سياسة مجتمع

خمسينية الحرب الاهلية بين نيران الاحتلال والضغوط الخارجية 

زكـي طـه

بيروت 30 نيسان 2025 ـ بيروت الحرية

أحيا اللبنانييون الذكرى الـ 50  لانفجار الحرب الاهلية في 13 نيسان 1975. وهي الحرب التي لم تسقط من سماء صافية. كما لم تكن نتاج مؤامرات خارجية، رغم وجودها. كانت من صنع أيديهم. وهم اللذين تسابقوا للاعداد لها تحريضاً وتدريباً وتحشيداً لصفوف قواهم الحزبية، من مواقعهم المتعددة في السلطة والمعارضة على السواء. تعددت صيغة إحياء المناسبة على نحو برّز كم أن الحرب لا تزال قائمة بينهم باشكال مختلفة. وهناك من احتفل بها لتمجيد أدواره، ومن استذكر نتائجها وحذّر من خطر استمرارها، ومن ذهب للتذكير بدروسها والدعوة لمحاصرة شبحها المقيم. وهناك ايضاً من تجاهل المناسبة لأنه أدمن الخضوع إلى آليات الحرب باعتبارها قدر لا يمكن الخروج على أحكامه.

مرّت الذكرى وسط المخاطر الناجمة عن اصرار أكثرية احزاب وتيارات السلطة، على إعادة انتاج عوامل الانقسام الاهلي من مادة الوضع الراهن وما يحتشد فيه من إشكاليات وأزمات. الموروثة منها منذ ما قبل انفجار الحرب، أو المستجدة التي تراكمت واستطالت في سياق محطاتها.. وجميعها تحولت استعصاءات تأسر حاضرهم وتتحدى قدرتهم على التصدي لها ومعالجتها في آن.

هذا ما أكدته أحداث المائة يوم التي مضت على انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، معطوفة على مجريات الاشهر الخمسة التي تلت إعلان وقف اطلاق النار مع العدو الاسرائيلي والاتفاق على آلية تنفيذ القرار 1701. فالبلد لا يزال أسير السجال الداخلي حول سبل تنفيذ بنود الاتفاق لبنانياً، وسط الضغوط الخارجية التي تتبنى شروط اسرائيل وتبرر اعتداءاتها اليومية ورفضها الانسحاب من المواقع التي تحتلها.

الانقسام الاهلي المستدام

ولأن نفاذ استحقاقي الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة خالف طموحات ورغبات أكثرية اطراف السلطة، لم يكن مفاجئاً أن تجدد اشتباكاتها السياسية، وأن تسعى لاجهاض محاولة انقاذ البلد والاطاحة بالفرصة المتاحة لإعادة الاعتبار لدور الدولة. والهدف محاصرة العهد والحكومة بقوة الصراعات الفئوية حول مختلف القضايا الملحة. وفي هذا السياق احتدم الخلاف حول وجهة التعامل العدوان الاسرائيلي ومعالجة معضلة سلاح حزب الله  وقضايا إعادة الاعمار والنهوض الاقتصادي وملفات الاصلاح والمالي والاداري. وهي المشكلات التي شكلت أساس خطاب القسم وبيان الحكومة امام المجلس النيابي.

تتشابك نزاعات اطراف الداخل على نحو محكم مع الضغوط الخارجية، ومع الشروط والممارسات الاسرائيلية العدوانية المستمرة. والاخطر تقاطعها مع اشكاليات الانقسام الأهلي حول مختلف القضايا، بما فيها مفاعيل وارتدادات إبقاء لبنان ساحة صراع  إقليمي ـ دولي. وهي المتمثلة راهناً بالحصة الوازنة من الخسائر البشرية ومن الدمار والخراب التي وقعت عليه،  خلال الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية المفتوحة في المنطقة وعليها، جراء استهانة حزب الله بالخلل الفادح لميزان القوى لغير مصلحته، واصراره على خوض حرب غير متكافئة، انتهت بموافقته اولاً على اتفاق اذعان قررته اميركا، وأتى مطابقاً للشروط الاسرائيلية. ما جعل أحكام نفاذه قيداً غليظاً على السيادة الوطنية ومصدر خطر على الوضع الداخلي ومصير البلد في آن.

