كتب الدكتور بول طبر
شهدت سنة ٢٠٢٠ حدثين، ألأول هو إستمرار إنتفاضة ١٧ تشرين التي انطلقت قبل شهرين ونصف من بداية ذلك العام. والثاني انتشار وتفاقم وباء كورونا في لبنان والعالم. الحدثان جذريان رغم ان الأول قد تراجع مفعوله، ولكن دون أن يتوقف لغاية الآن. أما الثاني فلا يزال يتفاعل دون أن ندري متى ينتهي.
أنجز الحدث الأول نقلة نوعية في وعي عدد كبير من اللبنانيين باتجاه سحب الثقة من القوى الحاكمة في لبنان، ونزع الشرعية عنها وعن النظام الذي تحكم باسمه.
إذ لم يعد باستطاعة من هم في السلطة أن يستندوا بطمأنينة إلى تسليم أغلبية الناس بقيادتهم السياسية للبلد، كما جرت العادة منذ خروج الجيش السوري من لبنان عام ٢٠٠٥. ما حدث منذ انتفاضة ١٧ تشرين هو اتخاذ موقف ناقد وناقض لذلك التسليم، واعتبار أن القوى السياسية القابضة على مقاليد الحكم هي قوى فاسدة ومفسدة، وناهبة لمدخرات المودعين وللمال العام. وبالتالي هي غير مؤهلة لإدارة الحكم والحكومة. وكذلك أصبحت أغلبية اللبنانيين على قناعة تامة بأن القوى السياسية الرئيسية مسؤولة عن فقدان لبنان لسيادته الوطنية، وعن ارتهانه المتزايد لخدمة مصالح جيوسياسية اقليمية ودولية. خلال ٢٠٢٠. وبناءً عليه ، يمكن القول إنه في هذا العام تشكل رأي عام لبناني يطلب بصراحة ووضوح إصلاح النظام وتغيير القيادة السياسية للبلد، وإن لم ينتج هذا الرأي العام بعد برنامجه السياسي وينظم تحركاته ويفرز قياداته.
وباء الكورونا هو الحدث الثاني الأبرز الذي وقع خلال 2020 ولا يزال متفشياً لغاية الآن، وما من أحد يمكنه أن يتوقع متى سيتم التغلب عليه ومحاصرته بدل حصاره لنا في لبنان وجميع أصقاع الأرض. وفي جانب من جوانبه، أتى هذا الوباء ليصب في مصلحة السلطة الحاكمة في لبنان لجهة لجم استمرار المشاركة الشعبية في الإنتفاضة وتصعيدها في وجه رموز وأداء السلطة المذكورة. ولحدث تفشي وباء الكورونا تداعيات كثيرة، وسوف أحصر الحديث في جانب إجتماعي- سياسي محدد لتفشي هذا الوباء.
Individualization الفردية أي
في المجتمعات الغربية المتطورة، وهي إحدى إفرازات الحداثة بنسختها الرأسمالية النيوليبرالية. والتي هي اساساً تدفع الفرد ليس فقط ليفكّ ارتباطه بالجماعات الأهلية (العائلة، المحلة، الطائفة)، بل أيضاً بالجماعات المدنية التي تقوم على أساس المصالح والقضايا العابرة للولاءات الأهلية. على الرغم من أن أصحاب هذا المفهوم يشيرون إلى نوازع مسلكية لدى الفرد كدليل على صوابية هذا المفهوم، إلا أنهم يبالغون في تقدير مدى تأثيره (أي تأثير الفرْدنة) على الأفراد والجماعات التي تتشكل مصلحياً، كما يبيِّن العديد من الباحثين في مجال الطبقات الإجتماعية والتراصف الإجتماعي عموماً.
