حتّى اليوم، وبالرغم من كل الجهود النسويّة المنصبة في سبيل انتزاع حقوق نسوة لبنان وحرياتهن وتغيير واقعهن المأزوم، تبقى العقبة الكبرى والمعرقلة لمسير هؤلاء نحو العدالة الاجتماعيّة، والتّي يتقاعس صنّاع القرار عن الإتيان بحلٍّ لها – سهوًا أو عن قصد – هي قضية رفع التحفظات عن اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة – “سيداو”، لا سيّما التحفظات على المادة 16 التّي تتناول تحقيق المساواة الحقيقية بين المرأة والرجل في العلاقات الأسريّة والزوجيّة. وأما هذا التحفظ الذي أحال كل الثورات الحقوقيّة التّي خاضتها النسوة، إلى هامش اهتمامات قوانين الأحوال الشخصيّة المقرونة بأبويّة السّلطات الدينيّة، كان ولا يزال العلّة الأولى لكل الأزمات والمِحن التّي تتخلل حياة المرأة، في هذا البلد المنكوب. (
إطلاق دراسة وطنيّة
وواحدةٌ من هذه المحن، وأخطرها، هو زواج القُصر من الطفلات والأطفال، السّلوك الشاذ، الذي تنظر إليه الشُرع والقوانين حول العالم، بوصفه جريمة اغتصاب، والتّي حالت تحفظات لبنان دون قمعه، ذلك لكونه يرتبط بقوانين المحاكم الشرعيّة والروحيّة، لا بقانون أحوال شخصيّة شامل، تتدرج تحت مظلته القوانين التّي تنظم سنّ الزواج، وتحدد بالتالي السّن الأدنى القانوني والمنطقي للزواج. ولتحليل وتيرة هذه الظاهرة وفهم ارتداداتها، أطلق التجمع النسائيّ الديمقراطيّ اللّبنانيّ (RDFL)، صباح اليوم الأربعاء 13 آذار الجاري، “الدراسة الوطنيّة حول تزويج الطفلات والأطفال في لبنان”، وانطلق التقرير المُسند بالإحصاءات والأرقام والمقابلات الميدانيّة، إلى معالجة هذه الظاهرة وتفسير أسبابها لدى سواد سكّان لبنان.
وحفل الإطلاق، الذي أُقيم في فندق الموفنبيك – الروشة، حضره العشرات من المعنيين بهذه القضيّة، واُستهل بكلمة التجمع النسائي الديمقراطي القتها السيدة سارة العوطة نائبة رئيسة الهيئة الادارية للتجمع النسائي الديمقراطي، وتحدث بعدها النائب جورج عقيص (عضو لجنة الإدارة والعدل النيابيّة)، والنائب أنطوان حبشي (عضو لجنة المرأة والطفل النيابيّة). جرى بعدها استعراض نتائج الدراسة، واختتم الحفل بجلسة حواريّة تحت عنوان “كسر حلقة العنف: نحو إنهاء تزويج الأطفال والطفلات في لبنان”، بين كل من: رئيسة دائرة صحة الأم والولد في وزارة الصحة باميلا زغيب، ضابطة الارتكاز الجندري في لجنة منظور النوع الاجتماعي في وزارة التربية والتعليم العالي جومانا حلبي، القاضية أنجيلا داغر من وزارة العدل، الاختصاصية الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية ريما بربر، الصحافية ميريلا أبي خليل، المحامية وعضو الجمعية العامة في الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية ريتا ضاهر، وأدارتها الصحافيّة ديانا مقلد.
نتائج مُقلقة
وكشفت الدراسة أنّ 20 بالمئة من عموم المجيبين تزوجوا في سن الـ18 عامًا أو ما دون، وأن غالبية الذين تزوجوا في هذه السنّ المبكرة هم من الإناث بنسبة 87 بالمئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن 10 بالمئة من المجيبات الإناث تزوجن بين سنّ 13 و 15 عامًا، ما يُسلط الضوء على انتشار الزواج المبكر جدًا ضمن هذه الفئة.
ومن بين الأطفال الذين لم يكملوا تعليمهم، بلغت نسبة الفتيات 56 بالمئة، أما الصبيان فـ44 بالمئة. وبالنظر تحديدًا في الأطفال البنات بلغت نسبة غير الملتحقات بالمدرسة 22 بالمئة في حين بلغت النسبة المقابلة للأطفال الصبيان 34 بالمئة. أما بالنسبة إلى الصبيان غير الملتحقين بالمدارس، فإن 82 بالمئة منهم سوريون، و9 بالمئة لبنانيون، و9 بالمئة فلسطينيون. وبالنسبة إلى الفتيات غير الملتحقات بالتعليم، فإن 80 بالمئة سوريات، و10 بالمئة لبنانيات، و9 بالمئة فلسطينيات.
