*دلال البزري
كلما حلّت الذكرى، أو وقع ما يذكِّر بها، طلعت الأناشيد بحقّ تاريخها. إنها الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت منذ حوالي نصف قرن وانتهت منذ أكثر من ثلاثة عقود. … من وقتها، صرنا على موعد مع كليشيهات من نوع: الحرب كانت هي الفتنة. الفتنة. احذروا الفتنة. “تنْذكر وما تنْعاد. … يليها وصف دقيق، مُعادٌ للمرّة الألف لأهوالها، لعمليات الخطف والذبح والتهجير والحرق والتدمير؛ وإجماع كل “القيادات” على ذمّها، واستنتاجات سياسية مكرّرة، تحييها اللحظة والموازين؛ من قبيل ضرورة التفاهم والحوار، ضرورة إحياء مؤسّسات الحوار وإشراك المرجعيّات الإسلامية والمسيحية، ضرورة التوافق، والميثاق والتسوية… وإجماع على رفع الصوت ضد عودتها. جلّهم، وفي سبيل إحراج خصومهم، يتذكّرون الدولة بهذه “المناسبة”. يتأسّفون على نخرها، يوزّعون المسؤوليات، هنا وهناك بحسب درجات العداوة، ويعودون إلى عرينهم سالمين.
وحتى الذين يقودون عملية النخر هذه، أو يساهمون بها من منطق “سلطة الشديد القوي في الميدان”، أو من منطق الردّ على هذا الشديد القوي، ينشدُون النغمة ذاتها. سواء حلَّت الذكرى، في الثالث عشر من نسيان/ إبريل، أو وقعت “فتنةٌ” من تلك الفتن المتنقّلة على امتداد الأراضي اللبنانية. الطائفيون من بينهم أقواهم لسانا وأشدّهم حماسة لإدانة هذه الفتنة، والتذكير ثم التذكير بلا كلَل “إياكم والحرب الأهلية” و”إياكم والفتنة”.
والطريف أن التوق إلى “السلم والسلام”، من قبيل تعالوا نحبّ بعضنا بعضا، نصلّي أو ننشد معا، نعيّد بعضنا بعضا، نمتدح أنبياء وقدِّيسي بعضنا بعضا… أصحابها من الرابضين على قلوبنا منذ نهاية الحرب بحَسَنَة نظام طائفي كان من أسس هذه الحرب وقواعدها. ولم يعمّروا على مقاعدهم الزعامية، إلا بفضل ذاك القانون الانتخابي الفاصل بين الطوائف، الذي يضعها في منزلة العداوة المباشرة أو الملطّفة أو المغلفة تجاه الطوائف الأخرى. أدواتهم التعبئة الطائفية أو المذهبية، الفجّة أو اللطيفة. وهي تعبئة تقوم على اللسان وعلى ميزان الحصص بين أبناء الطوائف، في مناحي حياتهم المصيرية منها كما التفصيلية.
أي أننا ننسى “دروس” الحرب الأهلية، التي لا نذكُر غيرها عندما تحضُر ملائكة الصراع. وفي الآن عينه، نقيم على فوّهة بركان طائفي: في قلب حرب أهلية “باردة” منذ ثلاثة عقود، بأدوات الحرب الأهلية “الساخنة” التي وقعت منذ نصف قرن. ومن دون كرٍّ وفرٍّ، من دون سفك دماء … إلا بالتقسيط.
ما الذي يجعل تذكّر الحرب الأهلية بهذه الطريقة فعلا من أفعال النسيان الحقيقي؟ طريقة اللازمات الفارغة، التي تميت الذاكرة، بدل أن تحييها؟. … نهاية الحرب أولا، وقد أفضت إلى حكم زعماء المليشيات التي خاضت الحرب وارتكبت أعمال القتل والتهجير والحصار. الاتفاق الذي نفذت بعض بنوده، نزع سلاحها، وأصعدها إلى الحكم، مع استثناء بقاء سلاح حزب الله على أساس “مقاومة إسرائيل”. أي أن زعماء الحرب لم يُحاسبوا على جرائمهم، إلا واحداً، هو سمير جعجع (زعيم حزب “القوات اللبنانية”، المسيحي)، الذي دفع ثمن رفضه الوصاية السورية، بالسجن 11 سنة لجريمةٍ (لم يرتكبها؟)، وكانت أقل سفْكاً للدماء من جرائمه في أثناء الحرب.
لاقى مبدأ عدم المحاسبة الذي دشّن نهاية الحرب صدىً شعبيا قويا. يريد كل الناس أن ينسوا، أن يستأنفوا عيشهم الطبيعي. لم يصدّقوا أن الحرب انتهت، ومعها مفرداتها ويوميّاتها وقتلاها ومخطوفوها ومختفوها. الباحثون، الأكاديميون، المحلّلون… يريدون ردم هوّة النسيان هذه. ينهمكون في تاريخ لبنان الحديث؛ وغالباً على أساس نظري “جديد”. ولكن هذا الأساس لا يمنعهم من الاختلاف، على تاريخ هذه الحرب. وبالتالي، على تاريخ نشأة لبنان، فهم لا يقرأون التاريخ في الكتاب ذاته.
