رشا الأطرش*
حضرت الناشطة الحقوقية الإيرانية، نرجس محمدي، حفلة تسليمها جائزة نوبل للسلام، بصورتها المعلّقة خلف ولديها اللذين تسلما الجائزة نيابة عنها. ولداها اللذان لم ترهما منذ سبع سنوات، وقد بدأ أملهما في لقائها ينحسر عن يأس. وصورتها “المهرّبة” التي وحدها تستطيع أن تؤمن حضورها كما تريد هي، وليس كما يريد سجّانها والمستبدّ. إذ قالت رئيسة لجنة نوبل، ريس اندرسن، إن نرجس “طلبت منا استخدام هذه الصورة بالذات، التي تعبّر عن الطريقة التي تريد أن تعيش بها حياتها، وتبدو سعيدة في الملابس الملونة، وتكشف شعرها وتنظر إلينا بثبات”.
أما مهسا أميني، فهي في القبر الذي، قبل أن تُسجّى فيه، لم تختر أن تصبح صورها أيقونات احتجاج، ومظلات تظاهرات عاتية ومؤلمة في بلادها وخارجها، لكنها دفعت حياتها ثمناً مسبقاً لما يفترض أن يكون بديهياً، وليس حدثاً دامياً: امرأة ترتدي أو لا ترتدي ما تريد، وتمشي في الشارع. لكن مهسا صارت الصورة، رغماً عنها، بل الصورة ضمن الصورة في ملصق احتفالية “جائزة سخاروف”. وفازت، مع حركة “امرأة، حياة، حرية” الإيرانية بالجائزة الأوروبية المرموقة، لتنتهي رحلة عائلتها لتسلم جائزتها، في مطار طهران، حيث صودرت جوازات سفرهم ومنعوا من مغادرة سجنهم الكبير.
من السجن، إذاً، ومن تحت التراب، ومن قلب الخطر الكامن في تحدّي سلطات متوحشة في الشوارع وأنفاق القطارات وعلى أسطح المباني التي تُرمَين منها، تفوز الإيرانيات بجوائز دولية. وفي ذلك ما هو أبعد وأعمق من الاعتراف والتكريم وتظهير تضحيات أفراد وجماعات محاصرة من أجل قضية محقة وعادلة وأساسية.
فالقضية الإيرانية، التي أحيتها قضية مقتل مهسا أميني، وأعادت تفجيرها غضباً شعبياً بعد سلسلة من الحقبات الاحتجاجية المشابهة منذ إرساء الثورة الخمينية لحكم الملالي، تبدو الآن، الوحيدة في الشرق الأوسط التي تكافح احتلالاً وطنياً ولم تلفظ أنفاسها الأخيرة أو تتفتت أو تتحول حرباً أهلية. سوريا، العراق، لبنان، مصر،… كلها وُئدت فيها انتفاضات الربيع العربي الصادقة والقصيرة. كلها، مع تفاوت حدة احتلالاتها المحلية، ووضوح تلك الاحتلالات وجذريتها ووقاحتها.
ما زلنا نسمع عن تظاهرة هنا، وحراك هناك، لكن الاحتلال الوطني ماكث وحصين في بقعتنا من الأرض. ينهب مقدرات بلادنا وأجيالنا، يحكم بالحديد والنار، بالدين والعسكر والعصبيات، ويُملي على المواطنين أفكارهم وسلوكياتهم وأسلوب حياتهم تحت طائلة عقوبات لا تني تبلغ التعذيب والقتل. هذا الاحتلال، ابن جِلدة مواطنيه وجلادهم، ما زال يعتدي عليهم. في أموالهم وأرزاقهم وعقولهم وخياراتهم وجنسهم وأطفالهم، ولا قانون إلا قانونه. الاحتلال الوطني، نخبة/مافيا أو زعيماً واحداً، ما زال… وكذلك معارضوه. لكن الإيرانيات والإيرانيين لم يُصابوا بعد بعدوى الإفلاس والشرذمة، ليس تماماً، وليس بما يعني نهايتهم.
القضية الإيرانية، راهناً، هي الوحيدة إقليمياً التي ما زالت بكامل ألقها الثوري، ومأسويتها أيضاً. قضية لأبنائها وبناتها، في وطنهم، لكنها أيضاً تخفق في قلوب جيرانهم وجاراتهم. فاحتلال نظام الثورة الإسلامية، لا ينحصر في إيران، كما علمنا جميعاً وذقنا. وهو، إذ يتمدد ويضرب جذوراً في أراضي المنطقة بأسرها، يقرر موتاً ويشكل حياة، ويقمع بأذرعه الكثيرة. والإيرانيات يقلن لهذا النظام، في أرضه وملعبه: لا. بلا سلاح. بلا زنود مفتولة. القلوب هي الأشجع والأقوى. يكشفن شعرهن، يغنين، يرقصن، يرفعن أصواتهن بالهتاف، ويسجلن الفيديوهات في غرفهن وفي الساحات العامة. ومن قلب الزنازين، ومن العالم الآخر، يتسلمن الجوائز بأيدي أبناء وأخوة وأصدقاء.
وبعد انطفاء سوريا ومصر والعراق ولبنان، وانحدارها بناسها إلى قاع فقر وخوف، إرهاق وقنوط، ربما تكون القضية الإيرانية هي الوحيدة في شرقنا المتعب، التي يندمج فيها النسوي بالسياسي وحق تقرير المصير، بهذا الحجم وهذه الدرجة من الالتصاق حدّ التماهي. الوحيدة التي صدارتها الأولى للنساء، ناشطات ومُقاوِمات ومعتقلات وضحايا. موضوعها ولبّها النساء. وشعاراتها ومطالبها تمس حيواتهن مباشرة، كراماتهن، كياناتهن. تُرفع بأيديهن وحناجرهن. وفقط عبرهن، تخرج إلى الوطني الأعم والحرية الأشمل والديموقراطية الأوسع.
لذلك كله، جائزة نوبل للسلام 2023، مهمة، ومثلها جائزة سخاروف 2023. الأموال بالطبع تصنع فرقاً، وربما تستخدم في دعم مسيرات الفائزات ومَن يستلهم(و)ن حيواتهن. لكن الضوء يعادل وزن المال. ضوء ينهمر على إيرانيات باسلات، ومن خلالهن، ومن أجلهن، وبفضلهن، على نساء ورجال في هلاميات الأوطان المحيطة. ضوء هو أيضاً حصة هؤلاء المعنيين والمعنيات، الشركاء في نَير الاحتلال، وفي ثقل الصخر الجاثم على حريات وحقوق… مثلما هو إنجاز الإيرانيات وفخرهن المستحَق. كلنا في المشرق، فزنا معهن، ولو بالوكالة.
*نشرت في المدن الالكترونية بتاريخ الأربعاء 2023/12/13
Leave a Comment