الدكتور بول طبر
استراليا 14 تشرين الثاني 2024 ـ بيروت الحرية
ما الذي يحدث في العالم؟ في غزة والضفة وفي لبنان والدول العربية، وبقية البلدان في العالم أجمع؟ وها هو انتصار ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية يمثل الفصل الأخير من سلسلة هذه الأحداث الأليمة، مسبوقاً بكسب “التجمع الوطني” بقيادة ماري لوبان ل89 مقعداً في الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا ؟
لماذا نشاهد اتساع شعبية اليمين المتطرف وتراجع متواصل للمعارضة اليسارية له؟ واذا وجدت المعارضة لهذا اليمين الصاعد، فإنها لا تنتمي إلى موروث اليسار لا سيما الشيوعي منه، بل نجدها ذات هوية اصولية دينية (حزب الله وحماس) او قوموية استبدادية على طراز الحكم في روسيا!؟
والملفت هو ان المشترك بين اليمين المتطرف في الغرب الرأسمالي، والمعارضة لهذا اليمين خصوصاً بشكلها الديني، هو ان الطرفين يعتمدان اساساً على انجذاب وتأييد الفئات الشعبية لهما، ولو لأهداف متعارضة تعود لتناقض مصلحة الطرفين المتصارعين. وفي الحالتين، انها الفئات التي تمثل “ضحايا” الأنظمة الرأسمالية النيوليبرالية في الغرب الرأسمالي، والأنظمة المتضررة من سيطرة وهيمنة هذا الغرب.
وبذلك يصبح كل من الطرفين “يمثل” هموم المواطن العادي الذي سئم من سلوك اليمين الليبرالي المعتدل واليسار المعارض معاً، واصبح يتماهى مع الخطاب الشعبوي لليمين المتطرف، أو مع خطاب القوى والأنظمة الاستبدادية المعارضة لهذا اليمين المتنامي.
أولاً، وباختصار، ما الذي حدث لليسار بشقيه الشيوعي والاشتراكي-الديمقراطي؟ بالنسبة لليسار الشيوعي، هناك إنجازات لا يمكن التغاضي عنها: فمثلاً إنجازات التحرر من الإستعمار والهيمنة الغربية بأشكالها المباشرة وغير المباشرة، وما الصين الشعبية وفيتنام سوى أمثلة حية وواضحة على ما نسوقه. إضافة، إن الذي يجري على صعيد النمو الإقتصادي في الصين من جهة، وإلى حد ما في في فيتنام وكوبا من جهة أخرى، هو إنجاز باهر بصورة واضحة بالنسبة للطرف الأول، وإنجاز مقبول لدى الطرف الثاني، أي فيتنام وكوبا.
إلا أن هذه الإنجازات الإقتصادية رغم تفاوتها، لا تحدث دون أثمان باهظة أبرزها السيطرة البيروقراطية للآحزاب الحاكمة، وتعطيل واضح لإرادة وخيارات الشعب المحكوم في كل من هذه البلدان فيما يخص إدارتها العامة للدولة والمجتمع عموماً.
أما بالنسبة إلى تجارب الأحزاب الإشتراكية-الديموقراطية في الغرب أساساً (وفي عدادها حزب العمال في أستراليا وإنكلترا)، فإن تحولهم المتدرج إلى أحزاب أقرب إلى اليمين وتطلعاتهم النيوليبرالية لإدارة الدولة والمجتمع قد أصبح واضحاً للعيان، وأن هذا المسار الذي طلَّق الأهداف الإشتراكية بصيغتها الديموقراطية والليبرالية، كان قد بدأ بذلك المسار منذ ثمانينات القرن الماضي عندما باشر في احتضان المبادئ النيوليبرالية والإبتعاد المتواصل عن أهداف بناء الإشتراكية.
وفوق كل ذلك، جاء سقوط الإتحاد السوفياتي وانهيار الأنظمة التي كانت تدور في فلكه في نهاية الثمانينات، ليشكل الضربة القاضية لشعبية اليسار الشيوعي وقدرته على الإستمرار في تمثيل مصالح المستغَلين، وتقديم نفسه على أنه يشكل البديل الأفضل للنظام الرأسمالي في العالم.
بموازاة هذه التطورات ، لم يكن سجل المجتمعات الرأسمالية المتطورة والبلدان الملحقة بها بمنأى عن المشاكل الناتجة عن تناقضات النظام الرأسمالي بمختلف أشكاله المنتشرة في العالم، الغربية منها والتابعة للرأسماليات الغربية المسيطرة (على سبيل المثال، أزمة النظام المالي عام 2008، التضخم، الحروب الأقليمية، البطالة، العنصرية، التفاوت الهائل في توزيع المداخيل بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، إلخ). غير أن الملفت في هذا المشهد العالمي هو القوى السياسية التي برزت وتشكلت إستناداً إلى التطورات والأزمات المذكورة أعلاه، وتقدمت بصفتها قوى بديلة عن اليسار بمختلف اشكاله الشيوعية والديموقراطية، وصاحبة القدرة على تقديم الحلول الناجعة للمشاكل التي تعاني منها الدول المعاصرة.
ويمكن تصنيف هذه القوى إلى صنفين، الأول يتواجد في الغرب الرأسمالي والثاني في بعض الدول التي تعاني بشدة من سيطرة هذا الغرب ومصالحه، أو أنها تقوم بمنافسته من موقع الدولة التي تتحكم بها (إيران) أو من موقع المعارضة في الدول التي تتواجد فيها (القوى الدينية المتشددة في العالم العربي). وكما ذكرنا سابقاً، تستمد هذه القوى من الصنف الأول والثاني قوتها العددية أساساً (اي جماهريتها) من الفئات والطبقات المتضررة من الأنظمة الرأسمالية في الغرب وفي الدول الخاضعة له.
