زهير هواري
أصدر البنك الدولي تقريراً تحت عنوان ” تقرير مراجعة المالية العامة في لبنان – مخطط تمويل بونزي”، يمكن أن يعتبر الأشد قساوة وتحميلاً للمسؤولية عن الانهيار الذي يشهده لبنان من التقارير التي سبق وأصدرها هو بنفسه، أو تلك التي صدرت عن صندوق النقد الدولي ووكالات التصنيف الإئتماني. ويصف التقرير الافلاس الذي يعانيه لبنان بأنه مخطط بونزي، بمعنى أنه مقصود بذاته لتحقيق مصالح الطبقة السياسية – المالية المسيطرة عندما يتحدث عن “إفلاس النظام المتعمَّد”. وقد سبق وأن اتهم البنك ما آل إليه وضع الاقتصاد اللبناني بأنه واحد من أكبر عمليات الاحتيال المتعمدة التي شهدها العالم في دولة من دوله. وقد تم ذلك من جانب النظام السياسي – المالي وعلى حساب المودعين وعموم فئات المجتمع والاقتصاد اللبناني.
بالطبع لا يمكن لأحد من جهابذة النظام إلى أي قوة سياسية – طائفية – مالية انتمى ضمن شبكات النظام وقواه النافذة، اتهام البنك الدولي بأنه يساري الهوى والهوية، وأنه يريد تشويه سمعة هذه الطبقة المهيمنة على البلاد منذ عقود، واعتباره أدارتها للبلاد على الطريقة الموصوفة أعلاه هي التي قادت إلى ما وصلت إليه الأوضاع الراهنة من “جهنم الحمراء”. والملفت أن التقرير صدر قبل يوم واحد من الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت في 3 آب 2022، الذي يصفه بأحد أبرز الأحداث خلال هذا القرن، لناحية حجم التفجير والدمار الذي خلّفه. ويعتبر البنك أن هذا التفجير ليس إلاّ نتيجة طبيعية لآلية إدارة السلطة للبلاد خلال الحرب الأهلية وبعدها، والتي تستحيل أن تُكمل سيرها من دون الوصول إلى انفجار ما. لكن ما لم يكن متوقّعاً، هو حجم التفجير وتداعياته التي زادت الضغط الاقتصادي والاجتماعي على اللبنانيين، بفعل إقفال مرفق حيوي وأساسي في عملية الاستيراد، فضلاً عن تضرّر الكميات الهائلة من القمح والحبوب المخزنة التي كانت في الإهراءات، وخلَّفَ تضرّرها فجوة في إمداد السوق بالقمح والحبوب.
يعيد التقرير إلى الأذهان جملة التحذيرات التي كانت تطلقها جهات دولية وأممية سياسية ومالية متابعة للوضع الاقتصادي اللبناني، الذي تباهى ذات مرة جبران باسيل عندما كان وزيراً للخارجية ومن نيويورك عاصمة المال والإحصاءات والبورصة والتوقعات المستندة إلى دراسات دقيقة للاسواق في العالم بأن “على فرنسا واميركا أن تتعلم من لبنان كيف تدار بلاد دون موازنة عامة طوال 12 عاماً متتالية”. أما وزراء المالية وحاكم المصرف المركزي فكانوا يكرزون عشية وضحاها على متانة الليرة وجملة الوضع المالي والنقدي في البلاد. وللمناسبة لم يقر مجلس النواب بعد مشروع قانون الموازنة رغم بدء الشهر التاسع تقريباً من سنة 2022. إذ أن لجنة المال والموازنة طلبت مرات عدة توضيحات من وزير المالية والحكومة حول العديد من المسائل التي تتطلب تحديدات واحصاءات وتقديرات موثوقة لم تتقدم بها.
اذن كانت التحذيرات تتلاحق من كل الجهات، إلاّ أن المنظومة الحاكمة بفرعيها السياسي والمصرفي، أصمت آذانها عنها، وتابعت سياساتها وكأن شيئاً لم يكن ولا يكون، معوِّلة على استمرار الحاجة إلى بقاء لبنان كدولة من دول المنطقة، وبالتالي إغداق القروض والمساعدات له للنهوض من كبوته ثانية كما حدث مرات، مراهنة أن تتمكن هذه الطبقة من الحصول عليها. ولكن ما حدث أن ذهبت المساعدات الإغاثية العاجلة بعد التفجير للمجتمع المدني والجيش، لـ “فرط الثقة” بالدولة ومؤسساتها. ولمعرفة هذه الدول والجهات بحسابات هذه الطبقة التي تتعلق بالمحاصصات الطائفية ورفض دفع أكلاف الانهيار الذي تحول إلى مليارات في المصارف الخارجية. ويزيد الطين بلة أن هذه الطبقة لم تقدم خلال عقود متلاحقة على أي نوع من أنواع الاصلاحات المطلوبة لعقلنة نظام أشبه ما تكون إدارته بـ “عصابة نهب مافياوية” مؤلفة من رجال سياسة ومال وقًضاة واداريين وضباط وغيرهم. ولعل الأوقح من ذلك كله رفض الاعتراف بمسؤولية أركانها عن تفجير المرفأ، والعمل عبر النيران المحترقة في الصوامع على طمس معالم جريمتها، مع تهاوي مجموعة إثر أخرى وشل يد قاضي التحقيق في الجريمة – المجزرة، كما تحاول التنصل من مسؤوليتها عن الانهيار الحاصل على كل صعيد في البلاد.
