زهير هواري
بيروت 4 شباط 2025 ـ بيروت الحرية
يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب واثقا من أن مصر والأردن سيستجيبان لدعوته إلى استيعاب الفلسطينيين المهجرين من قطاع غزة حاليا والضفة الغربية لاحقا. أما سبب مصدر هذه الثقة فهو أن لبلاده الكثير عليهما، ويقصد هنا المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لهما سواء أكانت اقتصادية مدنية أو عسكرية لجيشيهما، ولذلك يعتقد أنهما لن يخيبا أمله.
والرئيس الأميركي يبحث عن حل لمشكلة الوجود الفلسطيني بما يريح إسرائيل ويدفعها للتفرغ إلى ممارسة استراتيجيتها التوسعية، وهي التي دكت قطاع غزة، وأعملت فيه تدميرا وهدما على مدى 16 شهرا، إلى درجة أنه بات أكثر من 85 % من أبنيته، مجرد هياكل تحتاج إلى هدم وإزالة أنقاضها، قبل إعادة أعمار القطاع الذي يحتاج ما بين 10 – 15 عاما وعشرات المليارات من الدولارات، هذا اذا ما توافرت الأموال. ومن المعلوم أن التدمير لم يقتصر على المباني السكنية، بل شمل كل معالم الحياة التي تندرج تحت مسمى البنية التحتية كشبكات المياه والمجاري والهاتف والاتصالات والمستشفيات والمدارس والجامعات والطرقات ومحطات تكرير المياه والمرافق والمرافيء العامة والمساجد والكنائس والمناطق الزراعية المستصلحة من بين الكثبان الرملية.
أما في الضفة الغربية فقد شرعت آلة الحرب الإسرائيلية، وقبل أن توقفت عن اطلاق نيرانها على القطاع، في تدمير أجزاء من الأحياء السكنية و”فلاحة” شوارع مخيمات جنين وأتبعته بمخيم طولكرم .. وتكر السبحة نحو مخيمات الضفة وسائر مدنها وبلداتها لتعميم الخراب عليها. وبالتالي دفع سكانها كما فعلت بالقطاع إلى مغادرته بعد أن باتت سبل العيش أضيق بما لا يتسع لأبسط مقومات الحياة.
واهتمام ترامب بالفلسطينيين يأتي تحقيقا لوعده بإنهاء الحروب في العالم. لا يهم متى وكيف ولمصلحة من كما يتبين من مواقفه حيال القطاع والضفة. ففي حال حافظت كل من مصر والأردن على عنادهما ورفضتا التجاوب معه، يقترح إيجاد مأوى لملايين اللاجئين الفلسطينيين الجدد في اندونيسيا والبانيا، أو غيرهما من الدول التي تقبل بهذه الاعداد من البشر الذين يحتاجون إلى التوطين. وعلى جاري عادة تجار العقارات، المهم أن تتحقق الصفقة التي يحلم بها ترامب، والتي تقود إلى تشتيت الشعب الفلسطيني بعيدا عن أرضه في القطاع والضفة، وإسكانه في أي مكان يقبل به على سطح الكوكب.
إذن يعتقد ترامب أن أرض فلسطين هي أرض التوراة التي وعد بها الاله يهوه بني إسرائيل، ولأن وعده يجب أن يتحقق، لا بد وأن يتم تشريد من تبقى من عرب فلسطين نحو الدول القريبة أو البعيدة لا فرق، المهم أن يشعر المستوطنون براحة البال في مستعمراتهم التي تتكاثر في أنحاء الضفة.
وتتلاقى نظرية ترامب مع تلك التي يعتنقها اليمين الصهيوني والديني الاسرائيلي. ومن يتذكر التصريحات التي أدلى بها قادته حول كل من القطاع والضفة، يدرك أن ليس في حسابات التيار السائد في إسرائيل الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في رفع النير عن أكتافه ونيل حريته وإقامة دولته الوطنية المستقلة على الأرض التي سبق واحتلتها إسرائيل في حرب العام 1967. ولعل ما يمارسه نتنياهو من سياسات ودبلوماسية ومعارك حربية هجومية يصب في اطار انكار وجود الشعب الفلسطيني أصلاً، وليس الاعتراف بحقوق وطنية له. وقد ذهب بعض غُلاة اليمين الصهيوني إلى حد دعوة الكابينيت الحربية المصغرة إلى استعمال القنابل الذرية لإفناء فلسطينيي القطاع، وبالتالي التخلص منهم مرة واحدة وإلى الابد. وهو ما لا يمكن اعتماده في الضفة الغربية حيث آثار الإشعاعات النووية تطال المدن والمستوطنات الإسرائيلية نفسها.
