زهير هواري
بيروت 3 آب 2024 ـ بيروت الحرية
أعلنت رئاسة مجلس الوزراء الحداد الوطني يوم الاحد الواقع في 4 آب 2024 “في ذكرى فاجعة انفجار مرفأ بيروت، وخلالها تنكس الاعلام على الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات ، كما تعدل البرامج العادية في محطات الاذاعة والتلفزيون بما يتناسب مع ذكرى الفاجعة الأليمة، وتضامنا مع عائلات الشهداء الابرار والجرحى وعائلاتهم “. هذا هو الخبر كما أصدره رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي في مذكرة .
يتوهم من يقرأ الاعلان أن الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي قبل أن تصبح في حال تصريف الاعمال، أو من سبقه من رؤساء، قد قامت بواجباتها كاملة ، وأجرت التحقيق اللازم بالفاجعة، وساقت المتسببين إلى القضاء، وعاقبت المشاركين والمسؤولين، وأودعتهم السجون جزاء ما اقترفته أيديهم . يستوي الفاعلون والمتسببون والمقصرون ممن قادت ممارسستهم أو اهمالهم إلى جعل الكارثة ممكنة الحدوث. وبما أن العدالة أخذت مجراها على النحو السابق، فاللبنانيون معنيون بتذكر الحادثة الأليمة كواقعة عفا عليها الزمن، ورغم ما أدت إليه من خسائر بشرية تجاوزت الـ 270 ضحية (لبنانيون وأجانب) والآف الجرحى ودمار ألوف المؤسسات من مدارس ومستشفيات ومستوصفات وشركات ومكاتب مياه وطاقة كهربائية ونوادي ومسارح وقس على ذلك . مضافاً إليها عشرات ألوف الوحدات السكنية. الشفاء من هذه الجراح قامت به الحكومات المتعاقبة منذ الماساة وإلى اليوم. ولأن كل ذلك جرى إنجازه على أكل وجه، فليس أمام اللبنانيين سوى تحويل الواقعة إلى أرشيف الذاكرة. يستحضرها اللبنانيون للموعظة. وعليه، باتت الفاجعة وراءهم وليست أمامهم. فالضحايا من عسكريين ورجال اطفاء وجمارك ومدنيين جرى تخليد ذكراهم وتأمين عائلاتهم وابنائهم في المدارس والجامعات، وتكفلت الدولة بتربية صغارهم وتدبير مستقبل شبابهم وشاباتهم ممن كانوا على عُهدة الشهداء. أما الاضرار المادية فقد جرى التعويض عنها، وإعادة بناء ما يستوجب البناء وترميم ما هو بحاجة إلى ترميم، واستبدال ما هو تالف من أجهزة والآت و أقسام ومقتنيات ولوازم منزلية أو عملية.. وكله على حساب الدولة وبهمة وسهر من جانب المسؤولين الذين تابعوا الاعمال من الالف إلى الياء، توصلاً إلى درجة لم يعد أحد يدرك أن زلزالاً ضرب المدينة وعصف بأهلها ومبانيها وساحاتها فقتل من قتل وجرح من جرح ودمر ما دمر.
اعلان الحداد الوطني الذي قرره رئيس الحكومة يجب أن يرد عليه بصاعين وليس بصاع واحد، إلى الحد الذي يجب أن تطال العقوبة حتى أولئك السياسيين والأمنيين والإداريين الذين أغمضوا عيونهم عن الخلل الذي يحدث أمامهم. ولنتذكر ما جرى تسويقه من إدعاءات منذ اليوم الاول للكارثة. أربع سنوات فقط لا تجعلنا ننسى أن ما أشيع عن انفجار تسببت به “غشمنة” حداد افرنجي خلال لحام بوابات متهالكة، فكان ما كان من حريق وأنفجار. وأيضا لم ننس الوعد الذي قطعه لنا ولأهل الضحايا وكلنا أهلهم رئيس الحكومة من أن التحقيق لن يستغرق أكثر من خمسة أيام لتظهر النتائج واضحة للجميع كعين الشمس . وكلنا يتذكر الدوامة التي أطاحت بالمحقق العدلي الاول القاضي صوان، وما تعرض له المحقق العدلي الثاني القاضي البيطار لإرغامه على التخلي عن مهمته، وفي حال اصراره لا بأس أن تصل الدماء إلى الرُكب لمنع التحقيق من استكمال مجراه كما قال أحدهم. الوقائع معروفة وكيف جرى التداخل والتلاعب واعداد متاهة قانونية تشارك فيها السياسي والقضائي والأمني والاداري والميليشياوي حتى أمكن تمييع القضية واطلاق سراح المتهمين جميعاً والتلويح بإحالة البيطار نفسه للمحاكمة. أهل الضحايا ممن هم وراء القضية لم يتعبوا من التظاهر الاسبوعي والشهري والسنوي حاملين صور أحبتهم مطالبين بالعدالة لأبنائهم وبناتهم ممن قضوا، ولم يجدوا لدى المسؤولين ذرة من ضمير للدفاع عن دمائهم المهدورة، ليس من منطلق الثار، بل من منطق العدالة التي تحمي الأحياء عن مصير مشابه لمصير أبنائهم ممن قضوا بالانفجار والعصف الذي رافقه وزعزع المدينة بأهلها وجيرانهم وجدران بيوتها.