وعبّر أكثر من 60 بالمئة من المجيبين عن رضاهم عن السنّ الذي تزوجوا فيها، وتمنى 31 منهم لو تزوجوا في مرحلة متأخرة أكثر. وذكر 6 بالمئة فقط أنهم يفضلون لو تزوجوا في سنٍ مبكرة أكثر. ويُلحظ اختلاف بين الجنسين فيما يتعلق بمستوى الرضا عن السن الذي تزوج فيها، حيث أعرب الذكور عن مستويات أعلى من الرضا، في حين أعربت الإناث عن تفضيلهن الزواج في مرحلة لاحقة. وكشفت الدراسة عن وجود تباين ملحوظ في تصور انتشار زواج الأطفال بين الفتيات والصبيان، وأفاد المجيبون أن معدل انتشار زواج الأطفال أعلى بين الفتيات مقارنة بالفتيان. ويدل هذا الاستنتاج إلى أن زواج الأطفال يعتبر أكثر انتشارًا بين الفتيات في لبنان، وهو ما يتوافق مع الاتجاه العالميّ حيث تكون الفتيات أكثر عرضة لخطر الزواج المبكر.
التجهيل والحقّ في تقرير المصير
61 بالمئة من المجيبين ليسوا على دراية بأي مبادرات أو جهود توعويّة تهدف إلى القضاء على زواج الأفراد دون سن 18 عامًا. في حين أن 37 بالمئة من المجيبين يعلمون بحصول هذه المبادرات التوعويّة. تسلط الدراسة الضوء أيضًا على الاختلافات الإقليمية في معدل انتشار تزويج الطفلات والأطفال. فبالنسبة إلى الفتيات، سجلت محافظة بعلبك – الهرمل معدل الانتشار الأعلى (31 بالمئة)، في حين سجلت محافظة جبل لبنان أدنى معدل انتشار.
وأشار 59 بالمئة من المجيبين إلى أنهم لا يعلمون بوجود أي قوانين أو لوائح محددة تتعلق بالزواج دون سن 18 عامًا، وقد يُعزى ذلك إلى عدم وجود قانون محدد يتناول تزويج الطفلات والأطفال في لبنان. وأظهرت الدراسة أن 50 بالمئة من المجيبين يعتبرون أن من المهم جدًا تحديد سن أدنى قانوني للزواج. ويدل ذلك على شعور المجيبين بتفضيل قوي لاتخاذ تدابير قانونيّة رامية إلى منع تزويج الطفلات والأطفال.
أما المفارقة، فقد تمّ رصد ما مجموعه 53 حالة زواج في صفوف الأطفال / المجيبين/ات البالغين من العمر 18 عاماً وما دون خلال إجراء الدراسة. وسجلت عكار أعلى نسبة من حالات الزواج بلغت 23 بالمئة. وجدير بالذكر أنه لم يتم تسجيل أي حالات في بيروت والنبطية.
ولوحظ اختلال كبير في التوازن بين الجنسين في هذه الزيجات، حيث أن 92% من الحالات تتعلق بالإناث و8% منها فقط مرتبطة بالذكور. وهذا يؤكد الحاجة الملحة إلى معالجة ضعف الفتيات إذ من أكثر عرضة لخطر الزواج المبكر، وإلى ضرورة وضع سياسات تعزز المساواة بين الجنسين وتحمي حقوق الفتيات اليافعات و تضمن رفاههن.إذ أن 75 بالمئة من هذه الزيجات شملت أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 16 و18 سنة، ما يسلّط الضوء على ضعف الأطفال الذين هم عرضة لخطر الزواج المبكر. لذلك، من الضروري التركيز على هذه الفئة العمرية من خلال إجراء تدخلات مناسبة.
هذا وأشار 15 بالمئة من المجيبين/ات إلى إمكانية التفكير في عرض زواج مناسب في حال تقدم أحدهم بطلب يد طفلهم، حتى لو لم يكونوا يخططون لتزويج هذا الطفل في المستقبل المنظور. وهذا يسلط الضوء على مدى جاذبية عرض الزواج المناسب في نظر الأهل، حتى لو لم تكن لديهم النية في البداية بتزويج طفلهم.
غاية الدراسة
وهدفت الدراسة إلى توفير فهمٍ شامل ومُحدّث لتزويج الأطفال والطفلات في لبنان وشملت جميع المحافظات اللّبنانيّة، وتشكل بمعطياتها مرجعًا محدثًا لكل ما يتعلق بالقضية المطروحة لدى اليونيسف منذ عام 2016. وتمثل الهدف الأساسيّ منها تحليل وتيرة تزويج الطفلات والأطفال الأفراد البالغين من العمر 18 عامًا وما دون في مناطق مختلفة من البلاد، مع مراعاة الديموغرافيا المختلفة مثل المذهب والحالة الاجتماعية والمستوى التعليمي وما إلى ذلك . وتأتي كجزء من نضال السنوات المستمر للتجمع النسائيّ الديمقراطيّ اللّبنانيّ ضمن حملة #مش_قبل_الـ18 من أجل إنهاء تزويج الطفلات والاطفال وإقرار قانون لتحديد سنّ الزواج في لبنان.
واستعان البحث بمنهجيّة كميّة، شملت 1300 مقابلة أجريت في جميع أنحاء البلاد، واستهدفت أفرادًا لديهم بنات تتراوح أعمارهن بين ثماني سنوات وعشرين سنة. وشمل هذا الاستطلاع الوطني محافظات لبنان الثمانية، أي بنسبة 36 بالمئة منه استطلاع للبنانيين و45 بالمئة مُوجه إلى اللاجئين واللاجئات السّوريات والفلسطينين والفلسطينيات بنسبة 20 بالمئة.
* نشرت 2024/03/13 على موقع المدن الاالكتروني
Leave a Comment