اقتصاد صحف وآراء مجتمع

حين تصبح العدالة عبئًا في مؤشرات الحد الأدنى للأجور في تقرير البنك الدولي

* د. سعيد عيسى

يحاول البنك الدولي في تقريره الجديد المعنون “الجاهزية لأنشطة الأعمال ” (B-READY)، تقديم أدوات كمّية لتقييم بيئة الأعمال في مختلف دول العالم. ومن ضمن مكوناته الأساسية، يبرز موضوع الحدّ الأدنى للأجور باعتباره أحد المؤشرات الدالة على التوازن بين حماية حقوق العمال ومرونة الشركات. لكن خلف هذا التوازن الظاهري، تكمن إشكاليات عديدة تستحق النقاش، لا سيما في ظل ما يبدو وكأنه تغليب واضح لمنطق “كلفة الامتثال” على منطق “عدالة الأجر”.

يعتمد التقرير في تقييمه على معيارين: الأول يُعنى بسمات سياسات الحدّ الأدنى للأجور من وجهة نظر العمال، مثل وجود تشاور اجتماعي وآليات تحديث دورية، والثاني يُقيِّم الأثر المحتمل للحدّ الأدنى للأجور على الشركات من حيث كلفته التشغيلية. ويمنح البلدان درجات تتراوح بين صفر ومئة بناءً على نسبة الحدّ الأدنى للأجور إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، باستخدام منحنى توزيعي يعطي أعلى الدرجات للبلدان التي تقل فيها هذه النسبة، وأدناها لتلك التي ترتفع فيها.

المفارقة أن الدول التي لا تعتمد حدًّا أدنى للأجور على الإطلاق تُمنح صفرًا في المؤشر الأول، ولكنها تنال العلامة الكاملة في المؤشر الثاني. أي أن غياب الحماية القانونية يُكافَأ على أنه ميزة اقتصادية. هذا الطرح يكرّس تصورًا شديد الاختزال لمسألة الأجور، إذ يعاملها كأداة محاسبية ضمن ميزانية الشركة، لا كحقٍّ أساسي له تبعات اجتماعية وإنسانية عميقة.

هذا المنطق ليس جديدًا في أدبيات البنك الدولي. فمنذ عقود، تبنّت مؤسساته توصيات تتعلق بتحرير سوق العمل وخفض كلفة التشغيل باعتبارها محفزات للنمو، متجاهلةً في كثير من الأحيان التفاوتات الاجتماعية الناتجة عن تلك السياسات. فعلى سبيل المثال، أشار تقرير سابق للبنك الدولي عام 2013 بعنوان “وظائف” (Jobs)  إلى أن المرونة في قوانين العمل قد تساعد على خلق فرص، لكنه لم يتطرق بعمق إلى هشاشة تلك الفرص أو إلى مسألة الأجور المنخفضة التي لا تضمن العيش الكريم.

في السياق العربي، يمكن ملاحظة الآثار المباشرة لهذه السياسات. وفي لبنان، على سبيل المثال، يبلغ الحد الأدنى الرسمي للأجور حوالي 200 دولار شهريًا، بينما كلفة المعيشة تفوق ذلك بأضعاف. ومع ذلك، لا يبدو أن غياب التحديث الدوري أو التشاور الاجتماعي الفعّال له أثر ملموس في تقارير تقييم الأعمال التي تعتمد على منطق النموذج الرقمي المحايد. هذه المقاربة تتجاهل تمامًا واقع العمالة غير المهيكلة التي تُشكّل النسبة الأكبر من سوق العمل، لا في لبنان فحسب بل في أغلب دول الجنوب العالمي.

وبدلًا من أن يُشكّل الحد الأدنى للأجور أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية أو لتقليص الفجوات الطبقية، يتمّ التعامل معه في التقرير كـ”مؤشّر كلفة” يجب أن يبقى في حدوده الدنيا لضمان بيئة أعمال “جذّابة”. وهذا يقود إلى سؤال جوهري: بيئة جذابة لمن؟ لأصحاب الأعمال والمستثمرين فقط، أم للمجتمع ككل؟

المؤشّرات المستخدمة في التقرير لا تُقدّر الفرق بين الحدّ الأدنى للأجور وبين حدّ الفقر الوطني أو خط الفقر المدقع، كما لا تأخذ في الحسبان الفروقات بين المناطق الجغرافية أو بين القطاعات الاقتصادية المختلفة. كما أن ربط التقييم بنصيب الفرد من الناتج المحلي يغفل التفاوت الهائل في التوزيع، ويضفي طابعًا تقنيًا باردًا على مسألة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكرامة الإنسان.

وبينما يشير التقرير إلى اتفاقيات منظمة العمل الدولية، مثل الاتفاقية رقم 131، إلا أن تطبيق تلك المعايير يبقى شكليًا في أغلب الأحيان، حيث لا يُترجم إلى التزام فعلي بمبدأ “العيش الكريم من الأجر”. بل على العكس، فإن الموازنة بين حماية العمال ومرونة الأعمال تبدو مائلة بوضوح نحو الكفة الثانية.

النموذج التحليلي المستخدم قد يُعتبر مفيدًا لواضعي السياسات الباحثين عن تحسين ترتيب بلادهم في مؤشرات الأعمال العالمية. لكنه، في صورته الحالية، يخدم أصحاب المصالح أكثر مما يخدم الفئات الضعيفة التي يُفترض أن تحميها سياسات الحدّ الأدنى للأجور. فبدلًا من تقديم معايير تضمن الشمول والعدالة، يتم استخدام أدوات إحصائية تعيد إنتاج التفاوتات تحت ستار “الكفاءة”.

إن ضمان عدالة الأجور لا يمكن أن يُختزل إلى معادلات رقمية أو نسب مئوية معزولة عن الواقع. بل يتطلب فهمًا أعمق للسياقات الاجتماعية والاقتصادية، وتوازناً فعليًا بين مصالح رأس المال وحقوق العمال. وهنا، يجب على التقارير الدولية أن ترتقي بمعاييرها، لا أن تُكرّس منطق السباق نحو القاع تحت ذريعة التنافسية.

* نشرت على موقع الحوار نيوز بتاريخ 10 حزيران 2025