تستند قوى السلطة  في خلافاتها المفتوحة إلى إشكالية الانقسام الأهلي باعتبارها أساس نظام المحاصصة الطائفية. ومنها تستمد مبررات وجودها وأدوارها ومنطلقات سياساتها وممارساتها. والانقسام هو أحد أهم العوامل الدائمة لإنتاج الأزمات، والعائق الرئيسي امام تكريس استقلاله. هو بوابة التدخلات الخارجية. وهذا ما جعله قيداً مانعاً لحق اللبنانيين في أن يصبحوا شعباً له هوية وطنية وحياة مشتركة، وحاجزاً دون حقهم في نظام قابل للتطور الديمقراطي، يضمن لهم امكانية الاستقرار والتقدم، والانفتاح بحرية على محيطهم العربي والدولي.

وكما حكم الانقسام الأهلي تاريخ الجماعات اللبنانية، فإنه لم يزل يكبل حاضر اللبنانيين ويأسر مستقبلهم. ولهذا  يتجدد السؤال الصعب حول امكانية وكيفية تجاوز  نزاعاتهم حول الهوية والنظام وعلاقات لبنان بمحيطه، وحول قدرتهم على بناء وحدتهم وفق قواعد المساواة التي تشكل شرطاً لا بد منه للتحرر من التدخلات الخارجية. وبما أن الوحدة في ظل الانقسام مستحيلة، فإن عدم تجاوزه كان وسيبقى أقصر الطرق لبقاء شبح الحرب الاهلية مقيماً في ما بينهم. وما يؤكد  صعوبة السؤال، أن المحاولات المتكررة لتوليد مسار وحدة لبنانية مجتمعية حول حياتهم المشتركة طريقاً للخلاص من التدخلات الخارجية، لازمتها الانتكاسات والارتدادات السلبية.

ومع كل أزمة وفي كل محطة من تاريخ البلد، ومع كل فرصة متاحة لخلاصه، يتجدد تحدي البحث عن المداخل الأجدى لبناء مسار توحيدي متدرج ينطلق من الحقوق والقواسم والمصالح المشتركة فيما بينهم، يُمكّنهم من التعامل مع تداخلات قوى الخارج ومصالحها، ويحميهم من العدوانية الاسرائيلية. هكذا كان الامر مع تنفيذ بنود تسوية الطائف التي شكلت البديل عن استمرار الحرب الاهلية. كذلك مع انجاز التحرير المجيد من الاحتلال الاسرائيلي. ومع التحرر من وصاية النظام السوري السابق. ولم يختلف الامر مع مقررات مؤتمر الحوار في بعبدا لحماية لبنان من نيران الحرب السورية.

والشاهد أن الصعوبات المتأتية عن الانقسام لا تزال تواجه اللبنانيين. لا يتمثل الامر فقط في عسر وتعثر أوضاع البلد وضياع الفرص التي اتيحت لانقاذه، بل أيضاً في هدر ما كان قد تحقق لهم من انجازات كلفتهم الكثير من الدماء والتضحيات. والاخطر الاستقواء بالتدخلات الخارجية، وسط الاختلاف حول وسائل قياس الصديق والخصم أو العدو. وفي هذا السياق كان الرهان على ايران واستسهال مواجهة الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية المفتوحة، وتجاهل تهديدات العدو وادارة الظهر للتحذيرات الخارجية. هذا ما أكدته  النتائج الكارثية التي ترتبت  على الامعان في خوض معركة المساندة العبثية.

خدمة تبادل التحريض

وما زاد الطين بلّة، التحريض المتبادل بين احزاب الطوائف، حول  نتائج الحرب الاسرائيلية على لبنان وما يقع في اطارها، إن لناحية تنفيذ القرار 1701، وإنهاء الاحتلال والسيطرة الاسرائيلية على الاجواء اللبنانية، أو حول سبل معالجة مصير السلاح ودوره وحق امتلاكه. ما أدى إلى رفع منسوب الانقسام والخطر الذي يتهدد وجود البلد ومصيره في آن.

