حنا صالح*
عندما قال هنري كيسنجر إنَّ “السلطة هي ينبوع الإثارة الأمثل للإنسان حتى الموت”، لا أعتقد أنَّه ورد على ذهنه النموذج اللبناني، أو أنَّه كان يهتمُّ بنموذج الرداءة اللبناني الذي بات مضرب مثلٍ في التمسُّك بكرسيِّ الحكم مهما كان الثمن!
بين حزيران الفائت – تاريخ رحيلك يا أبا خالد – وبين هذا الحزيران، مرت على البلد الأهوال العظيمة التي لم يعرفها في تاريخه. ولأنكَ كنتَ أجرأ من وضع الإصبع على الجرح في كلمتك التي ودَّعت بها جورج حاوي – وقد شكَّلَتْ مَعْلَمًا سياسيًّا- فها أنذا أتوجَّه إليك – على نحو ما كنت أفعل في سنوات الحرب قبل أن يخرج عدد “النداء” إلى القراء كلَّ صباح: “كتب المحرِّر السياسي”!- لأروي بعض ما يواجهه لبنان وفلسطين، متأمِّلًا في ما كان يمكن أن تجيب به!
في الرابع من آب الماضي استُهدِفَ المرفأ وبيروت العاصمة بأكبر تفجير غير نووي في التاريخ، نجمت عنه إبادة جماعية راح ضحيتها مئات المواطنين وجرح منهم نحو سبعة آلاف. وتهدم ثلث المدينة، وتهجر نحو ثلاثمئة ألف من أهلها بفقدهم السقف الذي يُؤويهم. ليس في الأمر أيُّ مصادفة، ذلك أنَّه كان مُبرمَجاً، وربما كان توقيت ما حصل معلوماً لدى بعضهم، وإن كان يصعبُ التأكد منه. فلقد قُدِّمًتْ “الحصانات” على الأرواح، ورُفِعَ سيفُ “الارتياب المشروع” بوجه القضاء بغية تكبيل العدالة!
كلُّهم في كلِّ مواقع الحكم عرفوا بتخزين شحنة موت منذ سنواتٍ سبع.. أطنان من “نيترات الأمونيوم” استُجلِبَتْ لمصلحة النظام السوري، على ما تشير إليه كلُّ الروايات، فضلاً عن الاستنابات القضائية والمعطيات عن سحب كميات منها بصورة دورية، لزوم البراميل التي دمَّرت المدن السورية، واقتلعت أهلها وأرسلتهم إلى المنافي! والأمر الأكيد أنَّ “أصدقاء” نظام الأسد قاموا بمهمَّة التخزين والحماية والاستباحة.. لكنَّ الأخطر أنَّ أحدًا مِمَّن كانوا يعلمون بوجود هذه القنبلة الهائلة الموقوتة، عرفوا أنَّ خطراً داهماً يتهدَّد العاصمة، فلم يتحرَّك منهم أحدٌ لحماية الأرواح، ولقد كان الوقت متاحاً لذلك. لكنَّ هذا البعض يمارس بعد الجريمة المرتكبة ضد الإنسانية كلَّ الضغوط لإبقاء العدالة مكبَّلة، وتسجيل التفجير “الهيولي” وما نجم عنه ضدَّ مجهول!
هالَتِ العالمَ الجريمةُ المروِّعةُ، بيد أنَّ أحداً في السلطة لم يتأثَّر، فظلوا جميعاً على كراسيهم، فيما الحمايات تُظلِّلُ كبار الموظفين؛ بل إنَّ كلَّ سلوكهم يشي وكأنَّ شيئاً لم يحصل في بيروت ولم يطل التدمير قلبها. أكثر من ذلك، لم يقم أحدٌ مِمَّن هم في مواقع المسؤولية بتفقُّد المنطقة المُدمَّرة، أو قام بتقديم العزاء لأهالي الضحايا، ولمن باتوا بلا بيوت ولا سقوف، فضلًا عن ترك نحو ألف معوَّق لمصيرهم دون منحهم أيِّ إمكانية لاستكمال علاجهم، وتقديم المساعدات الضرورية لهم من أي نوعٍ كان!
