2 تموز 2023 ـ جريدة النهار
حبيب صادق.
شكل حبيب صادق ظاهرة في الحياة الثقافية في لبنان، وإن كان في أساسها جنوبي أصيل في تراث جبل عامل، لما حملته من إرث عريق بأبعاده اللبنانية والعربية والإنسانية. لكن مسيرته لا تختصر بإنتاجه الثقافي بل بدور سياسي لعبه على مدى سنوات عمره امتداداً من الجنوب إلى كل لبنان، من موقع يساري وطني متنوع ومنفتح على الجميع. حمل حبيب صادق على ظهره كل ذلك الإرث وهموم الوطن بأصالة قل نظيرها مواجهاً كل أنواع الوصاية والهيمنة في الجنوب ولبنان، وما الفراغ الذي تركه عند غيابه بفعل المرض ورحيله إلا دليل على ما مثله هذا العاملي في الثقافة والسياسة وما تميز به من ثوابت وقيم أخلاقية وثقافة إنسانية كبيرة.
مثّل حبيب صادق علامة مضيئة للثقافة وللممارسة السياسية منذ الستينات من القرن الماضي، في النضال والمقاومة وفي مواجهة الاقطاع وضد الهيمنة، وناضل من أجل الانتصار للحريات والديموقراطية. وحتى آخر أيام حياته قبل أن يقعده المرض لم يتوان عن النضال من أجل لبنان الديموقراطي العلماني، ليس من موقعه في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي تحول على مدار عقود مساحة للثقافة اللبنانية والعربية والإنسانية فحسب، بل في الخيارات السياسية التي جسدت أصالة إنتمائه للبنان وعمله لتعزيز مناعته الوطنية ورفض التبعية والانغلاق بين مكوّناته وبناه الاهلية على قاعدة التوافق وتنظيم الاختلاف.
لم يكن حبيب صادق شخصية شيعية جنوبية تحمل أوهاماً بموقع نيابي أو سياسي محلي، انما شخصية لبنانية عربية إنسانية، انطلقت من جبل عامل امتداداً نحو الوطن، مكرساً ظاهرة يسارية لبنانية لم تتقوقع في قالب مذهبي وطائفي، بخلاف ما يسعى إليه البعض من أسر إرث جبل عامل في الاصطفافات وتوظيفه في حسابات الهيمنة والسيطرة في ظل الصراع الاهلي في لبنان، لذا شكل المجلس الثقافي للبناني الجنوبي منذ تأسيسه في العام 1964 مساحة حوار وتنوع جمعت كل الاطياف وصولاً إلى تحوّله موقعاً لبنانياً عاماً جمع المعارضة اللبنانية المسيحية والإسلامية في مواجهة الوصاية السورية وأذرعها المذهبية والطائفية في لبنان.
لا يُختصر تاريخ حبيب صادق السياسي بتأسيسه المنبر الديموقراطي عام 2004، وهو المنبر الذي استقطب كل المعارضة اللبنانية في وجه الوصاية. جمع حبيب صادق في المجلس الثقافي للبناني الجنوبي كل المعارضين للوصاية السورية، ولم يكن لديه أوهام بجبهة موحدة، إنما كانت محاولة للتواصل بين المختلفين. حدث ذلك قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقبل أن ينقسم البلد بين 8 و14 اذار عقب خروج النظام السوري من لبنان، فاحتضن المجلس معظم الشخصيات المعارضة للحوار. جاء وليد جنبلاط ثم أمين الجميل إلى الشقة الصغيرة في منطقة برج أبي حيدر، وتدفقت شخصيات كثيرة إليه، وكان سمير فرنجية يحضر كل يوم لمتابعة التطورات، وصولاً إلى تنظيم اللقاء الحاشد في البريستول تحت عنوان “الانتصار للحريات والديموقراطية واحترام الدستور”، فتكررت خلاله الدعوات الى تصحيح خطأ التمديد واستقالة رئيس الجمهورية اميل لحود، والتضامن مع المواقف السياسية لوليد جنبلاط “في مواجهة الضغوط التي يتعرض لها من اجهزة النظام نتيجة مواقفه من تعديل الدستور، واطلاقه مع تسعة نواب آخرين مراجعة إبطال وطعن في شرعية التمديد لولاية لحود. وحينها دعا حبيب صادق الى “الانخراط في صفوف المواجهة وتجاوز حدود الاكتفاء برفض التعديل والتمديد الى مواجهة الولاية الممددة اللاشرعية التي فرضها فرضاً على الشعب اللبناني قرار من خارج ارادته الحرة.
