صحف وآراء مجتمع

دراسة ذكرى الحرب الأهلية: نصفُ قرنٍ وخمسون تلوينة 2/2

كتب : بول أشقر*

١٩٨١ – ١٩٨٣ / الفلسطينيّون

يتساءل المرء إن كان عليه الحديث عن الفلسطينيين كعامل خارجي أو كعامل داخلي في التركيبة اللبنانية، قبل وبعد إتفاق القاهرة (الذي أبرم عام 1969 وألغي «نظرياً» عام 1987) الذي انعقد بين الجيش والمنظمات، والذي منح الأخيرة حق التواجد المسلح داخل المخيمات وفي بعض أنحاء الجنوب. قبل 1950، سكن الفلسطينيون في المخيمات التي شُيِّدت في الثلاثينات لاستقبال الأرمن. بعد عام 1950، توزعوا على 16 مخيماً في لبنان لم يبقَ منها بعد الحرب إلّا 11. بعد أيلول الأسود في الأردن عام 1970، انتقلت المقاومة الفلسطينية بقياداتها ومقاتليها إلى لبنان. كان قسم منهم متواجداً اصلاً في لبنان، ولكن في العقد الذي يمتد بين 1972 و1982، وبعد دخول القيادات الفلسطينية إلى لبنان وحتى خروجها منه، تحوّل لبنان إلى مسرح الصراع العربي الإسرائيلي الأول، وكذلك مسرح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يتحمل الفلسطينيون- أسوة بالباقين- مسؤولية كبيرة لا مجال لإنكارها في اندلاع الحرب اللبنانية التي دفّعتهم في المقابل فاتورة عالية. خلال حرب السنتين، تمّ احتلال كل مخيمات المناطق الشرقية وتدميرها (من هنا، تناقص عددها). وفي عام 1982، كان مخيّما صبرا وشاتيلا مسرحاً لإحدى أبشع المجازر– إن لم تكن الأبشع– التي عرفتها البلاد خلال كل سنوات الحرب. وعام 1983، حوصرت كل مخيمات الشمال ثم احتلت. وعام 1985، خاضت حركة أمل «حرب المخيمات» نيابة عن السوريين، وقد دامت حوالي السنتين وفرضت حصاراً قاتلاً على أكثرية مخيمات الضاحية والجنوب.

بعد تجربة عمّان التي أوصلتها إلى «أيلول الأسود»، كانت قيادة فتح حريصة ألا تتورط في السياسة اللبنانية (وهي على سبيل المثال الطرف الوحيد الذي كان قادراً على إمساك الأمن في بيروت الغربية ولم تفعل). إلّا أن بين النوايا والوقائع فرقاً شاسعاً لم يصمد أمام تعدّد الاتجاهات داخل فتح والعلاقات المميزة بين بعض المنظمات الفلسطينية وعدد من الأحزاب اللبنانية اليسارية الشقيقة، ناهيك بضرورة الدفاع عن مخيماتها أمام هجمات الأخصام على اختلافهم. في النتيجة، لم تتورط القيادة الفلسطينية وحسب، بل غرقت في المستنقع اللبناني، أسوة بالأطراف اللبنانية الأخرى، ما أوصلها في بعض الأحيان لتكون قوات فصل بين أمل وحزب الله في إقليم الخروب أو لتتحول إلى وسيط في الحروب المسيحية في المناطق الشرقية.