ساد الفراغ في السلطة بعد سقوط الحكومة –الواجهة التي لم تُشكِّل أصلًا إلَّا لمعاقبة اللبنانيين- بحيث يكتمل الشغور لأنَّ التسوية الرئاسية من يومها لم تُنْهِ الشغور الرئاسي في الدور وفي تحمُّل المسؤولية الوطنية. وللمرة الأولى في تاريخ لبنان، تبدو منظومة الحكم -وقد انتهت صلاحيتها وأهليتها الوطنية، وهي تغطي اختطاف الدولة وتحويل البلد ورقةً في أجندة خارجية أُنِيطَ تنفيذُها بحزب الله- (تبدو) عاجزة عن تقديم مجرد فكرة أو اقتراح خطوة، تخاطب من خلالها هموم البلد والانهيارات المحيطة به، فكلهم في همِّ المحاصصة الطائفية واحدٌ، وكلُّهم يبحث عن الحجم والدور في المستقبل.. وأيُّ مستقبل هو والبلد يتلاشى، والمؤسسات تندثر، والأخطار الكبيرة تحدق بركنين أساسيين هما: القضاء والجيش!
أما فلسطين التي لم تفارق وجدانك يوماً، يا أبا خالد، وأنت الأعرف بمروياتها ومآثر الرجال الرجال والطعنات ومصادرها.. فهذه الفلسطين تعود وتفاجئ العالم أيّما مفاجأة.. فها هي تنبعث من رُقادها مبشرةً بولادة متجدِّدة بعد انسدادٍ مديدٍ، وها هي ترفع قضية الحق والعدالة والقانون لتُفشِلَ الأسْرَلَة، مُسقِطةً كلَّ محاولات طمس الهوية الوطنية.
وبشكل غير متوقَّعٍ، هدرت الأرض لتقدِّم الجديد: جيلٌ فتيٌّ التفَّ حول القدس وما تعنيه، فما عادت عاصمةً موحَّدة لدولة العدو! جيلٌ جَمَعَ أبناء فلسطين، من البحر إلى النهر، ليعلن عن بلورة نهجٍ مُغايِرٍ لمُمارَساتٍ مقيتةٍ من المساومات والعقم، لِمَا بعد أوسلو وإسقاط العدو حلَّ الدولتين، فقفز بطرحه فوق المطالب المعيشية والإنسانية، ليطرح الحقوق القانونية متجاوزاً السلطة، التي قبلت بما هو أقلُّ من حكم ذاتي تحت الاحتلال، ومتجاوزاً منظمة التحرير وأدواتها، ومتجاوزاً بالتأكيد وضع قطاع غزة الخاص، فاستجاب العالم مُجاهِراً برفض حكم الأبارتهيد في فلسطين التاريخية، ولأول مرة بعد انتفاضة الحجارة في عام 1987، حيث بدا الحصار يشتدُّ على أحلام الصهاينة ليحوِّلها إلى أوهام.
سيقال الكثير عن التحرك الحمساوي ونجاح القوة المهيمنة على القطاع في بناء قوةٍ فاجأت إسرائيل وتبجُّحها بالأمان والاستقرار، وإلى أيِّ مدى خدم هذا التوظيف قضية الشعب الفلسطيني، أو خدم حكَّام طهران الذين رفع لهم قادة حماس من الدوحة وغزة آيات الشكر!
ولأنَّكَ في ذكرى أربعين جورج حاوي قلت عن حق “إنَّ الحركة الوطنية اللبنانية حمَّلت لبنان فوق طاقته، أكان في استسهال الحرب الأهلية كَمِعبرٍ لتغيير بنية النظام الطائفي، أم في إباحة لبنان للمقاومة المسلحة”، يهمُّني التأكيد في هذه العجالة على أنَّ أكثرية مواطنينا يتمسَّكون بكل حبة تراب، وليسوا في وارد التخلِّي عن الوضوح الذي حملته ثورة “17 تشرين” السلمية اللاعنفية. إنَّ الأولوية اليوم تكمن في ابتداع أدوات كفاحية بيد مواطنينا وأدوات التنظيم السياسي التي تقدم التشاور على الهرمية، فيُعوَّل عليها لبلورة ميزان قوىً شعبيِّ يضع في التطبيق مهمة استعادة الدولة المخطوفة بالفساد والطائفية والسلاح، وما يليها من مهمة إعادة تكوين السلطة! وكما في لبنان، فإنَّ الانتفاضة التي عمَّت “الشيخ جراح” و”باب العَمُود” و”حيَّ سلوان” وجمعت حيفا والناصرة وأمَّ الفحم مع نابلس وجنين ورام الله وغيرها، وسمع صداها في غزة، ستعيد تجديد الأدوات التي من شأنها رفع مستوى كفاح الفلسطينيين لتبلور حركة تحرير من أجل الاستقلال وتحقيق السيادة والعدالة.
ليست الصورة وردية، كما أنَّ الصعوبات فادحة، لكنْ ربما تكون الطريق أصبحت قيد التبلور، إنْ لجهة برنامج التغيير أم لجهة أدواته، الأمر الذي سيؤدي إلى انتشار بقعة الضوء وإنْ طال الزمن!
*كاتب وصحفي لبناني
Leave a Comment