ويكون البحث في وقائع هذه الحرب نوعاً من إحياء لفتنة، لا يجمّدها إلا تشابه معارك الطوائف في عملية المحاصصة الكبرى على خيرات الدولة… ولا تعني “الخيرات” هنا إلا متساقطات “دعم خارجي” يتسرّب من بين أصابع أصحاب الموقع أو الهيبة أو السطوة الأشد. ولكن الموضوع لا يتوقّف عند ذلك: سلوك القادة يشجّع على النسيان واقتصار التذكّر على كلمات فارغة، أو تحريضية.
خذْ مثلاً من بين الأمثلة: ما وصِف في السنة الأخيرة من الحرب أنه “حمّام دم” بين حزب الله وأمل (شيعية)، لا أحد يذكره. أو “حمّام” آخر، بحقّ مليشيات “الأحرار” وعلى يد “الكتائب” (مسيحية) في عملية الصفرا الكسروانية…
إليكم النافر منها، المرئي، الذي يجب أن لا يُنسى، خدمة للذاكرة المسكينة. … وليد جنبلاط: إثر اغتيال والده على يد أفراد من حاجز عسكري سوري نصبوا له كمينا، قرب بلدته المختارة، يزور حافظ الأسد، بعيد هذا الاغتيال، ويشكّل تحالفا مع “سوريا البعث”، حتى وفاة هذا الأخير. وجنبلاط نفسه الذي قاد حملة اتهام الأسد الابن باغتيال رفيق الحريري يزور ثانية دمشق، ويشيد بمواقف بشّار الرامية إلى “تعزيز الاستقرار في لبنان”… سعد الحريري، ابن المغدور رفيق الحريري بأمر من بشار الأسد، كما اتّهمه هو أيضا… يقوم بزيارة “تاريخية” إلى دمشق، بعد أربع سنوات على اغتيال والده. يبحث هناك “كيفية تجاوز الآثار السلبية التي شابت العلاقات بين البلدين”، و”مرحلة جديدة في العلاقات” … إلخ.
نحن بإزاء عمليات غفران بالجملة لجميع أنواع القتلة، أكانوا زعماء كبارا أم مواطنين بسطاء. ولكي نستمر على قيد الحياة علينا النسيان، كأن شيئا لم يكن، بالأمس، ولن يكون اليوم. ننساه، فنتمكّن من الاستمرار على قيد الحياة، ولا نُصاب بداء الذاكرة المطعونة يوميا بسلاح هذا الغفران. وبما أن هذه الحالة أو هذه العملية لها أثر بالغ على مصيرنا، على مجرى حياتنا، على أدق تفاصيل يومياتنا، وكلها سلبيّة كلها تخريبية… ماذا نفعل لكي نستمر؟
نتكيّف… والمَلَكَة الأساسية للتكيّف، بعد المرونة والخيال والإرادة،… هي النسيان. فإذا تمتّعتَ بكل المواصفات الثلاث هذه، وبقيت تتذكّر، ستكون وحيدا، معذّبا، يعتقد من حولك أنك أُصبتَ بالجنون. لا لأنك تتذكّر، أو تحزن… إنما لأنك لا تفهم كيف أن الذي يسكن عقلك الآن، وقلبك، وكيانك وجسدك، وبكوابيسك وأحلامك… لا تجد له الكلمات. وإن أصرَّيت عليها ووجدتها، تكون هامشيا، تعابيرك عشوائية، ذائبة، تائهة، وسط بحرٍ من التعقّل والتدبّر والانسجام مع الظروف.
الذي حصل أخيراً: خطف واغتيال مسؤول حزبي طائفي علي يد عصابة سورية، فاندلاع أعمال عنف تجاه أي سوري لاجئ في البلاد، وبدعم من رسميين، وزراء ورجال دين، ليسوا بالضرورة من أعضاء هذا الحزب. نضع خلفنا كل الذي خرّب ديار هؤلاء وأخرجهم من بلادهم، ونقبر “الفتنة” بين اللبنانيين بالانقضاض عليهم. فيكون نسياننا مزدوجا هذه المرّة، يتشكّل من طبقتين عريضتين: واحدة لبنانية وأخرى سورية. الأولى أقدم من الثانية. والاثنتان محرومتان من التذكّر.
ولا نهمل هنا كل الأعمال الأدبية والفنية التي استلهمت الحرب الأهلية. ولكنها، رغم عمقها وجمالية بعضها، بقيت قليلة، كئيبة، وحيدة، لا تفاعل بينها وبين محيطها، لا فنيا ولا سياسيا. لم تتسبّب بانتفاضة الذاكرة، أو بتسلّلها إلى الأفراد، المكابدون من أجل بقائهم، مجرّد البقاء.
الآن: الأسئلة ما زالت مطروحة. كيف نتذكّر؟ من نتذكّر؟ متى نتذكر؟ ثم، هل يكفي أن نتذكّر؟
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 18 نيسان / ابريل 2024
Leave a Comment