على الصعيد الإقليمي، حاولت القيادة الفلسطينية أن تحافظ على استقلاليتها بنجاح متفاوت تجاه القيادة السورية التي كانت قد قرّرت الإمساك بكل مكونات الجبهة الشرقية. أما مع إسرائيل، فكانت تتمرّس بين المواجهات والهدنات المتتالية (حتى اجتياح عام 1982) لكي تصبح مفاوضاً مقبولاً. ليس من الخطأ اعتبار أنّ الانتفاضة الأولى كانت نتاج نضالات الفلسطينيين في السبعينات، شرط أن نعي أيضاً أن «الانتفاضة» كانت مستحيلة طالما الوزن الفلسطيني الأساسي كان في لبنان. إنها مفارقة لافتة أن إنبعاث النضال الفلسطيني على أرضه كان يقتضي أن يبتعد بداية عن محيطه الجغرافي والذهاب إلى تونس قبل العودة إلى فلسطين. أخيراً، لبنانياً، فقط اليوم وبعد أكثر من نصف قرن من توقيع اتفاق القاهرة وبعد حوالي 40 سنة على إلغائه، يعود الحديث على إعادة انتشار قوى الدولة اللبنانية داخل المخيمات الفلسطينية. هل يتحقق وكيف؟

١٩٨٤ – ١٩٨٧ / سوريا الأسد

اللاعب الإقليمي الثاني هو سوريا الأسدية. دخلت إلى لبنان تضامناً مع سليمان فرنجية، وكان وقتَها الثلاثي عبد الحليم خدام– حكمت الشهابي– ناجي جميل ينشط كأي مندوب دولي حتى لو كان لسوريا بواسطة حزب البعث والصاعقة وجيش التحرير الفلسطيني أدوات محلية وميدانية. إن مجيء المندوب الأميركي دين براون ومكوثه في لبنان– ربما أغرب مندوب في تاريخ الأزمة اللبنانية، وكان يردد باستمرار أن ليس له أي مهمة محددة (!)– لعب دوراً حاسماً في إقناع كيسنجر وإسرائيل بفائدة التدخل السوري لحلّ الصراع المحلي. وهذا «التدخل» ضد عرفات والمقاومة الفلسطينية وتل الزعتر والحركة الحزبية القومية اليسارية اللبنانية ولصالح فرنجية والجميل وشمعون (المعترض كلامياً عليه) فرض على حافظ الأسد شرحه (وتبريره) للرأي العام في سوريا وحتى لكوادر البعث، خصوصاً أنه كان يواجه في الوقت ذاته صعوبات واضطرابات داخلية. ولكن التطورات الإقليمية مثل وصول اليمين بشخص بيغن (أيار 77) إلى السلطة لأول مرة في تاريخ إسرائيل، وزيارة السادات إلى القدس (تشرين الثاني 77)، واكتشاف الأسد أن جزءاً من الجبهة اللبنانية (بشير الجميل وشمعون) فتح علاقات مع إسرائيل بموازاة علاقته معه، ناهيك بمقتل طوني فرنجية إبن حليفه سليمان على يد الكتائب (حزيران 1978)، كل ذلك جعل من عقلية حافظ الأسد عام 1978 تختلف تماماً عن عقليته قبل سنة ونيّف: استوعب حافظ الأسد أن الجبهة العربية تفسخت إلى غير رجعة وأنه صار عليه السيطرة على كل مكونات ما يسمى بـ«الجبهة الشرقية» (وستبقى عقيدته الأساسية حتى وفاته)، أي إمساك أوراق سوريا بالطبع، ولكن إيضاً لبنان والأردن واللاعب الفلسطيني. برضاهم إذا أمكن، وإلا بقوة الحديد، كما فعل مع الفلسطينيين واليساريين اللبنانيين.

