زكي طه
لم تأت مبادرة نواب من تكتل التغيير للاعتصام داخل المجلس النيابي من فراغ. بل كانت بمثابة ردة فعل احتجاجية على إدارة رئيسه للجلسات المخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية، وتكرار رفع الجلسات في اعقاب الدورة الانتخابية الاولى، بذريعة فقدان نصاب استمرار انعقادها لاجراء دورة ثانية لا تختلف عن الأولى. من المؤكد أن أداء رئيس المجلس يستهدف التغطية على نهج التعطيل المتمادي المعتمد لغاية الآن من الاطراف التي تسعى لاجبار أكثرية الكتل النيابية على التسليم برئيس الامر الواقع، في ظل احتدام الصراع حول رئيس سيادي أو رئيس يحمي ظهر المقاومة.
من الواضح أن مبادرة الاعتصام لا تقع في اطار السعي لتفعيل المبادرة الرئاسية التي كان تكتل التغيير قد اطلقها مع بداية المهلة الدستورية لاستحقاق انتخاب رئيس للجمهورية. وهي المبادرة التي اختبر أعضاء التكتل بموجبها رفض أكثرية اطراف السلطة انتخاب رئيس يرفع لواء الانقاذ ووقف الانهيار والقيام باصلاحات الحد الادنى. أما تفعيل العلاقة مع قوى ومجموعات المعارضة المستقلة والتحضير لاشراك الفئات المتضررة للضغط على الكتل النيابية لاجبارها على انتخاب رئيس، فقد بقي حبراً على ورق.
كان من الطبيعي بعد الانتخابات أن تتباين آراء اعضاء التكتل، وتتعدد الاجتهادات والمواقف بشأن الاستحقاق الرئاسي، نظراً لتنوع تجاربهم ومستوى الخبرة والكفاءة السياسية في التعامل مع منظومة قوى، تتقن تشارك السلطة وادارة الصراع فيما بينها استناداً لمشاريعها الطائفية والفئوية. إضافة إلى استخدام مقدرات الدولة خدمة لمصالحها وحماية مواقعها. وقد ساهم ارتباك نواب التكتل في تعريضهم لحملات من الضغط المتعدد الاوجه. والغاية إما الحاقهم بخيارات بعض قوى السلطة كما هو حال القوات اللبنانية وحلفائها. أو عبر حملات التجني من التيار الحر وحزب الله وحركة أمل التي تستهدف تصفية الحساب مع قوى المعارضة ومجموعاتها والنيل من أدوار النواب، الذين شكلوا مصدر أمل بامكانية التغيير من خلال فوزهم في الانتخابات النيابية الاخيرة.
أتى الاعتصام في صيغة رد فعل على انسداد الأفق امام امكانية انتخاب رئيس للجمهورية، وسط تجاهل تام من قوى السلطة لمفاعيل الانهيار المتمادي الذي تجاوز جميع التوقعات التي جرى التحذير من مخاطرها. وفي ظل تراجع الاهتمام الخارجي بإيجاد تسوية ما لأزمات البلد، وإضافته إلى جدول البلدان التي تنتظر التسويات الخارجية للحروب الاهلية والاقليمية المتفجرة فيها منذ سنوات عديدة. وحصر الاهتمام بالشأن الانساني، والاكتفاء بتنظيم المساعدات الاجتماعية عبر بعض المؤسسات الاهلية، والاستمرار بإغاثة “النازحين” السوريين.
رغم أن مبادرة الاعتصام تستهدف كسر انغلاق قوى السلطة المحكم، والتي ترفض البحث عن تسويات أو معالجات لأي من أزمات البلد ومشكلات اللبنانيين وقضاياهم المتنوعة. كما تتعامل مع الوضع القائم بإعتباره ذريعة لإعادة الاعتبار للمشاريع الانتحارية، سواء تحت راية السيادة والمناداة بالفدرالية المستحيلة والحياد الوهمي وتجديد الرهان على الخارج أو الارتهان له، أو عبر المطالبة بضمانات رئاسية وفرض الهيمنة بقوة السلاح وسياسة الامر الواقع وتكريس ربط لبنان بمحور الممانعة بقيادة النظام الايراني، وسط تجاهل تام للنتائج التدميرية لتلك الخيارات. وآخرها عهد الرئيس القوي وما أتى في ركابها من انهيار شامل بقوة التعطيل، من فراغ وشلل في مؤسسات الدولة واجهزتها، ومن تسعير للانقسام الاهلي وعزل لبنان عن محيطه العربي والدولي، والدفع به نحو مصير مجهول.
