زكـي طـه
بيروت 15 كانون الثاني 2024 ـ بيروت الحرية
وزارتا الدفاع الاميركية والبريطانية أعلنتا عن تنفيذ عشرات الغارات التدميرية لمنشأت تابعة للميليشيات الحوثية في اليمن. وزارة الدفاع التركي أعلنت عن تدمير تسعة وعشرين هدفاً في شمال العراق وسوريا. الاعلام الحربي الاسرائيلي يتجاهل اخبار تدمير مستودعات ومراكز للحرس الثوري الايراني وحزب الله في سوريا، بالاضافة إلى مطاري حلب ودمشق. في المقابل يكرر تعداد مواقع حزب الله المستهدفة داخل الاراضي اللبنانية. والحزب بدوره يُصدر بيانات عن العمليات اليومية التي ينفذها ضد المواقع الاسرائيلية. وميليشيات الحشد الشعبي في العراق تتابع استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا، ويأتي الرد قصفاً لمراكزها. والقيادة الروسية تُصدر بيانات حول غارات طيرانها على مواقع تنظيمات مناوئة للنظام السوري. والجيش الاردني يعلن عن قصف جوي واشتباكات مع عصابات ايرانية لتهريب المخدرات عبر الحدود مع سوريا. وتبقى الاولوية لأخبار التصعيد الاسرائيلي قتلاً وتدميراً وتهجيراً، في الحرب المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. يضاف إلى ذلك أخبار السودان وليبيا و…
إنها عينة من الأخبار اليومية حول أوضاع بعض الدول العربية، في امتداد أزماتها الكيانية التي تحولت حروباً أهلية مفتوحة بفعل التدخلات المباشرة، الاقليمية الايرانية والتركية من ناحية، والتحالفات الدولية المتنوعة والمتعددة من ناحية أخرى، في العراق وسوريا واليمن، مروراً بلبنان حيث اللجنة الخماسية وقوات الطوارىء الدولية مقابل الدور الايراني. أما الجهة المقررة والمشاركة في سائر الأزمات والساحات، فإنها تتمثل في الادارة الاميركية التي تهدف إلى تأمين ورعاية مصالحها وضمان سيطرتها وهيمنتها على المنطقة، بكل ما يحتشد فيها من موارد اقتصادية ومواقع استراتيجية.
جولة وزير الخارجية الاميركي
وكما في جولاته السابقة على دول المنطقة منذ بدء الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية، ومعركة المساندة التي يخوضها حزب الله ضد جبهة العدو الصهيوني مع لبنان، جدد وزير الخارجية الاميركي خلال جولته الرابعة التحذيرات والتهديدات لايران، لضمان عدم مشاركتها في الحرب، وكرر تحميلها المسؤولية عن الاعمال الحربية التي تقوم بها الميليشيات المحلية التابعة لها والتي يُطلق عليها الاذرع الايرانية، في العراق وسوريا واليمن ولبنان، سواء منها التي تستهدف الوجود الاميركي في المنطقة، أو تدعي مواجهة الكيان الصهيوني..
أتت جولة الوزير الاميركي في إطار الجهود التي تبذلها الإدارة الاميركية لضمان عدم توسع الحرب الإسرائيلية، وما يقع في امتدادها راهناً إلى حرب شاملة، تضع الولايات المتحدة وايران في موقع المواجهة المباشرة التي يحرص الطرفان على تجنبها. إيران من خلال إحالة مسؤولية المشاركة فيها على قيادة الميليشيات المحلية، وأميركا عبر التنسيق مع حلفائها وشركائها في المنطقة لإبقاء الحروب الدائرة تحت السيطرة والقدرة على التحكم بمساراتها.
لم تختلف جولة وزير خارجية اميركا عن سابقاتها، من حيث طبيعتها واستهدافاتها، لأنها تقع في إطار الدور القيادي لبلاده في الحرب التي تنفذها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بذريعة الدفاع عن أمنها ووجودها.. وهو الدور المعني بإدارة الحرب ومتابعة مساراتها وتأمين مستلزماتها العسكرية والمادية، لضمان تحقيق أهدافها التي توافقت عليها مع حكومة الحرب في اسرائيل، سواء المتعلق منها بوجودها وأمنها، أو ما يعود إلى إدارة شؤون سائر أوضاع وأزمات بلدان المنطقة، التي تحولت حروباً تفكيكية مستدامة متعددة الأوجه في سياق استراتيجية الهيمنة والسيطرة الاميركية عليها، وبفعل التدخلات الاقليمية المباشرة من قبل إيران وتركيا وسواها.