أحدهم يروي لي منذ أيام أنه و زوجته يقيمان في منزلهما ببئر حسن، أي على بعد عدة كيلومترات من موقع انفجار المرفأ. مع ذلك فقد قذف العصف بزوجته لعدة أمتار. وبعد رحلة من هذه المستشفى إلى تلك، أمكن تدبير سرير لها وأجريت لها جراحة في الدماغ، كانت بحاجة بعدها إلى دواء لم يعثر عليه وجرى استحضاره على حسابه من ألمانيا. وشرع الاطباء بالعلاج، لكنها بفعل الارتجاج العنيف الذي تعرض له دماغها لم تصمد أكثر من 15 يوماً فارقت بعدها الحياة. هناك ما زال أحياء أموات بفعل ما تعرضوا له من إعاقات وتمزق وكسور وغياب عن الوعي والتفاعل مع المحيط. والحصيلة، لا تقنعنا “اريحية” الرئيس ميقاتي ولا سواه من الوزراء والمسؤولين الذين غسلوا أيديهم مما حدث في المرفأ وسواه. ولأن ما جرى خلال السنوات المنصرمة ظن اصحابه أن الجريمة طمست معالمها فعاد المرتكبون إلى الظهور على الشاشات وكأن شيئا لم يكن.
حداد وطني . كان من الممكن أن يقتنع ذوو الضحايا بعدم ضرورة اعلان يوم الحداد هذا ، لو أن المسؤولين قاموا بواجباتهم وما تمليه عليه مسولياتهم في السهر من أجل تحقيق العدالة. ولكن، لأنهم لم يفعلوا شيئا واكتفوا بإشغال الكراسي التي حصلوا عليها بالرشاوى والتلاعب والتحريض الطائفي تراهم سادرين في غيهم، متجاهلين أن أبسط واجباتهم كمسؤولين في الدولة تتمثل في تحقيق العدالة ووقوف الجميع أمام قوس القضاء متساوين للوصول إلى اصدار الحكم على المرتكبين الذين عبر أحدهم عن “مفهومه للعدالة” متباهياً بقدرته على قبع القاضي من كرسيه تحت قوس العدالة، ولم يجد مانعاً يمنعه من تهديد البلد بفتح أبواب ألحرب الأهلية على مصراعيها، مستندا إلى أن الافلات من العقاب بات هو القاعدة في زمن هيمنة أمراء الحرب على الدولة ومصادرة عدالة القضاء والتخلي عن مهام الادارات العامة والخاصة الخدماتية والادارية.
4 آب يوم حداد وطني على سلطة لا عينان لها فتدمع، ولا أذنان لها فتسمع، ولا احساس لها لتشعر بمرارة الفقدان وخسارة الأحبة. يحمل ذوو الضحايا صور أبنائهم وبناتهم وآبائهم بينما المسؤولين يكتفون بصورهم الممقوتة على الشاشات الملونة وأوراق الصحف الصفراء. لكن هؤلاء المكلومين يؤكدون كل يوم أن حقا لا يموت ووراءه مطالب ومطالبات. فإلى متى تقف عدالة القضاة عاجزة أمام بطش الميليشيات ومافياويتها ؟
Leave a Comment