الآن، دقّت ساعة قوات الردع العربية. والقوات السورية صارت موجودة في لبنان كقوات نظامية استدعاها سليمان فرنجية والجبهة المسيحية، وأيضاً تحت بزّات «الصاعقة»، التنظيم الفلسطيني الموالي لسوريا، وأخيراً تحت تسمية قوات الردع العربية (حتى لو كانت هذه الأخيرة بإدارة عماد مصري، وتضمّ وحدات من عدة دول عربية). في تموز 1978، دارت معركة دامت مئة يوم بين القوات السورية والقوات المسيحية (بقيادة بشير الجميل)، وكرست الطلاق النهائي بين نظام الأسد والقوات المسيحية المسلحة. تخلل هذه «الحرب» استقالة الرئيس الياس سركيس (دامت عشرة أيام) الذي كان قد وصل إلى سدّة الرئاسة نتيحة تحالف الجميّل والأسد، وقد أدخل صراعهما عهده في أزمة وجودية عقّدت العلاقات في ما بعد بين القيادتين السورية واللبنانية. وغيّرت معركة الأشرفية المشهد والتحالفات: بعدها، بالنسبة للمسيحيين، صاروا يخوضون حربين: الواحدة مع الفلسطيني، والأخرى مع السوري، حسب تعبير سمير قصير. كرّس مؤتمر بيت الدين، في نهاية سنة 1978، انسحاب السوريين من بيروت الشرقية، وفي الوقت ذاته جدّد الثقة للقوات العربية التي اقتصرت بعد انسحاب المصريين ثم السودانيين واليمنيين والسعوديين والإماراتيين، على الوحدات السورية. في نيسان 1979، صارت قوات الردع العربية الإسم الفني للقوات السورية او للقوات الخاضعة لإمرتها مثل جيش التحرير الفلسطيني.

بعدئذ أخذ الدور الإقليمي السوري يطغى على الاعتبارات الأخرى، فلم يعد يرضى بتدخل الجيش اللبناني قبل تنقية صفوفه من العناصر المعادية للأسد وقبل انتشاره في الجنوب: هي حادثة كوكبا (1978) حيث لم يستطع الجيش الانتشار بسبب تصدي إسرائيل والميليشيات الحليفة له. عام 1981، دلت أزمة الصواريخ في البقاع والمعارك حول زحلة أن الطابع الجيو إستراتيجي للأزمة تغلّب على كل الباقي. وقتئذ، نجحت سوريا في إبقاء صواريخها ولكن إسرائيل دمرتها في أول يوم من الإجتياح عام 1982. قزّمت الحرب الإسرائيلية الوجود السوري في لبنان إلى أدنى مستوياته دون أن يمنعه ذلك من تصفية حساباته مع عرفات في طرابلس (1983). ولكن ما إن بدأ يتعثر المخطط الإسرائيلي (بعد اغتيال بشير الجميل) وبعد أن تلقت الوحدات الغربية ضربات موجعة الواحدة تلو الأخرى حتى تبيّن أن سوريا حافظت على الأقل على نصف الأوراق اللبنانية وعلى كامل أدوارها: كانت الوسيط في أزمة الرهائن (1986) والفاصل بين القوى المتقاتلة في بيروت الغربية (1987) وفي الضاحية (1988).

لم تنفع القمم الـ11 بين الأسد والجميّل- ولا الإتفاق بين مورفي والأسد على تسمية ميخائيل الضاهر رئيساً- في تنقية الوضع وشق طريق للحل. فانتهى عهد أمين الجميل بالفراغ الرئاسي وبحكومتين متنافستين. لم تغيّر حرب ميشال عون «التحريرية» من دور سوريا، بل استعجلت تدخّل القمّة العربية التي فرضت على سوريا في مؤتمر الطائف ضرورة إعادة انتشارها بعد مرور سنتين على تحوّل الاتفاق دستوراً. ولكن مشاركة سوريا في الائتلاف الدولي في حرب الخليج وسّع من حرية تصرفها في لبنان. فتخلّت عن التزاماتها وأصبحت عرّاب تطبيق اتفاق المصالحة الوطنية وسائق عربة الترويكا التي كانت واجهة الحكم في لبنان. الكل يسايرها ويريد رضاها باستثناء التيار العوني الذي يتحدث عن «احتلال سوري». إن وفاة حافظ الأسد والتغييرات والملابسات التي حصلت في سوريا للسماح لابنه بشار بالوصول الى الرئاسة غيّرت تدريجاً خارطة التحالفات في لبنان. وعلى أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فُرِضَ الانسحاب عليها من لبنان بعد 30 سنة من وجودها فيه، نتيجة الضغط الخارجي والداخلي. السؤال اليوم: علامَ ستستقرّ العلاقة السورية اللبنانية بعد سقوط آل الأسد؟