ولا يخالف ذلك  النزاعات القائمة حول مختلف القضايا التي يستحيل التهوين من خطورة الخلافات الداخلية  بشأنها، إن على صعيد صلاحيات رئاسة الجمهورية والحكومة، أو لناحية ممارسات قوى واحزاب السلطة التي تخوض معاركها في مواجهتهما. سواء من يتلبس دور المرشد الوصي على العهد، كما هو الحال بالنسبة لقيادة القوات اللبنانية، أو من يمتهن التشكيك بدور الرئيس وبقدرة الحكومة على تحمل المسؤولية وفق قيادات حزب الله.

وبذلك يتبادل الطرفان الخدمات، من مواقعهما الفئوية، ويشتركان في اعادة انتاج وتعميم التحريض الطائفي، على رافعة شعاري السيادة والمقاومة. خاصة حول مصير سلاح حزب الله ودوره، وحول تمادي قيادته في انكار الهزيمة، والتشكيك بقدرة الدولة والجيش على حماية لبنان، وفي إلزام اسرائيل بالانسحاب. والهدف تبرير الاحتفاظ  بالسلاح ورفض تسليمه، وتجاهل قدرة الحزب المفقودة على استخدامه، خاصة بعدما اصبح عبئاً على بيئة الحزب والبلد في آن. وفي موازاة ذلك تستسهل قيادة القوات اللبنانية وملحقاتها، المطالبة بنزع سلاح الحزب، باسم السيادة والانتصار للدولة، وبذريعة الاستجابة للضغوط الخارجية. وقد فاتها أن خيار نزع السلاح يشكل أقصر الطرق لعدم تسليمه، ولتسهيل محاصرة العهد والحكومة، ومعهما مشروع اعادة الاعتبار للدولة وحقها الحصري في امتلاك السلاح وتفعيل دور الجيش والاجهزة الامنية.

والمحصّلة تزخيم الانقسام، واستسهال إهدار الفرصة المتاحة لانقاذ البلد. وتقديم الكثير من الذرائع المجانية لاسرائيل لتبرير عدوانها المستمر وتغطية رفضها الانسحاب من المواقع المحتلة. وفي المقابل يجري تكريس وجود السلاح الذي يبحث عن أدوار لن يجدها الا على رافعة الانقسامات الاهلية والتدخلات الخارجية، على النحو الذي يعزز حضور شبح الحرب الاهلية.

مأزق المعارضة والمسار الصعب

ولا يخالف ذلك، ما يجري حول سائر ملفات التعيينات والاصلاحات الادارية والمالية، خاصة على صعيد الاصلاح المالي، بالنسبة لرفع السرية المصرفية وإعادة هيكلة قطاع  المصارف وضمان الودائع وتوزيع الخسائر. وفي السياق عينه، يتابع اللبنانيين، أشرس المعارك السياسية والاعلامية التي يخوضها تحالف مافيا المصارف وشركاؤها من أهل السلطة وخصومهم، لتغطية مضاعفات الفساد المالي وسياسات النهب واهدار المال العام والتهريب وسواها. وغايتهم حماية مكتسباتهم وتعطيل امكانات المحاسبة والمساءلة، عبر الاستقواء بآليات الفساد السياسي ومعادلات المحاصصة الطائفية والفئوية، باعتبارها السلاح الاهم في مواجهة المعترضين واخضاع المتضررين.

ولأن الطبقة السياسية الحاكمة تعرف جيداً أهمية الانقسام الأهلي باعتباره المستند الأساسي لنظامها ورافعة وجودها، ومصدر حصانتها وضمانة  تجدد أدوارها. نجدها لا تتوانى مطلقاً عن الاستثمار فيه والسعي لإعادة انتاجه بكل الوسائل والاسلحة المتاحة لها، خدمة لمصالحها. ووفق تلك المعطيات تخوض معاركها المترابطة باتقان.

