*يقظان التقي
فرضت عمليةُ طوفان الأقصى تحوّلاتٍ جديدةً، وسوف يتاح للبلدان العربية وسواها في المنطقة أن تقف عند تداعياتها من زاوية البلدان المعنيّة من بعد، إلّا لبنان الذي صار جزءاً من نسيجها المستمرّ في إعلان “جبهة الإسناد” غداة العملية في 7 أكتوبر (2023)، وحيث انطلقت في الحدود عمليات تبادل الضربات تحت سقف ما تسمّى “قواعد الاشتباك”، لتتحوّل إلى مستوىً آخرَ من المواجهات العنيفة في الشمال ومناطق واسعة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، تتسابق مع غزّة تحت وطأة القصف والتدمير والوحشية.
شهدت الأسابيع الماضية تصعيداً هستيرياً مخيفاً، فيسود الغموض الشديد بشأن اتجاهات الجيش الإسرائيلي بعد مرور أيام عدة لاختراق الحدود وسط مقاومة عنيفة لوحدات مستقلّة في الميدان، وبشأن عملية تفريغ سكّاني تجاوزت أرقامها المليون نازح، تدفع فيها إسرائيل إلى نزوحٍ جماعيٍّ يُهدّد وحدة الكيان ويُعتبر جريمة صارخة ضدّ الإنسانية. ذاكرة الحرب، لا تنطفئ في لبنان بوجه آلة الحرب الإسرائيلية المتعجرفة والمتغطرسة منذ أيام النكبة العام 1948، والآن أكثر بعد حرب غزّة الخامسة، في حرب وجودية مستمرّة في صراع الفلسطينيين واللبنانيين مع الكيان المحتل. وفي العالم كلّه كشفت عملية طوفان الأقصى تناقضات الرواية اليهودية، وهي تخلّف حولها أشكالاً من الحرب البشعة (أنطونيو غوتيريس)، وإراقة دماء تتوسّع بسرعة مع وهم القوة والسيطرة، والخيال العسكري، والميثولوجيات القديمة، وعنصرية صارت تطبع معها روح الغرب وممارساته وسلوكياته البغيضة غير الديمقراطية.
يشهد لبنان سيناريو فيلم من الخيال السياسي والحربي، لا يعرف أين ولا متى ينتهي. من كان يظنّ أن تطأ قدم القوات الاسرائيلية جنوب لبنان مرّة أخرى؟ … وحين يريد نتنياهو نصراً في لبنان، ينسي اخفاقاته في قطاع غزّة، ويضرب حزب الله، وهو الأقوى في محور المقاومة الممتدّ من طهران إلى المتوسّط، ومنه خطر اندلاع حرب إقليمية، هو أقصى العنف في المنطقة في ظروف مثالية، من ناحية وقوف الجانب العربي في هيئة المتفرج، وإزاء وضع دولي مريح؛ تحالف غربي ضمني وإدارة أميركية عاجزة.
مواصلة التصعيد لا تترك مجالاً للتفاؤل في تحدٍّ مغاير عن الحرب في العام 2006. التحدّي الآن هو في المدّة، وما إذا كانت لدى إسرائيل استراتيجية خروج واضحة من لبنان، بعد استنساخ ما فعلته في غزّة، ورفضها البحث في أي صيغة للحلّ الدبلوماسي لا تتضمّن نزع سلاح حزب الله. ما يعني أنّ لا قرارَ دولياً سينفّذ، ولا وقف لإطلاق النار (قد يصبّ في مصلحة المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية). لذلك ستكون الأسابيع المقبلة الفاصلة عن الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر أكثر الأوقات خطورةً، وأشدّها ضرراً على لبنان، فالحكومة الاسرائيلية تتهيأ للحرب منذ سنوات، وبحاجة الى ترجمة لإنجازات تكتيكية، وإلى نجاح سياسي يُعزّز سطوتها في المنطقة. لكن كما القضاء على حركة حماس في قطاع غزّة صعب، فإنّ القضاء على حزب الله مهمّة أصعب، وقد يكون الهجوم البرّي فرصةً يُظهر فيها الحزب قدراته الميدانية، ويُضعف الثقة الزائدة بإنتصارات إسرائيل المخابراتية والمعلوماتية أخيراً. وتكون الاحتفالات في إسرائيل مُبكّرة كثيراً في غزو قد يكلّف ثمناً كبيراً وفقاً للجيش الإسرائيلي نفسه.