١٩٨٨ – ١٩٩٠ / إسرائيل

اللاعب الإقليمي الثالث هو إسرائيل. أسوةً بسوريا، فرضت الجغرافيا وجودها في هذه اللعبة، إضافة إلى أنّها المسبِّب الأساسي للمأساة الفلسطينية ولتواجد شعب فلسطين في لبنان. السهل مع إسرائيل أنها تقول ما تفعله، لا بل تبشّر به. يقول موشي دايان عام 1954 (في مذكرات وزير الخارجية موشي شاريت): ليس علينا إلا إيجاد ضابط لبناني، حتى لو كان مجرد نقيب. نستطيع أن نكسب ودّه، وإلا نشتريه، لنحرّضه كي يعلن نفسه منقذاً للموارنة. وعندئذٍ ندخل إلى لبنان ونحتلّ الأراضي الضرورية. حتى اليوم، ما زال اليمين المتطرّف يسمّي جنوب لبنان الجليل الأعلى. في حرب 1948، احتلّت إسرائيل أراضي لبنانية حتى نهر الليطاني، ولم تنسحب إلا عام 1949 بعد أن قضمت 7 ضيع لبنانية. خلال فترة 1949-1968 التي تسمّيها إسرائيل بـ«الجيرة الحسنة»، لم تتوقف يوماً اعتداءاتها. في الخمسينات، عبّرت إسرائيل عن إرادتها بتحويل 55% من مياه نهر الليطاني لأراضيها (مشروع كوتون). وكان هجوم إسرائيل على مطار بيروت وتدميرها كل الطائرات المدنية آخر أيام عام 1968 الدليل القاطع على بداية مرحلة جديدة. كانت ذريعة إسرائيل أنّ خاطفي طائرة كانوا قد عرجوا على مطار بيروت. من 1969 لغاية 1981، حسب أرقام الجيش الإسرائيلي، سقط للإسرائيليين 82 قتيلاً وكان ردّها على هذا التحدي الحقيقي والمحدود بعشرات من الغارات، كل واحدة منها تركت 80 قتيلاً، ودائماً باسم أمنها التي كانت ترفده كل مرة بصفات مختلفة. أما الهدف الدائم، فهو تحطيم ثقة الناس بالجيش اللبناني (طالما يتعايش سلمياً مع المقاومة الفلسطينية) والاحتفاظ لنفسها بحقّ التدخّل في لبنان، بما في ذلك حقها بأن تطرد إليه كل من قررت أنها لا تريده في أراضي الـ67.

عام 1976، فتحت إسرائيل مستوصفَيْن على الحدود وأنشأت 21 مركزاً عسكرياً. أما «النقيب» الذي كانت تبحث عنه، فوجدتْه بشخص الرائد سعد حداد الذي سيخلفه الضابط المتقاعد أنطوان لحد بعد وفاة حداد عام 1984. في «الكانتون الإسرائيلي»، فُرض التجنيد إجباري حتى لو تطلب ذلك محاصرة البلدات لإخضاعها. يشرف على الأمن والدفاع والإدارة مستشارون إسرائيليون (حوالي 200 عنصر)، مهمتهم فكفكة العلاقات مع لبنان وتأمين فرص عمل في الكيان الصهيوني، خصوصاً بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى. أخيراً ليس آخراً، كان الكانتون ممرّاً مميّزاً للبضاعة الإسرائيلية المقدّرة بـ3 ملايين من الدولارات شهرياً. ويبقى السؤال: لماذا زوّدت إسرائيل حدودها مع الأردن بنظام دفاع واستكشاف في نهاية الستينات فيما لم تفعل نفس الشيء في لبنان إلا بأواسط الثمانينات؟ الجواب شفاف: للحفاظ على حزمة من الأدوات لتدخّلها الدائم.

