*محمد علاوة حاجي
على خلاف توقٌّعات والده بأن يلتحق بكلّية الهندسة، على خُطى كثيرٍ من أفراد عائلته من المعماريّين والمهندسين، ويحمل لقب “باش مهندس”، اختار حلمي عبد الحليم أحمد التوني (1934 – 2024)، الذي وُلد في مدينة بني سويف ونشأ في مسقط رأس والدته – حيّ السيّدة زينب بالقاهرة – مساراً آخر سيكون له أثرُه على الثقافة البصرية العربية لأكثر من خمسة عقود. كانت “كلّية الفنون الجميلة” في العاصمة المصرية وجهةَ الشاب المصري الذي لم يتجاوز حينها التاسعة عشرة من عمره؛ حيث سيلتحق بها عام 1953، ليتخرّج منها، بعد خمس سنوات من ذلك (1958)، ببكالوريوس في تخصُّص الديكور المسرحي.
لكن، أيُّ سياق دفع الفنّان التشكيلي والمصمّم المصري البارز، الذي غادر عالمنا أمس السبت، إلى هذا المسار، وأيّةُ رؤية كان يحملها؟ يُجيبنا حلمي التوني عن هذين السؤالَين، وهو يتحدّث عن المناخ الثقافي الذي نشأ فيه، ضمن حوارٍ مطوَّل مع المصمِّمة والأكاديمية اللبنانية ياسمين نشابة طعان، استهلّت به كتابها “حلمي التوني: استحضار الثقافة العربية الشعبية” (2014) الذي كان أوّل إصدار ضمن سلسلة “مكتبة التصميم العربي” الذي خصّصته “مؤسّسة خطّ” في أمستردام للإضاءة على تجارب عددٍ من روّاد التصميم العربي ما بين الستّينيات والثمانينيات.
يَذكُر التوني، في الحوار، أنّه نشأ خلال ما يُشار إليه غالباً بـ”نهضة مصر”؛ حيث برز اهتمامٌ متزايد بإنتاج الكِتاب وبالفنّ التشكيلي، لكن في سياق كانت فيه المَعارض والمتاحف شبه غائبة؛ إذ لم يكن الجمهور المصري العريض خلال الستينيات معتاداً على زيارة المعارض، وأيضاً “خلال الخمسينيات والستينيات في القاهرة، كان مفهوم الفنّ الملتزم جديداً. كان العديد من الناس يعتقدون بأنّ الفنّ من الكماليات كونه يخاطب شريحة صغيرة من الناس، ألا وهي النخبة”، مضيفاً أنّ ذلك “أدّى بنا إلى اتخاذ قرارنا بإيصال الفنّ إلى الناس، وكانت الوسيلة المثلى للقيام بذلك هي نشر الصور في المطبوعات والكتب والإعلام”.
تُفسّر هذه الرؤيةُ ذلك الارتباطَ الوثيق لاسم التوني، رسّاماً ومصمّماً، بالصحافة والكُتب، وهذا الارتباط يُفسِّر بدوره الانتشارَ الواسع لأعماله الفنّية مقارنةً بكثير غيره من الفنّانين المصريّين والعرب؛ حيث ظلّت تلك الأعمال تُقدَّم للمتلقّي عبر “وسائط جماهيرية”، بدءاً بمجلّة “الكواكب” منذ نهاية الخمسينيات، و”دار الهلال” التي عمل مشرفاً فنّياً لإصداراتها، قبل أن يُغادر إلى بيروت عام 1971، بعد إصدار أنور السادات قراراً بفصله من “الهلال”، إلى جانب 104 صحافياً، بسبب مطالبتهم بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم مع الاحتلال الإسرائيلي.
هناك، بدأ التوني مرحلةً جديدة مع التحاقه بـ”المؤسّسة العربية للدراسات والنشر” الذي تزامن مع انتقال “منظّمة التحرير الفلسطينية” إلى العاصمة اللبنانية. وخلال هذه الفترة، صمّم شعار وماكيت صحيفة “السفير”، واشتغل مع مجموعة من الكتّاب والفنّانين التشكيليّين العرب في إطلاق “دار الفتى العربي” لكتب الأطفال (حلّ مديراً فنياً للدار بعد كمال بُلّاطة الذي وضع رؤيتها الفنية) ضمن مشروعٍ سعى إلى مخاطبة الطفل بحساسية جديدة تقدّم له القضايا الوطنية وفي مقدّمتها فلسطين… واستمرّت التجربة لاحقاً مع دُور نشر ومجلّات أُخرى؛ مثل “دار العودة” و”دار ابن رشد” و”دار الشروق” ومجلّتَي “وجهات نظر” المصرية و”العربي” الكويتية.
صمّم التوني أكثر من أربعة آلاف غلاف لأعمال كتّاب وشعراء مصريّين وعرب؛ بحيث ترك بصمة واضحة في عالم صناعة الكتاب العربي إذ يندر أن قارئاً عربياً لم يقرأ كتاباً واحداً على الأقل من تصميم التوني. هذا إلى جانب اشتغالاته في تصميم ملصقات الأفلام والمسرحيات والمعارض، والإعلانات، وتصميم شخصيات مسرح العرائس (مع صلاح جاهين)، كلُّ ذلك بالموازاة مع لوحته التشكيلية (الزيتية) التي كرّس فيها مفهوم الفنّ الشعبي، مستحضراً التراث القبطي والإسلامي والفرعوني والأفريقي والعربي، ضمن نبرة غنائية تحتفي بالمرأة والطفولة والموسيقى والمقاوَمة.
وحضرت القضية الفلسطينية في أعمال التوني منذ السبعينيات؛ حيث رسم الكثير من اللوحات التي قارب فيها الكفاح الفلسطيني مِن خلال رسومات لنساء وأطفال، كما صمّم العشرات من الملصقات التي مجّدت المقاومة في سياق تعاوُنه مع إعلام “منظّمة التحرير الفلسطينية”، ووثّق حصار بيروت الذي عاشه عام 1982، وسجّل برسوماته يوميات الانتفاضة الفلسطينية منذ اندلاعها سنة 1987، وظلّ مستمرّاً في التفاعُل مع كلّ الأحداث التي عاشها الشعب الفلسطيني، وصولاً إلى حرب الإبادة المستمرّة على غزّة منذ أحد عشر شهراً، حين أخذ ينشر أعمالاً جديدة عن فلسطين ويُعيد نشر أعمالٍ قديمة من أرشيفه عبر حسابه على فيسبوك.
آخر تجارب حلمي التوني مع فلسطين كانت قبل أشهر قليلة، حين وقّع غلاف ورسومات كتابٍ للفتيان للمؤلّفة والباحثة ميسون سكّرية بعنوان “العودة تبدأ منك” (“مؤسّسة الدراسات الفلسطينية”، 2024)، تروي فيه قصّة مراهقَين فلسطينيّين من “مخيّم شاتيلا” في بيروت يحاولان البحث عن وطن واكتشاف سبب كونهما لاجئَين، إلى أن تزورهما شجرة زيتون قديمة من فلسطين في المنام وتتحدّاهما قائلة: “العودة تبدأ منكما”.
*نشرت في العربي الجديد يوم 08 أيلول/ سبتمبر 2024
Leave a Comment