زهير هواري
بيروت 6 ايلول 2024 ـ بيروت الحرية
لم ولن يكون العدوان الإسرائيلي الواسع الذي تعرضت له الضفة الغربية المحتلة بدءاً من تاريخ 28 آب / أغسطس وأدى إلى استشهاد وجرح العشرات وما تلاه ، الأول أو الأخير. فهو ليس الأول بالتأكيد، ولن يكون الأخير بالطبع، بالنظر إلى جذرية الخطة الصهيونية للضفة، وقد باتت معروفة، ولا تحتاج إلى من يكشف عن مضمراتها، باعتبارها يهودا والسامرة لدى اليمين التوراتي، ما يقضي بتهجير أهاليها إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، واسكان مستوطنين مكانهم في اطار قيام إسرائيل الكبرى.
والاستهدافات الاسرائيلية تتوالى فصولاً منذ أن سقطت الضفة تحت حراب الاحتلال في العام 1967. وعليه فهي لا تقتصر على تهويد القدس كعاصمة أبدية لدولة الاحتلال، وتغيير هوية سكان مدينتها القديمة وهدم المسجد الاقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، والتخلص من كنيسة القيامة كمأثور مسيحي. بل تضمن تهجير الكتلة البشرية الفلسطينية كاستكمال لنكبة العام 1948. بالإضافة إلى ذلك، تتصاعد محاولات إشعال الصراعات الدينية والعقائدية انطلاقاً من القدس من خلال تكرار اقتحام المسجد الأقصى من قبل الوزير ايتمار بن غفير مع أنصاره، ودعواته الصريحة لبناء كنيس يهودي فيه. وقد تبين لاحقاً كما تفيد المعطيات أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو كان قد صدّق على اقتحام بن غفير للأقصى رغم إنكاره، كما تبيّن تصديقه على مخطط “سري” لسموتريتش لتغيير الأوضاع في الضفة الغربية بكاملها وتقسيمها والسيطرة عليها.
والزحف الاستيطاني الاسرائيلي يشمل كل أنحاء الضفة الفلسطينية دون استثناء مدنا وقرى، أملاكاً عامة وخاصة، وضمنه حوض نهر الأردن في الاغوار، ويصل حتى إلى المناطق الرعوية الصحراوية في النقب وغيرها. وقد ربط الكثيرون بين العدوان الراهن هذا الذ ي نشهده حالياً، وما شهدته الضفة في أعقاب الانتفاضة الثانية في العام 2002 من خلال عملية السور الواقي. والتي وُصفت يومها بأنها الأكبر. لكن بين العدوانين 22 عاما بالتمام والكمال، ولكن الأهم من الفارق الزمني بينهما هي الظروف التي تجتازها قضية فلسطين في محيطها العربي والدولي وما تعانيه اليوم، وتحديدا منذ السابع من تشرين الاول / اكتوبر 2023 ، وما تلاه من عدوانية وشراسة اسرائيلية بلغت ذروتها في ما يشهده قطاع غزة من حرب إبادة وتدمير منهجي لم يتوقف منذ 11 شهراً. وهي حرب مرشحة في أن تنسحب على الضفة الغربية بدليل ما شهدته مؤخراً منطقة شمال الضفة وتحديداً جنين وطولكرم وطوباس ونابلس ومخيماتها. ولعله من المرات النادرة التي تستعمل اسرائيل في هجماتها على الضفة قوة عسكرية بهذا الحجم، شارك فيها لواء «غفير»، ووحدة القوات الخاصة «دوفدفان»، ومهندسون قتاليون، وشرطة حرس الحدود، ومدرعات وجرافات تحت غطاء جوي كثيف من الطائرات الحربية والمروحية والمسيَّرة. وكل ذلك كان مسبوقاً بمساهمة المستوطنين من خلال إقامة الحواجز وعزل القرى وممارسة عمليات قتل واغتيال الفلسطينيين، والاعتداءات المتكررة على المنازل وقطع الطرقات والعمل على احراق القرى وممتلكات المواطنين ومزارعهم واقتلاع أشجارهم المثمرة وقتل المواشي وغيره مما يتفنن به الاحتلال وأجهزته ومستعمريه.