في آذار 1978، أدخلت إسرائيل 25 ألف جندي ولم تسحبهم إلا بعد إنشاء منطقتين عازلتين، واحدة بأيدي القوات الدولية والثانية تحت سيطرة الميليشيات المسيحية. عام 1979، أخذت هذه المنطقة إسم «دولة لبنان الحر»، والميليشيات اسم «جيش لبنان الحر». اجتياح عام 1982 هو نسخة مضخمة للسيناريو نفسه. ومع أنّ وقف إطلاق النار كان ساري المفعول بين إسرائيل ومنظمة التحرير منذ 11 شهراً، أصبحت فجأة غاية عملية «السلام في الجليل» طرد الفلسطينيين إلى 40 كلم ما وراء الحدود. ثم قررت القيادة السياسية المؤلفة من بيغن وشارون الوصول إلى بيروت وفرض بشير الجميل رئيساً. وعندما تراجعت تدريجاً تحت ضغط مقاومة (وطنية ثمّ إسلامية) فاعلة، مارست لدى كل انسحاب جزئي سياسة الأرض المحروقة بعد تأجيج التوترات المذهبية وتخريب البنى التحتية. وبعد الثمانينات، تحول القصف المدفعي روتيناً يومياً لإجبار المقاومة على البقاء في موقع دفاعي. عندما قررت إسرائيل أخيراً الإنسحاب عام 2000، انهار «الكانتون» التابع لها وتحرّر الجنوب وتوحد مع باقي لبنان.

ما يمكن استخلاصه من سنوات الحرب أنّ إسرائيل فرضت على سوريا خطوطاً حمراً، تراجعت عن بعضها إلا بما يخص تواجد قوات سوريا جنوب مجرى الليطاني. كما كانت تراهن دائماً على استمرار الحرب اللبنانية، وتؤججها عندما تهدأ وتتدخل فيها عندما تولع، خصوصاً وليس حصراً في الجنوب. العبرة الثالثة هي أنّ إسرائيل كانت ترفض بشكل منهجي انتشار الجيش اللبناني أو القوات الدولية إذا عنى ذلك فكفكة كانتونها أو ميليشياته. وأخيراً وليس آخراً، لإسرائيل دائماً خطط لحرب قادمة- سواء أعطيت لها الذريعة أم لا- كما حدث عام 1978 و1982، ولكن أيضاً في 2006 و2024.

إيران الجمهورية الإسلامية

اللاعب الإقليمي الرابع هو إيران الجمهورية الإسلامية. ولولا الثورة الخمينية، بالتأكيد، لما كان ورد إسمها بين اللاعبين الإقليميين الذين اختزلناهم بـ«الجيران». قبلها، أتى موسى الصدر الذي تَحَوَّل ظاهرة لبنانية. كان الصدر إماماً مميّزاً من أب لبناني، وقد ولد وتربّى ودرس في إيران، ولم تكن إيران– حليفة إسرائيل آنذاك– قد أصبحت عاملاً إقليمياً في لبنان. بلى، هي الثورة الإسلامية التي سمحت (بعد اختفاء الإمام موسى الصدر) بتوحيد أربعة اتجاهات أصولية في بداية الثمانينات لتصنع منهم «حزب الله» ولتعطي للطائفة الشيعية– الأقرب أصلاً لشيعة العراق– عرّاباً دولياً أسوة بالطوائف الكبيرة الأخرى. هذا «الاستثمار» الإيراني- ويضاف إليه الرضى الأسدي– هو الذي سمح لحزب الله بأن يتفرّد بمقاومة إسرائيل ثم أن ينجح في استقطاب العناصر الأكثر حيوية في الطائفة الشيعية (بعد التخلي عن نفوذ السيّد فضل الله) قبل أن يصبح القوة المهيمنة بداية في الضاحية وسهل البقاع وصولاً إلى الجنوب. أمّا المعارك الدموية بين أمل وحزب الله، فهي التي جعلت العرّابَين السوري والإيراني يتدخلان لفرض صيغة «الثنائي المتضامن» السائدة حتى أيامنا هذه.