يأتي هذا كلّه في وقت يعاني لبنان بؤس السياسة، ويصبح الأقصى في علاقات القوى في صراعها على مواقع السلطة مُجرَّد تأمين حاجات النازحين، والاهتمام ينصبّ الآن على مخاطر الاهتزاز الأمني تحت وطأة النزوح واتساعه مع ارتفاع المشاعر الطائفية على الرغم من مظاهر التضامن الوطني. صحيح الحياة لم تمت، والأضواء ما تزال تعمل، لكن مواقع البناء المدمّرة والمهجورة تكشف واقعاً مقلقاً، وكل ما يمكن رؤيته هو الأنقاض وسحابات الدخان الأسود تخيّم فوق العاصمة بيروت، والناس بين القلق والاغتراب مفصولون أكثر من أيّ وقت مضى عن مستقبل مشترك.
السؤال الآن، كيف يمكن أن يكون هناك سلام، حتّى لو أعادت الدبلوماسية المرحلة الى وضعها السابق في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فسيكون هناك مشهد لهجوم آخر، و”7 أكتوبر” آخر. وبوصلة وعود العالم قد تكون مختلفةً في الصميم ألأخلاقي من النوع الذي تَعِدُ فيه أميركا بالمرحلة التالية في الشرق الأوسط، فيما قرار مجلس الأمن 2735 (بناءً على خطّة جو بايدن) لا يزال حبراً على ورق بسب إسرائيل ورفضها إنشاء دولة فلسطينية مستقلّة. فيما مظهر القوة، هو ما تحتاج اليه إيران، حين يجول وزير خارجيتها عبّاس عرقجي لإسناد الحرب، ولنقض اتجاهات أهل السلطة في لبنان لوقف النار بمعزل عن غزّة، وهم في موقف الدفاع عن النفس من إسرائيل، لتجنبّ شكل انتقام لا حدود له، دمّر غزّة وقتل سكّانها، ويدمّر لبنان ويقتل سكّانه.
قد يعوّل كثيرون على “التركيبة اللبنانية” للرئيس نبيه برّي بالمقارنة مع حزبٍ كرّس إرتباطه الأيديولوجي بإيران على حساب “الهوية اللبنانية للطائفة الشيعية”. وقد لا تحمل الأمور ايجابيات كثيرة. فات أوان الفصل بين لبنان وغزّة. لا المواقف التي يطلقها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وآخرون، ولا زيارة الموفدين العرب والدوليين، يمكن أن تعدّل هذه الصورة في النزول إلى الجحيم، ويبقى التغيير غير واضح المعالم في اقتراح “الفرصة الأخيرة”، وفق الإعلان الرسمي الدولي المشترك استناداً إلى المقترح الأميركي – الفرنسي، الذي يتعهّد فيه التزاماً صارماً بتنفيذ القرار 1701 (كل فريق من فريقي الحرب يقرأ القرار ويفسّره بطريقته). مع ذلك، يمكن استغلال الوضع الأمني لإنجاز الاستحقاق الرئاسي مع رئيس توافقي (لا تحمله الدبابات الاسرائيلية مجدّداً)، ممّا يعيد الأمور إلى المؤسّسات الشرعية اللبنانية. هذا ما يطلبه المجتمع الدولي، الذي لن يكون قادراً على تقديم المساعدة الفعلية (باستثناء الإنسانية منها) من دون وجود مؤسّسات فاعلة وحكومة فاعلين جدد. لكنّ المُؤكّد الوحيد أنّ واقع احتراق لبنان يتدحرج تحت نيران خطّة إسرائيلية تريد أن تحرق كل شيء بتكلفة مرعبة، وتاريخاً دامياً تدميرياً بذاته في حروبها مع لبنان.
اعتقد اللبنانيون أنّهم طووا صفحتي 1982 و2006. اليوم السيناريو مختلف، ويتقاسم العديد من اللبنانيين الشعور بالغضب، إذ يعتقد كثيرون أنّ إيران سعت إلى استخدام الحزب ورقةَ مساومةٍ في التحالف الذي أنشأته ضدّ الولايات المتّحدة وإسرائيل، في سعيها لاستعادة الاتفاق النووي، وإنهاء العقوبات الاقتصادية. وبانتظار ما سيحدث في سورية والعراق (إذا انسحبت أميركا)، واتفاقيات قد تُدخل المنطقة في دورة عنف جديدة، فإنّ لبنان سيكمل بالذين يبقون منه، إذا اتفقوا، وإلّا سيتحول مشاعاً تتقاسمه إسرائيل وإيران مع قوى محلّية، ومناطقَ محايدةً تتصارع مع نفسها مجدّداً.
*نشرت في العربي الجديد يوم 11 تشرين الأول / أكتوبر 2024
Leave a Comment