سياسة

“حرب الجنرالين” تفكك دولة السودان وتدفع المجتمع والشعب إلى المجاعة

زهيرهواري

بيروت 1 تموز 2024 ـ بيروت الحرية

خلافاً للتوهم الذي ساد بعض الوقت من أن الصراع في السودان سائر نحو الخمود، وأن هناك ما يشبه ثبات خطوط التماس وهدوء الجبهات، عاد القتال لينفجر مجدداً وإنما في ولاية سنار جنوبي السودان. وكانت معارك عنيفة قد انفجرت بين الجيش وقوات الدعم السريع في منطقة جبل موية في ولاية سنار الواقعة على بعد 296 كيلومتراً جنوب الخرطوم، وعلى بعد 32 كيلومتراً من مدينة سنار، كبرى مدن الولاية. طرفا الصراع قدم كل من منهما رواية تتحدث عن “فتوحاته” في المعارك، مستفيدا في تسويق روايته من انقطاع الاتصالات مع تلك المنطقة. المهم أن المعارك شملت مصنع سكر سنار الذي جعلت منه قوات “الدعم السريع” مجرد ثكنة عسكرية بعد تقدمها مطلع العام الحالي في الحدود الغربية للولاية. وشرحت في روايتها المفصلة ما حققته من غنائم حرب، بسيطرتها على العربات سليمة وتدمير بعضها، ومقتل وأسر مئات المقاتلين من “الانقلابيين”. إضافة إلى ما تتوقع تحقيقه من تقدم نحو مدينة سنار وبعدها مدينة سنجة عاصمة الولاية. أما الجيش السوداني فقد عرض لأشرطة فيديو تظهر أسرى من قوات الدعم السريع لتأكيد استمرار سيطرته على المنطقة ونفي سقوطها في ايدي أعدائه.

وتمتاز منطقة جبل موية بأنها من المناطق الاستراتيجية في الحرب الحالية، فهي تربط أربع ولايات مع بعضها البعض وهي: سنار والنيل الأبيض والجزيرة وجنوب كردفان، وأن السيطرة عليها من قبل الدعم السريع سيضيق الخناق على مدن وولايات وفرق عسكرية عدة تتبع الجيش النظامي ويعزلها عن وحداتها. وتتموضع منطقة جبل موية أيضاً على الطريق الرابط بين سنار وربك، وقبول سقوطها في يد التمرد غير وارد بأي حسابات عسكرية، وتطهيرها من التمرد سيسهم في القضاء على القوة المتماسكة للمتمردين في الجزيرة، ويزيد من محاصرة قواتها في ولاية الجزيرة ككل. هذا بين القوتين المتحاربتين، لكن المنطقة تعتبر من المناطق الزراعية الأساسية في السودان، ما يعني أن تحول المنطقة إلى مسرح قتال سينعكس على انتاج الأغذية التي يعتمد عليها السودانيون في طعامهم اليومي وأبرزها الذرة والدُخن وغيرهما.  أيضا من شأن اندلاع القتال مضاعفة أعداد الجياع والنازحين في الداخل السوداني واللاجئين إلى خارجه.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي : لماذا انفجر القتال فجأة؟

للإجابة على السؤال لا بد من القول إن العلاقات الثنائية بين المكونين العسكريين النظامي  والميليشياوي خلال الأشهر الفائتة ظلت تدور على نفسها، فلم يجرِ تنفيذ الاتفاق الذي تم توقيعه في  جدة  ولا أحد استجاب للدعوات الأممية والافريقية إلى التفاوض الثنائي بينهما. حدث هذا بينما دار كل من قائدي المعسكرين على العديد من الدول الافريقية المجاورة، وكلاهما يسعى أن يحصل على الدعم الذي يمكنه من الانتصار على خصمه. لكن الأهم هو فقدان الدعم الشعبي الداخلي لأي منهما، وتبعية أطراف الداخل لقوى الخارج وهو ما حسم بفشل التهدئة. فالطرفان يتصرفان ومنذ زمن طويل على أن حربهما لا بد وأن تنتهي بمنتصر ومنهزم ، أو قاتل ومقتول. أي أنه لا وجود لفكرة التسوية لدى أي منهما، بما يقود إلى رفع السيف عن رقبة الشعب السوداني المعذَّب. ولأن ذلك لم يحدث ومازالت الأطراف الإقليمية الداعمة لكل منهما تمسك بزمام الأمور، فالبديهي أن تعود إلى التخاطب بلغة المدافع ودوّي القذائف.

والواقع أن الطرفين لا يعبآن بالأرقام التي ترددها المنظمات الأممية لأعداد القتلى والنازحين واللاجئين والتي تتراوح بين 8 و10 مليون. ومؤخرا أضافت الأمم المتحدة، حوالي 143 ألف شخص نزحوا من الفاشر بولاية شمال دارفور جرَّاء الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى الاعداد المسجلة لديها. وقد حذرت كل من المفوضية السامية للاجئين ومنظمة العفو الدولية (امنستي) و مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوشا) في بيانات منفصلة من انزلاق السودان نحو الفوضى الشاملة مع تفاقم الأزمة بسبب الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في المنطقة ومضاعفاتها الغذائية والصحية.