وتخالفها قوى الاعتراض التي يكمن مأزقها في اختلال ميزان القوى مع الاحزاب الطوائف، الناجم عن تفككها وهامشية مواقعها ووزنها الاجتماعي. وما يبقي فعاليتها محدودة  فشلها في تجميع قواها وفق برنامج الحد الادنى الذي يخاطب حقوق ومصالح الفئات المتضررة، مدخلاً لاكتساب ثقتها وتحشيد صفوفها، وهو الامر الذي لن يتحقق في ظل الاستهانة بالانقسام الاهلي، واعتماد التحركات الفولكلورية، في موازاة الرهان على الدعم الخارجي او الارتهان له، والاستخاف بالعدوانية الاسرائيلية. وفي السياق يقع انتظار الحلول من منتجي الازمات والمستفيدين منها في الداخل او الخارج، وهم الذين  يمكلون القدرة على تفخيخ صفوف قوى الاعتراض التي تفتقد للحصانة والمناعة جراء ما هي عليه من الهشاشة والشرذمة.

إن المقاربة الجادة لقضايا الانقسام والحرب الأهلية هي نقاش في المستقبل، وليس في الماضي. وهي شرط أساسي للخروج من أسرها. وهنا تبرز مسؤولية قوى المعارضة ومجموعاتها لفهم إشكالية الانقسام، باعتباره  المدخل الاساس لمعالجة مصدر الخلل الداخلي ومحاصرته. وهي مسؤولية تستدعي مغادرة الخفة في التعامل مع تاريخ البلد، وتصفية الحساب مع دعاوى الوحدة الوهمية والتكاذب وتنسيب الانقسام لمؤامرات وحروب الآخري. إن تجاهل ما صنعت أيدي اللبنانيين وما ارتكبوا من أخطاء وخطايا بحق بلدهم وانفسهم، يشكل هروباً إلى الامام. كما وأن الاقامة عند الحد الفاصل بين الوطنية وعدم الوطنية اوالخيانة، تعادل استخفافاً متمادياً بمستقبلهم وبمصير الوطن. وما يؤكد أهمية السؤال، أن قوى السلطة واحزابها ليست بوارد الاقرار بمسؤوليتها عن نتائج سياساتها وممارساتها الفئوية التي تبرر وجودها. وهي تشكل الوجه الآخر المكمل لتدخلات الخارج الباحث عن مصالحه.

ولذلك فإن البحث عن سبل الخروج من مأزق الانقسام ليس شأنا نظرياً. إنه بحث يتعلق بمدى أهلية وقابلية البنية اللبنانية وقواها المجتمعية على الاضطلاع بموجبات الإنقاذ، انطلاقاً من المصلحة الوطنية، ومن أجل بقاء البلد كياناً وطنياً موحداً وقائماً بذاته، يستحق عدم التفريط به والاستخفاف بأهمية وجوده. وهنا تكمن أهمية التجارب السابقة ودروسها التي يجب أن تشكل مصدر الحصانة لأي بحث وعمل انقاذي، يستهدف قطع الطريق على المغامرات الانتحارية، والمشاريع العبثية، التي تهدف إلى تكريس غلبة طائفية، لا تؤدي سوى إلى انتاج الانقسامات والحروب الاهلية بوجهيها الداخلي والخارجي.

إن الجهد المطلوب ليس إعداد نص، بقدر ما هو انخراط في مسار تراكمي من التفاعل المشترك الذي يستهدف بناء حركة معارضة ديمقراطية تعددية متنامية من أجل بناء دولة ووطن. حركة تعمل على تنظيم التواصل مع قطاعات المجتمع والفئات المتضررة لتجديد أطر تمثيلها، عبر إشراكها في الدفاع عن حقوقها المستباحة، والنضال في سبيل مطالبها المشروعة. حركة لا تختزل المجتمع ولا تكتفي بترداد الشعارات وصياغة البرامج العامة، التي لا تقيم سلماً ولا تؤمن استقراراً ولا تحقق سيادة  أو استقلالاً.