جمع حبيب صادق بين السياسة والثقافة، وإن كان يعتبره البعض مفكراً عاملياً جنوبياً، انما كان يساري الهوى من دون أن يكون حزبياً. فهو وإن كان نشأ في بيئة دينية، إلا أنه تمرد خالعاً جبتها وعمامتها إلى أفاق أرحب وأوسع بعيداً من الفكر الديني. ويُحسب له أنه غرّد من خارج سربه مؤسساً لثقافة عاملية جديدة تنتسب إلى لبنان، وسياسة تدعو إلى استعادة وحدة البلد وتعزيز حصانته، “فهو العابر للطوائف، والقادر، على الإجابة عن أسئلة معضلاته المزمنة”. ومن خلفيته اليسارية راهن دائماً على خطوات توحيدية لبناء كتلة اجتماعية تحمل مهمة التأسيس للمرحلة المقبلة، رافضاً الاستنسابية في التعريف بالموقع اليساري والتي تناقض نفسها بنفسها هنا وهناك ما يؤدي إلى تهافت قوة اليسار وصدقيته في مواجهة الحملة التي أخذت البلد إلى الطوفان الطوائفي.
التجارب السياسية الصاخبة لحبيب صادق لم تثنه عن الاستمرار في المواجهة في الجنوب، من انتخابات 1968 النيابية، إلى انتخابات 1972 التي شكلت علامة فارقة في مواجهة الاقطاع والسلطة، إذ خاض المعركة الصعبة بتحالف اليسار مدعوماً من كمال جنبلاط ضد لائحة الرئيس كامل الأسعد، وكاد أن يخترق بحصوله على أكثر من 10 آلاف صوت في قضاء مرجعيون، لينكشف حينها التلاعب بالصناديق، فأُسقِط قبل أن يتعرض لمحاولة إغتيال في وضح النهار عام 1977 على طريق الأونيسكو بهدف إسكات صوته الجنوبي العاملي المتميز. وهو الامر ذاته الذي واجهه في مرحلة التسعينات من القرن الماضي، خصوصاً في انتخابات دورتي 1996 و2000 في مواجهة تحالف “الثنائي الشيعي” حركة أمل و”حزب الله” عندما وصفه نبيه بري بممثل “الاقطاع الثقافي” وركز كل حملاته لإسقاطه. لكن حبيب صادق في مواجهة الهيمنة في الجنوب نال 70 الف صوت في الجنوب و50 الف صوت في الدورتين توالياً، وهي أرقام لم تستطع المعارضات في الجنوب تحقيقها خلال الانتخابات لاحقاً.
وفي ما يتجاوز التجربة النيابية الوحيدة التي أوصلت حبيب صادق إلى البرلمان في لائحة التحالف مع نبيه بري في 1992 التي سرعان ما انتهت بالانفصال خلال أشهر، وخروج صادق من كتلة التنمية والتحرير، جاءت تجربة 2005 الانتخابية، لتخرجه ايضاً من التحالفات التي شكلت تواطؤاً عبر التحالف الرباعي، وتُرك حبيب صادق يخوض المعركة وحيداً من خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية، ومعها انطوت صفحة معارضة البريستول جنوباً على صورة خائبة، فشرع في ترميم وضعه السياسي والانتخابي، لمواجهة سلطة التحكم بواقع الجنوب لكنها فشلت في جمع اليسار والقوى الديموقراطية، بعد انسياق البعض إلى ممارسة التصنيف العشوائي حين سلك بعض اليسار طريق التناغم مع الطوائف كل من موقعه في الانتخابات والتحالفات، فدعا حينها إلى إعادة تحديد مهمات اليسار من خارج المراهنة على موقع نيابي في صفوف الطوائف والمذاهب أو في الإقبال على بعض ورثة سلالات تقليدية تخطّاها الزمن برغم توسلها، بشتى السبل، إلى استعادة مجد غابر وزعامة بائدة…
في تاريخه، حمل حبيب صادق إرثاً من الثقافة لا يقتصر على “جبل عامل” بل هو إرث لبناني وعربي وإنساني، لا يتمثل فقط في إصداراته الخاصة وكتب المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، بل في نشاطه الذي لم يتوقف مع مرضه. جمع التراث والشعر الادبي العاملي، ولم ينس أرض طفولته الاولى “الخيام” حين كتب أبياتاً لها لم يوقعها “عام مضى يا خيام … عليك منا السلام”. ومن لم يقرأ قصيدة “أرض الجنوب”: أهلك لا سورٌ من الكذب … أهلك لا قناصة الرتبِ … صدوا الرياح السود يحفزهم … جرح التراب وأنةُ العشب.”
حبيب صادق المعلم والمثقف والسياسي والكاتب والأديب والعاملي اللبناني العربي والإنساني، الظاهرة التي سنشعر في غيابها بحجم الفراغ الذي تركه، سيبقى “عزيزاً” في الذاكرة وفي تفكيرنا بلبنان المستقبل.
Leave a Comment