على أهمية ما حملته القمة الفرنسية- الأميركية من توجهات في التعامل مع ملفات المنطقة، وتأكيدها سياسة الاحتواء، فإنها تبنت إلى حد بعيد ما ورد في بيان حكومات الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، الذي أكد ضرورة وقف التصعيد على جبهة الجنوب وتطبيق القرار 1701، وهو ما يعني استمرار الضغوط لمنع إسرائيل من شن حرب على لبنان قد تؤدي إلى انفجار واسع في المنطقة.
تعكس مواقف القمة تقاطعات دولية حول وجهة جديدة وفق مصدر ديبلوماسي متابع، باتت تركز على الجمع بين ملفي الجنوب والرئاسة، وهي ستترجم عبر الموفدين الأميركي والفرنسي إلى لبنان، على الرغم من أن أولويات كل منهما مختلفة، فوساطة آموس هوكشتاين تركز على التفاوض وترسيم الحدود، فيما مبادرة جان إيف لودريان تقدم الاستحقاق الرئاسي أولاً. وقد بات واضحاً أن التصعيد الذي تشهده جبهة الجنوب بما يتخطى قواعد الاشتباك السابقة والذي تمثل باستخدام “#حزب الله” أسلحة جديدة، وارتفاع التهديدات الإسرائيلية بشن حرب، بدأ يرفع من منسوب التدخل الخارجي إن كان عبر الضغوط أو الاتصالات لخفض التصعيد والانتقال إلى ترتيبات مرحلية كمقدمة للبحث في التسوية.
بات محسوماً أن أي تسوية للوضع اللبناني بشقيه الجنوبي والرئاسي مرتبطة بالخارج، طالما أن التعقيدات الداخلية الناتجة عن الانقسامات والخلافات بين القوى السياسية والطائفية تزيد من حجم المأزق. لكن أي حل خارجي، بات أيضاً مرتبطاً بحرب غزة وتطوراتها واحتمالاتها، إذ إن الوساطات والمبادرات الخارجية لم تنجح حتى الآن في فصل جبهة جنوب لبنان عن غزة، حيث يصر “حزب الله” في موقفه على الربط والاستمرار في حرب المساندة التي بدأت تلامس الانفجار مع التهديدات الإسرائيلية، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي في حديثه عن خفض التصعيد بين “حزب الله” وإسرائيل إلى التأكيد على ضرورة الضغط على إيران لوقف أنشطتها في المنطقة.
وتبرز في هذا الصدد مشكلة في جهود التوصل إلى حل، إذ إن إيران التي تدعم عسكرياً وسياسياً “حزب الله” ومحور المقاومة تريد أن يكون لها كلمة في أي تفاوض للتوصل إلى تسوية، وهي لذلك تتشدد من خلال تصعيد حلفائها خصوصاً في الجنوب، إذ تعتبرها الجبهة الأقوى في مواجهة إسرائيل وفي الضغط على الاميركيين، ولذلك يرفض “حزب الله” الفصل بين غزة ولبنان، ويجر البلد معه متسلحاً بدعم مرجعيته في الدفاع عن مصالحها الإقليمية.
ويتضح من خلال التطورات الدولية والإقليمية، أن هناك سباقاً بين التهدئة و#الحرب، فالتحرك الدولي في صيغته الجديدة، والذي يسعى ايضاً إلى الفصل بين الموقف الرسمي اللبناني وسياسة “حزب الله” أقله في ما يتعلق بتطبيق القرار 1701، يأتي بعد فشل اللجنة الخماسية في تحقيق أي تقدم واخفاق المبعوث الفرنسي في مبادرته، ومراوحة وساطة هوكشتاين التي تريد واشنطن إعادة إحيائها بالتوازي مع الجولة المرتقبة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة، وهو ما ترجم بالاتصال بين هوكشتاين ورئيس مجلس النواب نبيه بري لخفض التصعيد ومنع انزلاق الجبهة إلى الحرب.
وعلى الرغم من التوجه الدولي الضاغط، بات إمكان التوصل إلى تهدئة على جبهة الجنوب يزداد صعوبة، خصوصاً وأن دولاً عدة باتت مقتنعة بأن وقف النار في غزة هو المدخل للبحث في ملف الجنوب من دون أن يعني ذلك أن تطبيق القرار 1701 مسالة سهلة، أو العودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فإسرائيل ترفض العودة قبل إيجاد حل لمستوطنيها في الشمال، وهي لذلك تضع خطط الحرب ضد لبنان وتوزع سيناريوهات ومواعيد لها، فيما إيران تصر عبر “حزب الله” على استمرار المعركة وتهدد بإمكان توسيعها لتحقيق تقدم في ملفاتها. وقد أخفقت محاولات دول في الخماسية ومن بينها قطر في إحراز خرق في الملف الرئاسي بعدما استضافت مسؤولين لبنانيين وممثلي أحزاب، لذا بدأت بالبحث عن مخارج أخرى فتواصل موفدها مع “حزب الله” بما يعني أنها باتت مقتنعة بأن أي تسوية مرتبطة بالحل في الجنوب.
إذا كانت الوجهة الدولية باتت تربط بين التهدئة في الجنوب والاستحقاق الرئاسي، فإن الجميع يراهن في هذا الخصوص على الدور الأميركي، حتى الفرنسيين باتوا يسلمون بأن واشنطن وحدها قادرة على الضغط على إسرائيل لمنع الحرب، في الوقت الذي تفاوض فيه الإيرانيين عبر نوافذ مختلفة. وهذا يعني أن الأولوية الدولية هي لمنع التصعيد جنوباً تجنباً لحرب في المنطقة، ومن ذلك يمكن البحث في الشأن الرئاسي. لكن المعضلة هي أن لبنان و”حزب الله” يعتبران أن التهديدات الإسرائيلية بالحرب مجرد كلام، ويراهنان على أن وقف النار في غزة يعيد الامور الى الستاتيكو السابق في الجنوب، وهو ما يتعارض مع التحذيرات الدولية من أن الوضع خطير، ولا يمكن تجنب الحرب إلا بتطبيق فعلي للقرار الدولي وفق ما يطرحه هوكشتاين.
لكن خطر الحرب لا يزال محدقاً رغم الضغوط الدولية، والتصعيد يتقدم على التسوية وفق الوقائع على الجبهة والمواجهات المفتوحة. وإذا استمرت الأوضاع على حالها جنوباً، إن كان بتسجيل غلبة لـ”حزب الله” أو إخفاقاً في تحقيق اهدافه، أو اشتعال حرب إسرائيلية، فإن لبنان المستنزف سينزلق نحو مزيد من الفوضى والتحلل والانهيارات.
* نشرت في جريدة النهار بتاريخ 9 حزيران 2024
Leave a Comment