صحيح أن غاية الاعتصام الضغط لانتخاب رئيس للجمهورية، بأمل أن يشكل ذلك مدخلاً لمسيرة إنقاذية معقدة. والصحيح قبل ذلك أن الاعتصام داخل المجلس النيابي يكتسب دلالة مهمة، لأن وجود المعارضة داخل البرلمان، يتيح لها القدرة على رفع الصوت في مواجهة قوى السلطة والاعتراض على سياساتها وادائها والضغط عليها في آن، بديلاً عن الاكتفاء بالمقاطعة والمعارضة من الخارج.
لكن الأصح أن حركة النواب المعتصمين تبقى خطوة ناقصة، يسهل الالتفاف عليها والحؤول دون الجدوى منها، إذا لم تتقاطع وتتكامل مع حركة قوى المعارضة في الشارع من أجل محاصرة قوى السلطة، لاجبارها على اعادة النظر بسياساتها وأدائها، بما فيه التخلي عن تعطيل الاستحقاقات وتسهيل انتخاب رئيس يعمل على وقف الانهيار وتحقيق الاصلاحات الضرورية، والاستجابة لحقوق ومطالب الفئات المتضررة وصاحبة المصلحة الحقيقية في بقاء البلد، في استعادة الدولة وتفعيل مؤسساتها واجهزتها القضائية والادارية والخدماتية والأمنية.
قوى المعارضة وتحديات الدور الانقاذي
لا يمكن حصر المسؤولية عن تحقيق اهداف الاعتصام بالنواب الذين بادروا له، أو ممن تضامن معهم وايدهم من زملائهم. كذلك الامر بالنسبة لعدم تفعيل المبادرة الرئاسية التي أطلقها تكتل التغيير منذ الايام الاولى للاستحقاق الدستوري لانتخاب رئيس للجمهورية. لأن المسؤولية الاساسية تقع أولاً على عاتق قوى المعارضة الديمقراطية المستقلة. وهي القوى التي لم تبادر إلى مراجعة تجربتها وأدائها أثناء الانتفاضة وخلال المعركة الانتخابية النيابية، من أجل استخلاص دروسها والاستفادة منها راهناً، وعدم انتظار الاستحقاقات القادمة سواء البلدية أو النيابية.
ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تحاول بعض المجموعات ممارسة اشكال من الوصاية على بعض النواب، أو الطعن بمصداقية انتسابهم للمعارضة والتشكيك بهم، واستسهال تعريضهم لضغط قوى السلطة في سبيل الحاقهم بسياساتها الفئوية، واستعمالهم في صراعاتها على السلطة. لكن المستغرب كان ولا يزال، لا يقتصر على تجاهل مبادرة نواب التغيير الرئاسية، باعتبارها خارطة طريق لإنقاذ الاستحقاق من التعطيل وحسب، بل الإمعان في ادارة الظهر، وعدم الاستجابة لجميع الدعوات التي تستهدف تأطير قوى المعارضة حول برنامج الحد الادنى، الذي يمكنها من تجديد دورها واستعادة ثقة الفئات المتضررة بها، والسعي لتحرير الأطر النقابية التي تنطق باسمها من تحكم قوى السلطة، التي حولتها أدوات للتعمية على الاستهانة والاستهتار بحقوق ومطالب من تمثل.
من المهم أن ينتفض بعض نواب المعارضة بوجه قوى التعطيل والتسلط، وأن يبادروا للاعتصام باعتباره أحد اشكال النضال الديمقراطي السياسي والنقابي والشعبي في الشارع، كما في البرلمان باعتباره مؤسسة ديمقراطية يجري التلاعب بها. ولا يضير أن تسرع بعض المجموعات لتبني الاعتصام واطلاق الدعوات الفورية للمشاركة، رغم معرفتها أن ثقة الناس واستجابتهم لن تتحقق بقوة الإكثار من الدعوات الاعلامية التي ثبت عدم جدواها. لكن الأهم في مواجهة توحش قوى السلطة واستخفافها بالدستور والاستحقاقات واستقوائها على اللبنانيين بما فيهم النواب المعتصمين، يبقى مرتهناً، لمدى استعداد قوى المعارضة ومجموعاتها الاستجابة لتحديات الدور الإنقاذي عبر السعي لاكساب الاعتصام مضموناً ديمقراطياً اجتماعياً وطنياً. فهل بالإمكان الاستجابة والمبادرة وعدم تضييع الفرصة مرة أخرى كما حدث قبلاً مرات كثيرة!
Leave a Comment