زكي طه
لأن المكتوب يُقرأ من عنوانه، فقد كانت نتائج الاستشارات النيابية الملزمة لتشكيل حكومة جديدة معروفة سلفاً، سواء تعلق الأمر بإسم الرئيس المكلف، أو بما سيسفر عنه التكليف. وهي الاستشارات التي تضافرت مواقف شتى الكتل النيابية على تجديد الإقامة في جمهورية الفراغ، نظراً لاستحالة تأليف حكومة جديدة. أما موجبات إجرائها فمردها عدم قدرة رئاسة الجمهورية على تأخير الدعوة لها إلى ما لا نهاية، رغم استمرار عهد بدع الصلاحيات الدستورية.
والحكومة الجديدة افتراضياً هي الأخيرة للعهد المقيم وسط الفراغ، لأنه لم يتبنَ أيٌ من الحكومات الأربعة التي خاض معارك تشكيلها منذ وصوله إلى سدة الرئاسة. أما صفة القوة المدعاة التي لازمت التعريف به وشعارات الاصلاح والتغيير، فقد بقيت حبيسة جدران القصر حيث يقيم، وهو يردد مقولته المعروفة “ما خلّونا”. وافتراضياً أيضاً هي الحكومة التي ستؤول لها صلاحيات الرئاسة في ظل فراغ الموقع، وتعذر انتخاب رئيس جديد كما هو مرجح.
وتأخير الاستشارات النيابية تم عمداً بأمل العثور على مرشح يقبل بشروط العهد وتياره. وفي هذا السياق احتدم السجال الذي سبق الدعوة لها حول اسم الرئيس المكلف ومواصفاته ومدى التزامه بتعهداته، بالإضافة إلى توزيع الحصص وتقاسم الوزارات. ولذلك تحول استحقاقي تأليف الحكومة وانتخابات الرئاسة، امتداداً لمعارك الانتخابات النيابية الأخيرة، بما فيها محاولات سائر الاطراف المحلية توظيف نتائجها، لتحقيق طموحاتها الفئوية الموصولة برهاناتها الخارجية.
لقد أكدت نتائج الاستشارات النيابية على نحو لا يحتمل الالتباس، انسداد الأفق راهناً امام امكانية خروج أو اخراج البلد من الجحيم الذي دُفع إليه قسراً، في ظل انعدام قدرة النظام السياسي على تجاوز أزماته، وانغلاق قواه بشكل كامل على أي اصلاح. خاصة أن وضع البلد لم يعد على جدول أولويات الاهتمامات الخارجية. وأمام هول مضاعفات الانهيار الكارثية على أوضاع البلد وقضاياه ومصيره، تتصاعد مخاوف اللبنانيين من خطر الانفجار الكبير.
أما الوجه الآخر للاخطار، فإنه يتمثل في تعاطي سائر الاطراف مع استحقاق تشكيل الحكومة. بدءاً من رئيس الجمهورية المتحفظ، بشكل شبه معلن على تكليف رئيس حكومة تصريف الاعمال، انطلاقاً من رؤيته لوظيفة ومهام حكومة نهاية عهده، وسعيه لانقاذ ما تبقى من سمعتة. إلى إصرار رئيس التيار الحر على إلزام رئيس الحكومة المكلف الذي لم يُسمِه، بالتعاون معه لإزالة العقبات الخارجية والموانع المحلية، التي تحول دون انتخابه رئيساً للجمهورية. مروراً بأداء رئيس القوات اللبنانية الذي حالت طموحاته الفئوية على رافعة مشروعه الرئاسي “السيادي”، دون فك عزلته وعدم تسمية أي مرشح لرئاسة الحكومة.
ليس أمراً تفصيلياً أن يُكلف رئيس لتأليف حكومة جديدة رشحه 40% من عدد النواب، وهي تقارب نسبة الممتنعين عن تسمية منافس له، وأن ينال المرشح الآخر تأييد أقل من 20% من عدد أعضاء البرلمان. يعني ذلك أن الرئيس المكلف سيكون أسير الكتل النيابية التي رشحته من ناحية، وموضع تشكيك بتكليفه من الآخرين نظراً لهزال عدد النواب الذين رشحوه من ناحية ثانية، وعرضة لمساومات لا قبل له بها من الذين تبنوا مرشحاً أخر من ناحية أخرى. ما يعني أن تشكيل حكومة جديدة، أو ترميم الحالية وانتخاب رئيس للجمهورية يبقى مرتهناً لنتائج الاتصالات الخارجية للحؤول دون الكارثة الكبرى.