هذا فيما يتعلق بالمجتمعات الغربية المتطورة بالمعنى الرأسمالي والسياسي للكلمة. ولكن ما علاقة هذا المفهوم بالمجتمعات “الأهلية” بنسختها الرأسمالية “الطرفية” أو بالعكس، بالمجتمعات الرأسمالية “الطرفية” بنسختها الأهلية، كما هي الحال في المجتمع اللبناني؟ مهما برزت نوازع الفرْدنة والفرْدانية في لبنان، فإنها تبقى أسيرة العلاقات والعصبيات الأهلية وعلى رأسها الطائفية. وفي الحالة اللبنانية (والعديد من الدول الرأسمالية الطرفية أو الرأسماليات التابعة) يصعب التمييز بين أن تكون الفردانية والفردنة تستخدم العصبيات الأهلية لتعزيز ذاتها، أم أن تكون العصبيات الأهلية هي التي تستخدمها لإعادة إنتاج هيمنتها كأطر وهويات جماعية. وفي كلا الحالتين، لا فكاك أو تفلت من العلاقات الأهلية، الأمر الذي يؤدي إلى لجم مسارات التطور الأكثر تحرراً المرافقة لعملية الدخول في رحاب العلاقات المدنية وثقافة المواطنة.
تفشي وباء الكورونا جاء ليفرْمل العلاقات بين الأفراد، أكان بصفتهم العضوية الأهلية أم بصفتهم المجردة كمواطنين أحرار، ذوي حقوق وواجبات متساوية أمام القانون. ومع زيادة احتمال دخول المجتمعات البشرية في مرحلة تكاثر الأوبئة المتجددة والمتنوعة وتناسلها لأسباب عديدة، أهمها نمط الحياة الرأسمالية المعاصرة التي ترتكب أشنع الأفعال بحق البيئة والمناخ والكرة الأرضية برمتها. أجد أنه من المتوقع أن تتحول ظاهرة الفردانية بنسختيْها النيوليبرالية “المدنية” والأهلية العضوية “الهجينة”، إلى ظاهرة افتراضية تؤدي إلى المزيد من تدمير التفاعل الحي بين الأفراد والجماعات “المدنية” و”الأهلية-المدنية الهجينة”. تقوم الرأسمالية على تتْجير (من تجارة) وتسْليع (من سلعة) كل ما ينتج عن وجودها، غير آبهة بالأضرار التي تسببها للإنسان والبيئة، وذلك حفاظاً على استمراريتها، وتجدد القانون المُحدِّد لها: أعني قانون الربحية، أي الإستثمار من أجل الربح.
صحيح أن الإنتقال من المجتمعات والنظم الأهلية الهجينة إلى المجتمعات المدنية والنظم التي تكرس المواطنة هو خطوة إلى الأمام، إلا أن الرأسمالية المعاصرة ليست فقط عاجزة عن تعميم هذا الإنتقال (وهو ليس من مصلحتها بالأساس) على مختلف المجتمعات البشرية، بل الأسوأ من ذلك أنها تشوِّه النزعة الإنسانية المتضمنة في نظم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات عن طريق تسخيرها لصالح تعميم قانون الربحية على جميع مظاهر الوجود البشري، أكان ذلك في المجتمعات الرأسمالية “المتطورة” أو “المتخلفة” .
فلنتحضر أولاً لمواجهة المرحلة الإفتراضية من تسخير الرأسمالية المعاصرة للثقافة المدنية “المفرْدنة” في المجتمعات “المتطورة” لمصلحتها ومصلحة تجدد الأنفاذ الدائم لقانون الربحية. ولنتحضر ثانياً لمواجهة الرأسمالية الطرفية بنسختها اللبنانية والإفتراضية أيضاً، التي تسعى لتكرس الثقافة المدنية-الأهلية “الهجينة”، وتمنع عنا مجرد الإنتقال إلى مجتمع المواطنة المسؤولة وحكم القانون القائم على المساواة في الحقوق والواجبات والتفاعل الحي بين المواطنين، أفراداً وجماعات.
Leave a Comment