وأشار بيان منظمة العفو الدولية استناداً إلى تقارير وضعها خبراؤها إلى نزوح ما يقدر بنحو 7.3 ملايين شخص داخلياً منذ منتصف إبريل/ نيسان 2023، موضحاً أنه خلال الفترة من 1 يناير إلى 30 إبريل/ نيسان 2024، قدم الشركاء في المجال الإنساني مساعدات إنسانية لأكثر من 5.2 ملايين شخص في جميع أنحاء البلاد.

ومن المعروف أن القتال نكأ أيضًا الجراح القديمة التي خلّفها تاريخ جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والعنف القائم على الصراعات الإثنية في البلاد. وقد تحقق الباحثون من حالات متعددة للهجمات النابعة من دوافع إثنية ضد شعب المساليت الإثني في غرب دارفور في بلدات مثل أرداماتا، والجنينة، ومستيري وتندلتي. وتشير الأدلة المستقاة من الناجين إلى أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها هي التي تقف وراء هذه الهجمات. وكان هذا الشعب قد تعرض في العام 2003 لعمليات تطهير إثني، عندما قامت قوات الحكومة السودانية بقتل أشخاص منها بصورة منهجية كما ذكر بيان المنظمة.

والفعلي أن هناك أكثر من 9 ملايين نازح داخلي في السودان، ما يجعلها أكبر أزمة نزوح في العالم، بينما فرّ 1.8 مليون شخص آخرين من السودان إلى بلدان مجاورة مثل إثيوبيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وتشاد، ومصر. ويعاني السودانيون من نقص في المؤن في شتى أنحاء البلاد، ما يجعلهم ينازعون للبقاء على قيد الحياة، ليس فقط من دون مأوى، بل أيضًا من دون ما يكفي من الطعام، والماء، والدواء.

وتقدر المنظمات الأممية عدد من يعانون فقدان الأمن الغذائي بـ 25 مليون شخص عالقون في دوامة القتال. وقد أدى النزاع إلى توقف عجلة قطاع الزراعة والإنتاج الزراعي، وتسبب بتعطيل التجارة ما أحدث صدمة اقتصادية سلبية، كما أن تقطع خطوط الامداد منع وصول المساعدات الدولية إلى مناطق شاسعة تشهد اشتباكات بين الفريقين. وتقول منظمات دولية مثل برنامج الأغذية العالمي إنها لا تستطيع الوصول إلى نسبة 90% من الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع. ومن العدد الإجمالي هناك ما يزيد على 2.9 مليون طفل يعانون سوء تغذية حاد منهم 729,000 دون سن الخمسة أعوام يوصف سوء تغذيتهم بالحاد والشديد.

كذلك يزداد خطر وقوع عنف جنسي ضد النساء والفتيات خلال النزاعات المسلحة، وهذا ينطبق بالتأكيد على السودان. فقد وردت أنباء عن حالات الاغتصاب، والاستعباد الجنسي، وغيرهما من أشكال العنف الجنسي بعد أيام فقط من نشوب النزاع. وهذه الأفعال هي جرائم حرب وانتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني. وفي تقرير وضعته أوشا رأت أنه من المتوقع أن يؤدي ارتفاع مستويات الجوع وسوء التغذية الحاد الشديد إلى زيادة مستويات الوفيات المرتبطة بالجوع في الأشهر المقبلة.

ومنذ 15 نيسان/ أبريل 2023 تاريخ اندلاع الاقتتال، سجل مشروع بيانات أحداث ومواقع النزاعات المسلحة 15,550 حالة وفاة في السودان، ولا تتحدث التقارير عن عدد الجرحى،  بينما سجلت أكثر من 1,400 حادثة عنف استهدفت المدنيين في جميع أنحاء البلاد. ومنذ آذار/ مارس ونيسان / أبريل لم يتلق ما يقرب من 860 ألف شخص مساعدات إنسانية في كردفان ودارفور والخرطوم بسبب أعمال العنف الدائرة، بالإضافة إلى التعقيدات والعقبات العسكرية والبيروقراطية والإدارية.

وتتزايد الدعوات الاممية والدولية لتجنيب السودان كارثة إنسانية أفدح قد تدفع الملايين إلى الموت جوعاً؛ جرّاء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 12 ولاية من أصل 18 في البلاد. ولكن مثل تلك النداءات لا تجد آذانا تصغي إليها، لذلك يستمر التلاعب بالبلاد ودماء أهلها ومستقبل أجيالها التي تدفع أثمان أطماع وصلف العسكريين ومغامراتهم وتبعيتهم للخارج.

Leave a Comment