الإجلاء و”المناطق النظيفة”
والحقيقة أن المسؤولين الاسرائيليين أفصحوا عن نواياهم المبيَّتة إزاء الضفة وأهلها بالكلام الصريح، إضافة إلى الافعال والممارسات خلال الأشهر والسنوات والعقود الماضية. إذ بدا واضحا حديث العديد منهم في الفترة الأخيرة عن ضرورة القيام بعملية “إجلاء” الفلسطينيين من الضفة، ما يعيد التذكير بما جرى الكشف عنه من خطة لتهجيرهم نحو الضفة الشرقية لتحقيق مشروع اسرائيل الكبرى، وبالتالي توسيع ما هي عليه الآن من مساحة كما أشار إلى ذلك المرشح الجمهوري دونالد ترامب في تصريح أخير له. وعليه، يعتبر الإسرائيليون أن فلسطين التي يتحدث عنها الفلسطينيون هي الضفة الشرقية لنهر الأردن، وهذه هي مكان دولتهم الموعودة. ولعل المقارنة بين ما تعانيه غزة ومدنها ومخيماتها مع ما تشهده الضفة يكشف عن المشترك بينهما، بما يجعل مقومات الحياة متعذرة إن لم نقل مستحيلة في كليهما. فاذا كانت اسرائيل تتذرع بوجود وحدات مقاومة كمبرر للقضاء على كل معالم العمران والحياة في القطاع، وإرغام الاهالي على الرحيل من الشمال إلى الوسط والجنوب وبالعكس مراراً وتكراراً، فالذريعة نفسها عن وجود خلايا مقاومة في المخيمات والمدن الفلسطينية تستعمل في الضفة، وتبرر لدى المؤسسات السياسية والعسكرية الاسرائيلية شن الحملات اليومية المتلاحقة، وقتل كل من تتمكن من قتله من الشبان المقاومين وذويهم وبيئتهم الحاضنة ونسف بيوتهم. يضاف إليها تدمير البنية التحتية بواسطة الجرافات الثقيلة، ما أدى إلى قطع الطرقات إلى المستشفيات وتحطيم خطوط جر المياه والمجاري الصحية وخطوط الهاتف والانترنت وغيرها من تجهيزات مدينية وحرمان الأحياء من الحصول على خدماتها.
فوزير الزراعة آفي ديختر، وهو بالمناسبة عضو المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابنيت)، اعتبر أن إسرائيل تخوض حرباً شاملة ضد حماس في غزة، وحرب استنزاف ضد حزب الله في لبنان، وحرباً ضد الإرهاب في الضفة الغربية. ووصف ديختر حرب الضفة بأنها بظروفها ومقدراتها مختلفة عن الحربين الأخريين، خصوصاً في منطقة جنين ونابلس والمناطق المحيطة بهما، حيث تعتمد العمليات العسكرية على “معلومات واسعة”. وأشار إلى أن هناك ظاهرة جديدة تتمثل بتشكيل كتائب من عدة منظمات فلسطينية هدفها “قتل اليهود وإلحاق الأذى بالجيش الإسرائيلي”، محذراً من أنه إذا لم يجرِ التعامل مع هذه الظاهرة في مناطق وجودها، فسيضطرون إلى مواجهتها داخل إسرائيل.
و حول الإجلاء ذكر أنه: “إذا كان الحفاظ على سلامة جنودنا الذين ينفذون المهمة ضد بُني الإرهاب يتطلب إجلاء الناس، فليتم إجلاؤهم. لا نرسلهم إلى الخارج، ولكن نجليهم بحيث يعودون لاحقاً إلى منازلهم وأحيائهم. الهدف هو العمل في منطقة نظيفة من المدنيين قدر الإمكان، ما يتيح التركيز أكثر على المخربين واستخدام نيران أكثر كثافة ودقة. نحن نطبق ذلك في غزة بوتيرة كبيرة، وفي النهاية، الحرب لها قاعدة واحدة مهمة يجب علينا تطبيقها: في الحرب، الدولة تستخدم كل الوسائل المتاحة أمامها، ولا توجد مشكلة في استخدام طائرة F-16 مقابل سلاح بندقية M- 16 إذا كان هذا يحقق الهدف ويقلل من خطر إصابة جنودنا. وهذه القاعدة تنطبق على غزة وكذلك على نابلس”. وهذا المستوى غير المتكافيء من العنف وأدواته يعبر عن حقيقة المشروع الصهيوني للضفة بما هو إحلال بنية سكانية من المستوطنين محل أهالي الضفة النظيفة بعد تطهيرها العنصري من سكانها الفلسطينيين، بعد اقتلاعهم من مدنهم ومخيماتهم حيث نشأوا إلى ما يزعمون أنها أماكن إقامة مؤقتة، وهو ما يفسر مرافقة الجرافات لكل عملية عسكرية.