إن ما يواجهه البلد أبعد وأعمق بكثير من اسم المكلف تشكيل حكومة، أو من سيُنتخب رئيساً للجمهورية. لأن التشكيك بحصول كلا الاستحقاقين لا ينطلق من فراغ، بقدر ما هو أقرب من الحقيقة شبه المؤكدة. من السهل تحميل المسؤولية لقوى منظومة السلطة. التي يعرف سائر أطرافها أن معاركهم الداخلية هي شرط ضروري لتعزيز أدوارهم، أو ضمان مصالحهم ضمن بنية النظام التي يعاد انتاج توازناتها عبر قواعد المحاصصة الفئوية على رافعة الانقسامات الطائفية. لكنه شرط غير كافٍ أبداً، لأن الضمانات لأي جهة وحصاناتها تُستمد من الخارج، وفق معادلة الاستقواء والارتهان في آن. الأمر الذي يجعل التدخل الخارجي من المسلمات في الاستحقاقات الدستورية، كما في صياغة التسويات. ما يعني أن إدارة شؤون البلد وقضاياه تتم خارج مؤسساته الدستورية، وبعيداً عن إرادة حكامه ومسؤوليه، وخلافاً لمصالحه الوطنية وحقوق مواطنيه.
يشهد على ذلك تاريخ محطات صياغة نظام المحاصصة الطائفي، وصيغ تشكل منظومة الفساد السياسي واعادة انتاج قواها، ويؤكدها واقع الحال القائم والمستمر على الصعد كافة. أما ثبات هذا الوضع فمرده عدم تكوّن ورسوخ معارضة مجتمعية وازنة في مواجهة السياسات المعتمدة، باستطاعتها ارغام اصحابها على إعادة النظر بها وتعديلها. أما الرهان على الضغوط الخارجية فهو أقصر الطرق لإدامة الوضع القائم، لأنها دائماً عرضة للمساومات تبعاً لمصالح اصحابها، وغالباً ما تكون غير قابلة للصرف.
لكن الجديد الذي يفتح أفقاً ويستدعي نقاشاً وحواراً، هو ما انتجته الانتخابات النيابية الأخيرة تحت راية قوى التغيير. أما الادوار المرتبكة للنواب المستقلين عن تيارات واحزاب السلطة، فرادى ومجتمعين، وبصرف النظر عن تواريخ عضوية هؤلاء في البرلمان، سواء في استحقاق انتخاب رئاسة ومكتب المجلس النيابي أو عند تشكيل لجانه، وصولاً إلى الاستشارات النيابية الملزمة، بغض النظر عن تسمية رئيس لتأليف الحكومة من عدمه،هي بمجملها امتداد لاحوال قوى المعارضة التي ينتسبون لها أو يستظلون رايتها.
ما يعني أن ارتباك مواقف هؤلاء النواب وعدم التنسيق وتباين الأداء والمواقف إلى حد الاختلاف، لا يمكن ردها إلى عدم الخبرة والكفاءة، بقدر ما هي انعكاس طبيعي إلى واقع التشظي والتفكك وانعدام الحد الادنى من التواصل بين قوى ومجموعات المعارضة والنواب، وعدم فتح ابواب الحوار على نحو واضح في ما بينهم جميعاً، من أجل التوافق على برنامج الحد الادنى للانقاذ، الذي ينتج عنه خطاب سياسي اقتصادي اجتماعي يحدد الاولويات، انطلاقاً من حاجات الغالبية الساحقة من اللبنانيين، للتعبير عن مصالحهم على نحو مقنع، كي يشكلوا حاضنة وموقعاً حصيناً يستند له هؤلاء النواب، ويستقوون به في مواجهة منظومة السلطة، سواء حملوا صفة التغيير، أو المعارضة أو المستقلين. أما استسهال محاسبتهم والإكثار من انتقادهم ونعي تجربة لم تبدأ، فهو اقصر الطرق لهدر الانجاز الذي تحقق في الانتخابات الاخيرة، وتبديد أمل صنعه اللبنانيون، واضاعة فرصة ثمينة نرى أنها متاحة لبناء حركة معارضة ديمقراطية تعددية تناضل من أجل انقاذ البلد. إن الخروج من دائرة التردد والحسابات الضيقة والانكار المتبادل والإقامة في مواقع الانقسام الموروث، تتطلب العبور إلى رحاب الوطنية الجامعة ما يستدعي جرأة الإقدام وتحمل المسؤولية كي لا يضيع الأمل.
Leave a Comment