بدأت الجولة الاخيرة من تركيا، للتأكيد على أهمية دورها في قضايا وأزمات المنطقة، انطلاقاً من عضويتها في الحلف الاطلسي، وبحكم موقعها الاقليمي كحليف لاميركا، والتنسيق مع قيادتها للمساهمة في عدم تحول الحروب القائمة حرباً شاملة والابقاء عليها وفق مساراتها الحالية المتشعبة، وتحديد الدور الأمني لتركيا بعد توقف الحرب على قطاع غزة.
هذا ما أعلنه الوزير بلينكن، قبل أن يتابع جولته العربية، مروراّ بدولة اسرائيل التي يشكل وجودها ودورها وأمنها نقطة الارتكاز الاساسية في استراتيجية السياسة والمصالح الاميركية في المنطقة. ولذلك تعمّد طوال جولته التأكيد على دعم بلاده المطلق لحق اسرائيل في منع تكرار ما تعرضت له يوم 7 تشرين الاول الماضي، وعلى رفض مطلب وقف اطلاق النار إلى أن تحقق الحرب أهدافها.
وللتخفيف من المفاعيل السلبية لهذه السياسة، فقد تعمّد أيضا مع المسؤولين العرب الذين التقاهم الإيحاء بأن بلاده تمارس ضغوطاً كبيرة على اسرائيل لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين الفلسطينيين، والسماح بإدخال المزيد من المساعدات لإغاثة سكان قطاع غزة، والسعي للحد من عمليات القتل والتدمير والتهجير والاعتقالات. أما المطروح من أفكار واقتراحات حلول ومعالجات لاسباب ونتائج الحرب فهو للتداول فقط بانتظار نهايتها. يشمل ذلك قضايا استمرار الاحتلال الاسرائيلي للقطاع، وإعادة إعماره وعودة سكانه ودور السلطة الفلسطينية وحل الدولتين الذي ترفضه اسرائيل، دون إغفال التأكيد على اولوية قضية الاسرى الاسرائيليين. في المقابل أعاد المسؤولون العرب تأكيد مواقفهم ومتابعة ما يقومون به انطلاقاً من مواقعهم ومصالح بلدانهم، في مواجهة مضاعفات الحرب. مصر ترفض تهجير أهل القطاع لحماية أمنها القومي. والأردن يخشى أن يصبح البديل لحل الدولتين. في المقابل تبقى أولويات السلطة الفلسطينية استعادة الوحدة الوطنية ومواجهة مشاريع التهجير، وخوض معركة الصمود على أرض فلسطين لأنها الضمانة لبقاء قضيتهم على قيد الحياة السياسية.
في موازاة ذلك كان واضحاً أن الهم الاساسي للوزير معالجة التباينات والخلافات في صفوف القيادة الاسرائيلية حول آليات ووجهة استمرار الحرب، والتصدي للمصاعب والتحديات التي بدأت تواجه دولة الاحتلال على الصعيد الدولي أو في المدى الداخلي، في ظل عجزها حتى الآن عن تصفية المقاومة، والحد من الخسائر الاسرائيلية الضخمة وغير المسبوقة، وفشلها في تحرير الاسرى، وفي تحقيق الأمن والاستقرار على جبهتي الجنوب والشمال وعودة المستوطنين إليها، هذا عدا استحالة تحديد موعد تقريبي لنهاية الحرب.
وما يؤكد تلك الخلافات، أزمة الحكومة وعدم الثقة بها ومواقف رئيسها وأعضائها والقادة العسكريين، انطلاقاً من حساباتهم الحزبية، والهروب إلى التصعيد الميداني الذي بلغ مستويات تجاوزت كل ما سبقها طوال الحرب، إن لجهة عدد مجازر القتل الجماعي اليومية، أو لناحية التوسع في عمليات التدمير والتهجير في قطاع غزة، في موازاة ما تشهده الضفة الغربية المحاصرة من اقتحامات يومية وعمليات اعتقال وتصفيات، وصولاً إلى وضع قرار تصفية قيادات حركة حماس موضع التنفيذ عبر إغتيال نائب رئيس مكتبها السياسي صالح العاروري في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية. وهو الاغتيال الذي دفع بقيادة الحركة إلى وقف مسار التفاوض بشأن الاسرى الاسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين، إلى جانب تزخيم المعركة المفتوحة على الجبهة الشمالية مع حزب الله.