كاتس ونتنياهو وشركاؤهم
ولم يقتصر التحريض على وزير الزراعة، فقد كان وزير الخارجية يسرائيل كاتس، قد سبقه إلى القول حول العملية العسكرية في الضفة الغربية “إن على إسرائيل إخلاء الفلسطينيين مؤقتاً والتعامل مع التهديد بالطريقة نفسها التي تتبعها إسرائيل في قطاع غزة، بما في ذلك الإجلاء المؤقت للسكان”. واتهم إيران بالسعي لإنشاء جبهة ضد إسرائيل في الضفة الغربية، على غرار غزة ولبنان، من خلال تمويل وتسليح المقاتلين.
أما مواقف كل من الوزيرين ايتمار بن غفير وبتسئيل سموتريتش وهما أصل وأساس الفكر العنصري التطهيري، فتتركز على تعميم نشر السلاح بين أيدي المستوطنين ودعوتهم لاستخدامه على نطاق واسع، وشرعنة البؤر الاستيطانية والمصادقة على إقامة آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة، ودعم المستوطنين الذين يعتدون على الفلسطينيين ويحرقون بيوتهم وممتلكاتهم. إلى جانب الضغوطات الاقتصادية والمالية على السلطة وحرمانها من عوائد المقاصة وغيرها والضغط التجويعي على الأهالي ومنعهم من العمل في المستوطنات الإسرائيلية والتلويح باستقدام عمالة هندية وآسيوية بدلاً منهم. ومثل هذه الاعتداءات والسياسات توصف حتى من قبل بعض الأوساط الإسرائيلية بأنها “إرهاب يهودي”.
أما نتنياهو، فقد وصف هدف عمليات عسكرية سابقة في الضفة، بـ “تغيير المعادلة أمام الإرهاب”. أي أنه لا يرى في مواجهات الضفة سوى شكلاً من الإرهاب، وليس نضالا من أجل انتزاع الحقوق السياسية المكرسة أمميا ودوليا. ويستمر هذا الفكر اليوم كجزء من مخططات أوسع توافقت عليها هذه الحكومة اليمينية المتطرفة منذ تشكيلها. وقبلها برزت خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، باعتبار ذلك فرصة ملائمة قد لا تتكرر لاعتماد قرار ضم الضفة، والتخلص مما ورد في اتفاق اوسلو من تقسيم الضفة إلى ثلاثة أجزاء لكل منها أحكام مختلفة عن سواها. وهو ما أعلنه نتنياهو عدة مرات. وتتضمن مثل هذه السياسة التخلص من السلطة الوطنية الفلسطينية، ما يعني الإطاحة بحل الدولتين التي تحدث عنها بايدن وقبله أوباما، قبل أن يأتي ترامب فيستبدله بمشروع صفقة القرن الذي أعده صهره جاريد كوشنر الذي تحدث في مشروعه عن تحسين الوضع الاقتصادي فقط مع بقاء السيطرة والسيادة الإسرائيلية على الضفة. أما الآن فيعلن ترامب أن مساحة اسرائيل صغيرة، ويجب توسيعها في الجولان السوري الذي اعترف بضمه لإسرائيل خلال رئاسته عام 2019، ثم طموحه أن يشمل التوسع الضفة الغربية، علما أنه ما تزال تعتبرها الأمم المتحدة أرضا فلسطينية محتلة منذ العام 1967. وكذلك نحو الأردن ولبنان بطبيعة الحال، ولعل الاستعداد للعودة إلى احتلال جنوب لبنان وبناء مستوطنات فيه هو جزء من المخطط. على أن يرافق ذلك التخلص من السلطة الفلسطينية، وهو ما يترافق مع تعدد أشكال قهر إرادة الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً. وعليه، يمكن وصف كل الممارسات التي تنفذها إسرائيل كدولة وقوى سياسية ومجتمعية بأنها تهدف إلى دفع الفلسطينيين للهجرة والرحيل عن ديارهم، وهو ما يتم اعتماده في قطاع غزة والضفة الغربية على السواء.