ماذا يقول التقرير ؟
يجزم التقرير بداية أن حجم ونطاق الافلاس المالي سيؤدي إلى تقويض الاقتصاد السياسي للبنان، لاسيما وأن التدفقات المالية في سنوات ما بعد الحرب الاهلية موَّلت امتيازات عامة وخاصة لقلة، بما فيه القطاع المصرفي ومحسوبية الهيمنة على الإدارة العامة. ويؤكد أن عبء ذلك وقع على كاهل الفقراء والطبقة الوسطى. يربط التقرير ثلاثة عناصر حيوية في ثلاثة أقسام هي :
1 – سياسة المالية العامة
2 – إعادة هيكلة المالية العامة .
3 – عدم تقديم الخدمات العامة.
يتوقف عند عنصر رابع هوالوضع الجيوسياسي للبنان. وهنا يلمح إلى ما صار عليه الوضع من هيمنة على قرارات الدولة الاستراتيجية حرباً وسلماً وإلحاقه بمحور الممانعة، وبالتالي عزله عن المجتمعين العربي والدولي. ويرى أن العوامل المذكورة تشكل عوامل بالغة الأهمية لإعادة تشكيل الاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المستقبل.
فبالنسبة للسياسة المالية يتهم الحكومات المتعاقبة بالابتعاد عن السياسات المالية العامة المنتظمة والمنضبطة، بما يتلاءم مع خدمة مصالح اقتصاد سياسي مترسخ يستعمل مؤسسات الدولة لأغراضه الخاصة. ويحدد أبرز سمتين وأكثرهما منهجية بما هما: أولاً تراكم الديون للحفاظ على تدفقات مالية وافدة وسعر صرف ثابت ما سمح بالافراط بالاستهلاك وخلق ثروة وهمية. أما ثانيهما فتحقيق منافع سياسية ومالية من التكاليف الزائدة المفروضة على المواطنين والامتيازات الممنوحة للقلة. ويحدد التقرير خمسة حسابات مالية للدولة اللبنانية هي الحسابات الداخلية والخارجية الرسمية العامة ، والخسائر المتراكمة وغير المعلنة في حسابات مصرف لبنان، ورفض الحكومة دفع المستحقات، وفرض الخسائر على السمتفيدين، وافراط مصرف لبنان في طبع النقود، وغياب الخدمات العامة الاساسية التي يمولها دافعو الضرائب الذين يتحملون خدمات بديلة ( كهرباء ، مياه ، هاتف وغيرها).
أما إعادة هيكلة المالية العامة فيصل حولها إلى استنتاجات من خلال تحليل السيناريوهات ونماذج المحاكاة المدمجة، أبرزها اتسام النظام بروابط قوية بين القطاعات المالية والنقدية والمالية العامة، ما يجعلها تعتمد على بعضها بعضاً. كما أن إعادة هيكلة الديون الداخلية والخارجية لن تؤدي إلى خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي عن 100%. وعليه، يتوقع أن يتكبد مصرف لبنان والبنوك التجارية خسائر ضخمة، خصوصاً وأن توحيد سعر الصرف سيرتب عليها انخفاضاً كبيراً في ميزانياتها. لكن الفائدة الممكنة تتمثل في تحسين صافي الاحتياطي الدولي لدى مصرف لبنان والمقدر على نحو سلبي راهناً.
وفي مجال الخدمات العامة يظهر التقرير فجوات خطيرة في تمويلها قبل الأزمة وقد تفاقمت بسببها، ما أثر سلباً على توفير الكهرباء والماء و… كما أن نقص الاستثمارات في قطاع الكهرباء أدى إلى تراجع قدرة توليد الكهرباء وصيانة الشبكات وإعاقة الطلب عليها، ما عزّز اللجوء إلى بدائل باهظة التكاليف وعالية التلوث يقدمها القطاع الخاص ومربحة له.
من خلال هذا العرض يتوصل البنك الدولي إلى أن “إفلاس النظام متعمَّد”. ويستند في قراءته إلى “الخروج المنهجي والحاد عن سياسة المالية العامة المنظمة والمنضبطة. والفرص الضائعة لحماية الأغلبية الواسعة من المودعين بالدولار الأميركي، وانهيار منظومة الخدمات العامة الأساسية التي كانت ضعيفة أصلاً، مما يضع العقد الاجتماعي في دائرة الخطر”.
