات المتحدة الأميركية.

من الطبيعي أن يتوجه الشباب إلى المخيمات لتعبئة سكانها المستهدفون بهذه المشاريع وتحريضهم وتعبئتهم، وتقديم كل الدعم الممكن لهم لمقاومتها وحماية حقهم في وطنهم وأرضهم والعودة إليها. كانت الخطوة الأولة إصدار نشرة الثأر بتوقيع هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل، وتوزيعها على أوسع نطاق. يترافق معها زيارات وتنظيم لقاءات وندوات في المخيمات، والتي كان الإستاذ محسن إبراهيم من الناشطين فيها، وبداية إحتكاكه مع الفلسطينيين والتعرف بالعيان على واقعهم اللا إنساني. ديوان الأمير حسين العلي هو المكان المفضل إليه الذي يرغب زيارته كلما سنحت له الفرصة؛ وهو عبارة عن خيمة كبيرة يلتقي فيها، يومياً، وجهاء القرى وكبار القوم الذين حملوا ألقابهم ومكانتهم من فلسطين، وحافظوا على إعتبار أنفسهم المرجعية في المخيم.

كان يستمتع لقصصهم ورواياتهم عن فلسطين والأنظمة العربية التي خدعتهم في ثورة 36 وخانتهم في حرب 48. ويُجمع المتحدثون أن الفلسطينيين، لو زوّدوا بالسلاح والعتاد، لكان بمقدورهم أن يدافعوا عن فلسطين، ولما نجح اليهود ومن يدعمهم بإقامة دولة إسرائيل. أُعجبت بقدرته على إستغلال هذه الثقة بالنفس قبل النكبة لإقناع الحضور بالحفاظ عليها بعد النكبة، وألا يخضع اللاجئون لليأس والإحباط، وأن لا يُمكنوا العدو من تحقيق إنتصار جديد بتصفية القضية من خلال المشاريع المشبوهة، وأن يعمل الفلسطينيون مع إخوانهم العرب للإعداد ليوم الثأر.

تحقق الحلم وتحول الأمل إلى واقع بإنطلاقة الثورة الفلسطينية في منتصف الستينات، والتي واكبها أبو خالد بالتبشير والإعداد والقيادة. إنتقل من الإجتماع مع مرجعيات المخيم في عين الحلوة إلى الإجتماع مع مرجعيات الثورة في الفاكهاني، ومن داعية لتنظيم الفلسطينيين إلى شريك معهم في القتال للتحرير والعودة.

ولا أنسى في يوم عاصف شديد البرودة في فصل الشتاء كنت في بيته لأحضر أحد الإجتماعات، أرتجف لأن ما ألبسه لم يكن كافياً ليحميني قساوة البرد. يرفع الجلسة لدقائق، ويدخل إلى غرفته عائداً بجاكيت يضعه على كتفي ليدفئ قلبي المرتجف.

أدعو له الدفئ في جنات الخلد… رحماك الرفيق والصديق والقائد

*مناضل فلسطيني وأحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

Leave a Comment