يقول نتنياهو: “حتى اليوم كانت إسرائيل دائماً هي من يجب أن تتنازل، وأن تعطي، وأن تجمّد، وأن تنسحب، والآن يأتي الرئيس ترامب ويقول إن إسرائيل ليست هي التي عليها التنازل، بل الفلسطينيين هم من يجب أن يتنازلوا”. ويرفض نتنياهو كما سبق وأعلن أكثر من مرة حكم فتح في الضفة وحماس في قطاع غزة، ما يعني أنه لا يرى في سلطة أوسلو وسواها شريكاً. كذلك فهو لا يعترف بوجود الشعب الفلسطيني أصلاً وبالأساس. ولذلك تتمحور كل مخططاته في كل من الضفة والقطاع على كيفية تمرير ترسيخ سيطرته على كليهما، وإعادة احتلالهما ثانية وثالثة بالاستناد إلى التحالف اليميني الذي يقوده، وبالإتكاء على الدعم السياسي والعسكري الأميركي والغربي.
تسريع آليات السيطرة الصهيونية
ولتسريع عملية السيطرة على الضفة الغربية تسعى قوى اليمين الأكثر تطرفا بزعامة بن غفير و سموتريتش وكاتس وغيرهم إلى نقل جزء من صلاحيات الجيش على الإدارة المدنية إلى الوزير في وزارة الأمن سموتريتش، وإخضاع حرس الحدود لوزير الأمن القومي بن غفير، ما يمنحهما صلاحية التحكم في الكثير مما يحدث في الضفة، ولاسيما بالعلاقة مع الفلسطينيين الذين يزاحمهم المستوطنون على مقومات عيشهم وبقائهم في ديارهم. بالإضافة إلى توسيع الاستيطان من خلال تنظيم وتعزيز البؤر الاستيطانية ومنحها مكانة قانونية، وهذا يرتبط بخطة التعديلات القضائية التي تحاول الحكومة تمريرها، والتي تمنحها قوة لتنفيذ سياساتها من خلال سنّ قوانين وأنظمة لن يكون بالإمكان شطبها من قبل المحكمة العليا الإسرائيلية. وهذا يفسر المواجهة المحتدمة بين حكومة نتنياهو وقضاة المحكمة العليا، وهو ما من شأنه أن يمدد حال الحرب في القطاع والضفة، ويؤدي إلى تغيير الواقع في كليهما على نحو جوهري، كما تم التخطيط له في السنوات الأخيرة استنادا إلى الخلل الفادح في ميزان القوى فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. .
وما جرى في شمال الضفة وتوسع نحو الوسط سيزداد خطورة في المقبل من الأيام ليشمل مختلف أجزائها، وهو ما يمثل الرد الإسرائيلي على المناخ الدولي من الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ورد كذلك على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس الذي أعلن عن نيته بالتوجه إلى قطاع غزة مع أركان منظمة التحرير لتأكيد فلسطينية القطاع ورفض إعادة احتلاله، ما يعني أن إسرائيل تصر على عودة احتلالها للقطاع. وتكريس الضفة أيضا كمنطقة وهدف يخضع للاحتلال العنصري هي الأخرى. ولذلك قطع الرئيس عباس، زيارته إلى السعودية لمتابعة آخر التطورات والمستجدات لـ “العدوان الإسرائيلي على شمال الضفة الغربية” المحتلة.
ما يجدر ذكره أنه قتل في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الاول /اكتوبر 2023 ما لا يقل عن 660 فلسطينيا برصاص مستوطنين والقوات الإسرائيلية، وفق تعداد أجرته وكالة فرانس برس استنادا إلى بيانات رسمية فلسطينية، ومن بينهم 125 طفلاً كما قالت اليونيسيف. فيما قتل ما لا يقل عن 20 إسرائيليا بينهم جنود في هجمات فلسطينية في الضفة الغربية خلال الفترة نفسها، وفقا لأرقام إسرائيلية رسمية. وهذا مجرد غيض من فيض الذين سقطوا في القطاع، وتجاوز عددهم حتى تاريخه أكثر من 150 ألف شهيد و جريح ومفقود تحت أنقاض بيوتهم المدمرة.
Leave a Comment