يحلل تقرير البنك الدولي آثار السياسات الكلية والهيكلية العشوائية التي انتهجها لبنان، ويحكم عليها بـ “الفشل” في توفير الخدمات العامة الأساسية. كما أن الأزمة الراهنة أدت إلى تفاقم أوجه النقص الخطيرة والسائدة منذ وقت طويل في تمويل وصيانة هذه الخدمات الأساسية: المياه، والكهرباء، والنقل، والرعاية الصحية، والتعليم، والحماية الاجتماعية. ويجزم أن الأزمات كشفت عن هشاشة نظام تقديم الخدمات في لبنان، وهو نفسه نتاج سيطرة النخبة على موارد الدولة لتحقيق مكاسب خاصة. وكانت عملية إضعاف تقديم الخدمات العامة في سياق جهد مُتعمد لإفادة فئة محدودة على حساب الشعب اللبناني. وصار المواطنون في نهاية المطاف يدفعون تكاليف مضاعفة، ويحصلون على منتجات أو خدمات ذات جودة متدنية، وكانت الآثار أيضاً تنازلية بدرجة كبيرة، حيث تؤثِّر على الشرائح السكانية ذات الدخل المتوسط والدخل المنخفض بدرجة أكبر كثيراً من غيرهم.
ويرى أن معالجة هذه الأوضاع الهشة تتطلب برنامجاً على الأمد المتوسط إلى الطويل، وخلالها فالشعب اللبناني يحتاج إلى مساعدات فورية، والأهم من ذلك إلى تبني سياسات مسؤولة من قبل السلطات. ويقترح التقرير سلسلة من التدابير والسياسات الكلية والقطاعية لتلبية الاحتياجات الفورية للسكان، وفي الوقت ذاته تنفيذ إصلاحات في المديين المتوسط والطويل لتحسين القدرة على توفير الخدمات واستدامتها وقابليتها على الصمود في وجه الصدمات. وتُركِّز التدابير المقترحة على ثلاثة أهداف رئيسية:
1- ضمان استدامة الخدمات الأساسية ويُسر تكلفتها؛
2 – تعزيز الإنصاف في الإنفاق العام؛
3 – رفع كفاءة الإنفاق العام في مختلف القطاعات.
وفي الختام يركز البنك الدولي “أن على لبنان أن يعتمد على نحو عاجل وبفعالية برنامجاً شاملاً لإصلاحات المالية العامة الكلية، والإصلاحات المالية والقطاعية التي تخصص أولوية للحوكمة والمساءلة والشمول. وكلما تمَّ الإسراع في تنفيذ هذه الإصلاحات، خفت الآثار المؤلمة لعملية التعافي على الشعب اللبناني”.
بعد تفُجِّرَ مرفأ بيروت، دخل لبنان “العهد القوي” في عهد الموت السريري مع جسامة الخسائر وإغلاق منفذه البحري الأساسي، بشكل شبه كامل. وعوضاَ عن فتح صفحة جديدة، تحاول السلطة حتى اللحظة التمسّك بنهجها السابق، خلافاً لكل التوصيات الدولية التي هلَّلَت لها بهدف التمويه للحصول على القروض والهبات. أما النتيجة، فلا مرفأ، ولا خبز، ولا كهرباء، ولا محروقات، ولا دولارات، ولا مساعدات ولا قروض لسلطة تتبرأ من مسؤولياتها عن الكارثة بشقيها السياسي والاقتصادي. وفي الوقت نفسه ترفض القيام بالحد الأدنى من الاصلاحات لوقف مسار الانهيار عند حدوده، قبل الشروع في المعالجة.
لم تتّعظ السلطة مما ورد من تحذيرات في التصريحات والتقارير الدولية التي تلاحقت منذ العام 1999، وجل ما أقدمت عليه لا يتعدى وعود القيام باصلاحات لتحفيز القطاع العام ومكافحة الفساد والهدر والفقر. وهي وعود ليس لم يتحقق منها شيء فقط ، بل تفاقمت إلى حدود خارج التصور. وتبعاً لذلك تجاهلت السلطة بشقيها السياسي والمالي توصيات البنك الدولي بتنفيذ إصلاحات ترتكز على ثلاثة أعمدة، هي “الحد من عجز الكهرباء، تعديل نظام التقاعد وإصلاح القطاع العام وضبط الرواتب والأجور”. وهي الآن تراهن ومعها المصارف على بيع موجودات الدولة من عقارات وشركات واحتياط الذهب تحت عنوان جديد هو اقامة “صندوق سيادي” لتمويل الدولة والمصارف وتسديد الديون، في عملية تمهد لحلقة جديدة من السياسات البونزية التي تعالج النهب، بالمزيد من النهب، مطمئنة إلى فراغ وهشاشة المعارضة التي تنتصب في وجهيهما وتُلزمهما بكبح جماح جشعهما على حساب المودعين والمواطنين ومستقبل الاجيال الشابة، التي يريدون لها أن ترث بلداً عبارة عن خراب شامل لا حدود لاستباحة مقدراته البشرية والمادية والطبيعية حتى.
Leave a Comment