ويصبح السؤال المركزي في هذا السياق يتعلق بتفسير هذه المفارقة التي تجمع بين الخطابات السياسية لجميع هذه القوى (خطاب مسيطر عنصري وقومي – شعبوي في الغرب الرأسمالي وخطاب معارض ديني متشدد في بلدان الشرق الأوسط) وبين مصالح الفئات الإجتماعية التي تدعم هذه القوى بدرجة عالية من الحماس.
ويشير التدقيق في مضمون هذه الخطابات إلى أنها تقدم مباشرة الجواب السهل والواضح لهذه المفارقة. ففي الوقت التي انكشف فيه عجز الطروحات السياسية لدى كل من القوى الليبرالية والقوى الإشتراكية الديموقراطية عن تقديم الحلول للمشاكل التي تولدها أنظمتها الرأسمالية المتطورة، ترافق ذلك مع بروز متنامي للأحزاب العنصرية (في أوروبا مثلاً) وصعود قيادات تعتمد على النزعة الشعبوية (ترامب ولوبان كمثال بارز) قدمت نفسها بلغة شائعة في أوساط الشعب على أنها تمتلك القدرة على تقديم الحلول لجميع المشاكل التي تسببت بها الأحزاب المتناوبة على السلطة منذ عقود. ولم تكن الأحزاب الإشتراكية والشيوعية في فرنسا وإيطاليا على سبيل المثال بمنأى عن هذه التهمة إذْ إنها وصلت إلى السلطة مراراً ولم تفلح في تقديم الحلول المرجوة.
وعلى خلفية هذا المشهد والسقوط المدوي للإتحاد السوفياتي، موصولاً في العالم العربي بفشل وتراجع المشروع القومي بشقيه الناصري والبعثي، تنامت شعبية الأحزاب العنصرية الشعبوية في الغرب، ووقفت في وجهها (ووجه الغرب الرأسمالي عموماً) في الشرق الأوسط، وعلى الخصوص في إيران و العالم العربي القوى الدينية المتشددة. واللغة المستخدمة في الحالة الأولى، أي لدى الأحزاب العنصرية-الشعبوية، هي لغة إستعلاء عنصري تجد في “الغريب المهاجر” أو اللاجيء السبب الرئيس للعديد من المشاكل التي يعاني منها المواطن في الغرب، كالبطالة وقصور السوق في تأمين السكن وغيرها من الخدمات العامة، بسبب تزايد الطلب على هذه الخدمات. إضافة، تقوم هذه الأحزاب بتخويف مواطنيها من فقدان أو “تلويث” هويتهم الثقافية بسبب التقاليد والقيم التي يحملها المهاجرون إلى البلد الذي يستقرون فيه. وتتم ببساطة الدعوة إلى حماية المنتوج الوطني كحل جذري للمديونية والنمو الإقتصادي.
هذه بعض الأمثلة عما يتضمنه خطاب اليمين العنصري-الشعبوي الذي يقوم على “دغدغة” المشاعر المسَّلم بها لدى المواطنين في الغرب، طريقاً لحل مشاكله، وهي في الواقع مشاكل بنيوية تتطلب حلولاً أقل ما يقال عنها أنها ليست من النوع الذي يقدمه هذا الخطاب اليميني العنصري والشعبوي.
وفي المقابل، يقوم الخطاب الديني المتشدد على استسهال تسييس المشاعر والنص الديني، واعتباره مدخلاً ضرورياً لحل ليس فقط مسألة الإحتلال الصهيوني لفلسطين وجميع تداعياته، وإنما أيضاً بناء مجتمعات عربية متحررة ونامية وعادلة. وكذلك في هذه الحالة، يتم الإستناد إلى الموروث الديني المسلم به وتقديمه كعلاج لقضايا لا علاقة للنص الديني بها بالمعنى التاريخي للكلمة. وعليه يتم الكلام عن أن الإسلام “دين ودولة”، وعن مفهوم “ولاية الفقيه والإقتصاد الإسلامي” وغيرها من المفاهيم الهجينة. وعليه ينتشر الخطاب الديني المتشدد في الوسط الشعبي رغم فشله في تحقيق حتى وحدة المسلمين العرب.
نحن إذن أمام واقع لا يفلح في تقديم الحلول الناجع،ة لا للمشاكل التي تواجهها الفئات الشعبية وفئات الطبقة الوسطى في الغرب، ولا للشعوب المقهورة والفقيرة والخاضعة لسيطرة الحكام في الغرب. ويتعزز كل ذلك بسبب الغياب الطويل للقوى اليسارية والفكر اليساري منذ نهاية ستينات القرن الماضي، عن الهموم الفعلية لضحايا الرأسمالية في الغرب وفي الدول الواقعة تحت هيمنته. وكان ذلك سبباً أساسياً لتلاشي القوى اليسارية وتراجع تأثير الفكر اليساري في الاوساط الشعبية، وهو المفترض أن يكون في الاساس فكر هذه الأوساط المجسِّد لمصالحها في التحرر والعدالة الاجتماعية.
باختصار شديد، المطلوب بالحاح وبأسرع وقت ممكن هو اعادة تنسيب اليسار إلى الفئات الاجتماعية والشعوب المتضررة من هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية وامتداداتها في الغرب والبلدان التابعة له. ومع هذه الخطوة وعلى ضوء نتائجها، يصار إلى تجديد واعادة تكوين الهوية الفكرية لليسار ليعود ويلعب دوره المطلوب غرباً وشرقاً في هذا الزمن الرديء.
Leave a Comment