في الثمانيات، تحوّل حزب الله إلى القاعدة المتقدّمة للمصالح الإيرانية في مسلسل الرهائن ولعب دور صندوق بريد لخلافات طهران مع الدول الغربية. وعندما صار لإيران مشروع إقليمي يجنّد شيعة العالم العربي الإثني عشريين، إضافة الى مذاهب أقلية أخرى كالعلويين في سوريا والحوثيين في اليمن، في ميني حرب عالمية سنّية شيعية، كان أيضاً حزب الله التلميذ الشاطر والنموذج المتقدم في ما سمّي بـ«محور الممانعة». وصار حزب الله يتحكم بقرارات الدولة اللبنانية، أو بالأحرى يمنع القرارات التي لا تناسبه (كما حصل مع «الجبهة اللبنانية» في عهد سليمان فرنجية وآخر عهد الياس سركيس، أو مع رفيق حريري- ولو بشكل آخر- الذي استبدل جهاز الدولة بجهاز تابع له). إلّا أنّ لهذا المشروع حدوداً تفرضها الطبيعة الأقلوية للمذهب الشيعي في العالم العربي. وكلّ ما نجح زعيم كاريزميّ مثل حسن نصرالله في مراكمته في قلوب العرب من غير الشيعة من رصيد وعطف نتيجة صموده أمام إسرائيل في حرب تموز عام 2006، عاد وبذّره بلمحة عين عندما صعد إلى سوريا (الأرجح بطلب إيراني) لإنقاذ نظام بيت الأسد. إلا أن عملية 7 أكتوبر (طوفان الأقصى) التي فرضت على حزب الله فتح جبهة إسناد لغزة، أدّت في النهاية إلى إثبات التفوق إسرائيل التكنولوجي وتلقين ضربات موجعة لقيادات حزب الله (وحماس). كما يبدو أن عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة ستشكل نقطة تحوّل تفرض على دول «محور الممانعة» سابقاً، تغليب مصالحها الوطنية على مشاريعها الإقليمية.

هل من حركات سلام وهل كان من الممكن تحاشي الحرب؟

عودة خاطفة للتاريخ: هناك نموذجان أمام أعيننا. الإدارة الذاتية «الدرزية» التي سبقت نظام القائمقاميتين، والتي كانت الدولة العثمانية قد منحتها في جبل لبنان، ولبنان الكبير «الماروني» تحت الانتداب الفرنسي ثم المستقل (مع الشريك السنّي). وهما مجتمعان لا يمكن مقارنتهما. فالثاني أكثر تعقيداً ومدينيّةً من الأول بأضعاف. ولكن في الحالتين، طالما استطاع النظام الطائفي أن يدمج وأن يسهل الترقي الاجتماعي لفئات أوسع من طائفة الحاكم، نجح في أن يعمل. أما عندما حاول النظام تجميد او تثبيت وضع متغيّر بطبيعته، فكان يتعطل. وعندئذ لم تكن الطبقة الحاكمة آخر من ينتفض على نظام بدأ يتفلّت من أيديها: حصل ذلك في أواسط القرن التاسع عشر مع الدروز، وحصل مجدداً في سبعينات القرن العشرين مع الموارنة. ويبدو أنه بعد انقطاع «حبل» الاندماج والترقّي، يصبح في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، إعادة ترميم النظام.

هوامش في وجه الحرب

هنا، يعود التساؤل السابق ليفرض نفسه: هل تواجدت قوى- على الأقل في النموذج الثاني (لبنان الكبير)- حاولت بإسم التعقيد والمدنية أن تقاوم هذا «الانفراط»؟ بالتأكيد، تواجدت دائماً قوى اجتماعية أو هيئات او شخصيات حاولت التصدّي للانزلاق نحو العنف، أو على الأقل رفضته بداخلها او بمواقفها.