جبهة الجنوب وخطر الانفجار
صحيح أن القيادة الاسرائيلية معنية بما تنفذه الميليشيات التابعة لايران في العراق واليمن، لكن اميركا وحلفاؤها كفيلون به. كذلك فإن عملياتها الحربية الاستباقية ضد الحرس الثوري والميليشيات التابعة له في سوريا، لا تلقى أية ردود لأنها تنفذ بالتنسيق مع القيادة الروسية التي تحمي النظام السوري، الحريص على تجاهل العمليات الاسرائيلية داخل بلاده. والصحيح أيضا أن دخول حزب الله المعركة تحت راية “المساندة” لغزة، شكل مصدر قلق وتحدٍ فعليين بالنسبة لها، رغم اهدافه الفعلية المتمثلة بالتغطية على قرار القيادة الايرانية عدم الدخول في الحرب ضد اميركا، والسعي لتعزيز دور الحزب وتكريس موقع لبنان في إطار محور الممانعة. ومع أن اولويات حكومة الحرب الاسرائيلية بالتنسيق مع الادارة الاميركية كانت وجهتها قطاع غزة والضفة الغربية، إلا أنها لم تتأخر عن تنفيذ كل الاجراءات الممكنة للحد من خسائرها البشرية والحؤول دون انفجارها حرباً مفتوحة.
لقد ربط الحزب نهاية معركته بوقف اطلاق النار في غزة، لكن المدى الزمني للحرب تجاوز كل التوقعات، وهي مرشحة للاستطالة ولا موعد تقريبي لنهايتها. وبينما تخوض اسرائيل حرباً “وجودية”، سعياً منها لإزالة كل ما يهدد أمنها. فإن معركة الحزب على جبهتها الشمالية، وضعت قيادتها السياسية والعسكرية ومعها المستوطنين أمام تحديات حماية أمنها وضمان استقرارها. غير أنها وجدت في الحرب الحالية التي تحظى بدعم اميركي ودولي شبه مطلق، فرصة تحقيق أهدافها سواء من خلال الضغط لتنفيذ القرار 1701، أو عن طريق تصفية الحساب مع حزب الله ولبنان.
ولذلك فإن معركة الحزب وضعته وقيادته ليس أمام الاسئلة الصعبة وحسب، حول جدواها ومفاعيلها ومضاعفاتها الخطيرة على امتداد الحدود الجنوبية وفي الداخل اللبناني، إنما أمام تحدي القبول بتنفيذ القرار المذكور، أو خطر انفجار حرب تدميرية على لبنان يتابع الموفدون الدوليون التحذير من نتائجها، والتأكيد على اقتراب موعدها، وأن تجنبها مرهون بتنفيذ القرار الدولي 1701. وآخر هؤلاء، الموفد الرئاسي الاميركي هوكشتين الذي لم يأت ليفاوض، بل لعرض أفكار تتعلق بإزالة التوتر على الحدود، والتحذير من الخطر القادم، عبر مستويات التصعيد التي بدأت تتجاوز قواعد الاشتباك، وفي ظل عمق مأزق البلد وعدم وجود مرجعية رسمية أو دستورية تتحمل مسؤولية تنفيذ القرار، وأختزال العلاقة بالثنائي الشيعي، الذي يربط البحث في هذا الشأن بوقف اطلاق النار في غزة. في وقت تتصاعد فيه مستويات تفكك السلطة وشلل مؤسسات الدولة وأجهزتها وتتزايد مؤشرات انفلات الانهيار الاقتصادي والمالي، واتساع حالة الفوضى السياسية والادارية والأمنية التي تتحكم بأوضاع البلد كافة.
وما يعزز خطورة الوضع، حالة الانقسام الأهلي والانفصام السياسي المستفحل، اللذين يعكسان تناقضات وتعارضات اولويات اللبنانيين حيال أزمات الداخل وحول مواجهة العدو الاسرائيلي وخطر الحرب. إنه الوضع الذي تكاد تنعدم في ظله إمكانية الخروج من النفق، ليس على مستوى قوى السلطة وحسب، بل أيضا على صعيد القوى والاحزاب المستقلة عنها، التي تساهم بقوة عجزها عن تحديد دورها وتبرير وجودها، في تيئيس اللبنانيين وأولهم المتضررين والنازحين من القرى والبلدات الجنوبية الذين ينتظرون المجهول، وسط معمعة الحروب المفتوحة والمتشابكة بين الأهلي والاقليمي، التي تعصف بشعوب ودول وبلدان المنطقة بإدارة أميركية لا تحتمل الالتباسات.
Leave a Comment