إلا أنّ تعقيدات الصراع (هذه المرّة) والتدخلات الإقليمية المتنوعة والنظام الطائفي بطبيعته التي لا تعمل حساباً للأفراد، كل ذلك جعل من الصعب على أنصار السلم أن يتلاقوا وأن يعدّوا صفوفهم أو أن يترسّخوا أو أن يراكموا أو أن يخرجوا من الهامشية الأخلاقية التي وضعوا فيها. في ما يلي، لائحة مقتضبة (وناقصة بطبيعة الحال) لأفراد ومجموعات أو تحركات حاولت مباشرة أو بشكل ملتوٍ الوقوف بوجه انتشار آلة الموت.

أبدأ بالشريف الأخوي، وهو رجل عادي يعمل في إذاعة بيروت وأخذ على عاتقه إبلاغ المواطنين بالشوارع الخطرة لتحاشيها وبالطرق «السالكة والآمنة». حصل ذلك في بداية الحرب، وقد لاقت مبادرته المقرونة بنداءات لوقف الحرب استحساناً عارماً. أيضاً في الأشهر الأولى، نُظِّمت تحرّكات مواطنية في شوارع بيروت الغربية وعلى المتحف لشطب المذهب عن بطاقة الهوية. لدينا أيضاً هيئات محلية مثل »الجبهة الموحدة لرأس بيروت« وهي نموذج عن تحركات مدنية استمرت سنوات وحاولت أن تدافع عن المواطنين العزّل في حياتهم اليومية. لا بد من ذكر مؤسسات مثل الصليب الأحمر والدفاع المدني، أبطال حقيقيون ومجهولون يتدخلون كل يوم ويخاطرون بحياتهم دون انقطاع من أجل إنقاذ حياة الآخرين. بين المنظمات غير الحكومية، يجب الإضاءة على مؤسسة مميزة مثل «الحركة الاجتماعية» بريادة المطران غريغوار حداد. أو الإضراب عن الطعام الذي قام به الإمام موسى الصدر، والنداءات المتتالية للبطريك خريش. في أواسط الثمانينات، أطلّ الفكر اللاعنفي بواسطة وجه معلمة من الـBUC إسمها إيمان خليفة، تلتها لجنة حقوق الإنسان التي أسساها لور وجوزيف مغيزل قبل أن تتمأسس الفكرة بواسطة »حركة اللاعنف«. في أوساط أكثر شعبية، نذكر تحركات أهل إقليم التفاح لوقف المعارك بين أمل وحزب الله وللعودة إلى ضيعهم، أو الإضراب العام في صيدا لوقف الاشتباكات بين المنظمات الفلسطينية، أو حركة المقاومة المدنية في «الحزام الأمني» المطالِبة بإحلال قوات الأمم المتحدة محل الميليشيات الموالية لإسرائيل. من جهة أخرى، شكلت النوادي الثقافية في عدة مناطق، والموجودة منذ ما قبل الحرب، مراكز للصمود الفكري. وقد عانت من بطش الميليشيات خصوصاً عندما حاولت التنسيق في ما بينها، والحفاظ على تنوع الأفكار، ورفضت الانجرار وراء الجنون المحيط. كنماذج، نكتفي بذكر الحركة الثقافية في انطلياس والرابطة الثقافية في طرابلس. أخيراً وليس آخراً، لجنة أهالي المفقودين التي ولدت عام 1982 في بيروت الغربية ثم عرفت كيف تتوسع إلى كل أنحاء البلد، كون ظاهرة الخطف والاختفاء كانت للأسف ظاهرة معمّمة. ولا ننسى مسيرة المعاقين من حلبا لصور عام 1987 المطالبة بوقف الحرب في عقر دار الميليشيات أو حملة مثل »الرئيس الحل« التي قامت بها لجان أصدقاء العميد ريمون إده عام 1988، والتي طالبت بحلّ جميع الميليشيات وخروج كافة القوى الاجنبية.

يبقى مهمّاً الحديث عن الحركة النقابية وكيف نجحت في الحفاظ على وحدتها وكيف صارت بيانات الاتحاد العمالي العام (بدءاً من عام 1983) تحمل كأوّل مطلب لها وقف الحرب. حاول هذا الاتحاد التنسيق مع أرباب العمل لهذه الغاية، لكن دون جدوى. ثمّ عاد دوره إلى الواجهة مع تدهور الوضع الاقتصادي عام 86 ومع انهياره عام 87، حيث نجح الاتحاد في التحول إلى نقطة ارتكاز لتشكيل «هيئة تنسيق» مع نقابات المهن الحرة ونقابات الأساتذة والنوادي الثقافية. نجحوا في إعلان إضراب مفتوح دعوا إليه كافة المناطق والطوائف والتقت تظاهراتهم على المتحف ودمّرت الحواجز الترابية بين المناطق. استمر الإضراب خمسة أيام متتالية قبل أن يُعلّق تحت ضغط كافة الميليشيات (كلهم يعني كلهم!).

أيضاً، في الاغتراب، نمتْ بذور تحرّكات حول »مركز للدراسات اللبنانية« في أوكسفورد على سبيل المثال، وكذلك حركة »كسر الصمت «في باريس. خلاصة كل هذه التحركات هي «شرف» المجتمع اللبناني، إذا جاز التعبير. ولكنها في الوقت ذاته، وبحكم قوة النظام الطائفي، على هامش مجتمع «أهلي» تغرف منه الميليشيات قواها الحية وتنجح باستمرار في تقسيمه وتفتيته إلى عدد من المجتمعات الأهلية التي يعيش كلٌّ منها- وكلما اشتدّت الحرب- في عالمه المقفل. ما يجعل قوة دفع الحرب، في كل مرة، أقوى وأصلب من أي محاولة لوقفها. يمكن تصوّر أن الوضع ربما كان قد تعدّل (دون أي ضمانة!) لو أن أحزاباً علمانية كبيرة، مثلاً، قد وقفت منذ البداية ضدّ الحرب ورفضت الدخول فيها، وهذا ما لم يحدث.

للبقاء في ما حدث، يتساءل كمال صليبي كيف استطاع لبنان أن ينهار إلى هذا الحدّ عام 1975 بالرغم من نجاحاته السابقة المذهلة. ويجيب:

بأثر رجعي، يبدو أن للمشكلة جذورها في طبيعة المجتمع اللبناني الذي ومنذ زمن طويل تقدم بسرعة في عدد من المجالات وبقي جامداً في مجالات أخرى، وللحقيقة بقي قديماً. ويبقى أن لبنان تأسس من عدد من الطوائف المتمايزة. لكل واحدة منها آدابها الخاصة وثقافتها الخاصة، والقدرة على تذكر تاريخها الخاص وعلى تصور لبنان تاريخياً وفلسفياً بطريقتها الخاصة. بطبيعتها، هذه الطوائف كانت ما يمكن تسميته بالقبائل، وصياغة أمّة من هذه المادة الأولية كان يتطلب جهداً في التخيّل لم يتوفّر دائماً، وشكلاً من السموّ في النظرة والطموح نادراً ما كان قادة البلد قادرين عليه.

ويتابع خاتماً:

منذ عام 1975، تلقى اللبنانيون درساً لا ينتهي: من قبل، أوصلهم بحثهم المشترك عن الرفاهية العامة إلى منصة الشرف في العالم العربي ووضع في متناول أيديهم كل الأشياء الطيبة في الحياة. ومذ ذاك الوقت، لم يقُدهم فخ القبلية الكاذب إلا لخرابهم. بين البحث عن الرفاهية العامة وبين فخ القبلية، لا بد من خيار لأنهما لا يتعايشان. ولا يمكن أن يكون هناك أدنى شك في الاختيار لدى العقلاء والذين من المفترض أن تكون قد علّمتهم التجربة في نهاية المطاف.

للبقاء في ما حدث أيضاً وللأسف، يقول جبران خليل جبران في «حديقة النبي» عام 1933: ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين (…) ويل لأمّة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة.

* بول أشقر، صحافي متقاعد متخصص بشؤون اميركا اللاتينية.

* نشرت على موقع ميغافون الالكتروني