لا يعبأ ترامب بمواقف الشعب والسلطة والفصائل الفلسطينية ولا بما يصدر من مواقف في كل من مصر والأردن. إذ يظن إن بإمكانه ارغام الجميع على القبول بـ “الصفقة” التي ينوي تسويقها. ومن المعروف أن موقف منظمة التحرير والقيادة الفلسطينية في السلطة ينطلق من رفض مثل هذه الحلول التي تستهدف التخلص وإنهاء القضية الفلسطينية، وفي المقدمة منها حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم كما قررته القرارات الدولية منذ العام 1947 وتباعا. لذلك يتقاطع الموقفان الأميركي والإسرائيلي على كل ما من شأنه تبديد هذا الوجود على مساحة الكرة الأرضية، وليس إلى الدول العربية المحيطة بإسرائيل فقط. ولعل ما تتعرض له وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى – الاونروا، ومنعها من العمل، واقفال مقرها في القدس، وكيل الاتهامات لها، هو خير دليل على النية بالتخلص من قضية اللاجئين وحق عودتهم إلى الأماكن التي جرى تهجيرهم منها. ولذلك اعتبرت المندوبة الأميركية في مجلس الامن، أن منع الوكالة من العمل في القدس يدخل في باب السيادة الإسرائيلية، هو خير دليل، فضلا عما سبق من مواقف في عهد ترامب الأول وبايدن، من شيطنة للوكالة وقطع المساهمة المالية عنها. يضاف إليه جملة عمليات التقييد على عمل منظمات الأمم المتحدة كمنظمة الصحة العالمية وقمة وقرارات الحد من احترار المناخ وغيرها مجرد أمثلة.
والواقع أن لا مصر ولا الأردن في وارد التجاوب ببساطة وأريحية مع تعليمات “المعلم” الأميركي، الذي يظن أن ما يقرره من أمر صالح لإسرائيل وأميركا هو صالح ونافذ عند غيرهما. فمنذ أن شرعت إسرائيل في عمليات تدمير القطاع، وهي تسعى إلى دفع الفلسطينيين نحو سيناء أو الأراضي المصرية الملاصقة لحدود القطاع. ومنذ ذلك الحين أعلنت مصر عن رفض فتح المعابر مع القطاع لاستقبال مئات الألوف الذين تدفع بهم إسرائيل عبر كل وسائل الإبادة والتجويع والقتل نحو الهجرة إلى مصر، إذ تدرك أن الهدف الأميركي – الإسرائيلي هو تحويل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، من مشكلة ناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم، إلى مشكلة فلسطينية – مصرية. وبذلك يتم جرف ما تبقى من القطاع وتحويله إلى منطقة توسع واستيطان واستثمارات جديدة. ولعل أكثر من عشر زيارات قام بها وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن كانت تحاول الوصول إلى هذا الهدف. فقد طاف بلينكن المنطقة مع بدء الحرب على غزة وتطورها، مروجاً لمشروع التهجير الذي أفصح عنه ترامب مؤخرا. لكنه قوبل بصد مصري أردني وعربي، وانكفأ معه هذه المشروع قليلاً ليعاود الظهور إلى العلن مؤخرا. وكان بلينكن وسواه من مسؤولين أميركيين وإسرائيليين قد حاولوا الترويج لفكرة الهجرة المؤقتة للسكان خلال مرحلة اعمار القطاع التي تستغرق سنوات، فيما يتحدث ترامب الآن عن هجرة لمدة طويلة الأجل أو دائمة. ومن المعروف من التجربة الإسرائيلية مع الفلسطينيين والعرب إن كل مؤقت يصبح دائماً، مادام يصب في مصلحة إسرائيل ومشروعها الصهيوني.
وبالانتقال إلى الأردن يعتقد الأردنيون أن الهدف الأميركي من هذا الطرح هو الإجهاز على القضية الفلسطينية، وتحويل الضفة الشرقية إلى فلسطين التي يُرغم الفلسطينيون على إقامتها شرقي نهر الاردن، بينما يجري توسيع قاعدة الاستيطان، وسن المزيد من التشريعات والقوانين التي تبيح للمستوطنين السيطرة على أجزاء إضافية من الضفة. ولعل تصعيد القمع واستعمال الطائرات الحربية والعمودية والمسيّرات وشن حرب مفتوحة على أبناء المخيمات والمدن وزيادة عدد المستوطنات، ونشر مئات الحواجز وتسليح المستوطنين، وعزل القرى والمدن والبلدات عن بعضها البعض، وإرغام أبنائها على سلوك طرقات متعرجة تحتاج عملية اجتيازها يوميا إلى ساعات طويلة، هو مجرد نموذج عن سياسات دفع الفلسطينيين للرحيل عن بلادهم. ويدرك الأردنيون على نحو جلي أن إدارة الرئيس ترامب ستمارس تصعيدا فيما بدأته من خلال صفقة القرن التي قطع سياقها سقوطه أمام منافسه الرئيس جو بايدن. الآن تعمل إدارته التي تحشد في صفوفها تشكيلة من الصقور الموالين لإسرائيل على استعادتها، انطلاقا مما سبق وتحقق خلال السنوات الأربع الماضية. ولذا ليس من قبيل الصدف أن يستقبل ترامب بنيامين نتنياهو في طليعة الرؤساء الذين ينوي استقبالهم بعد تسلمه مهامه.
على أي حال يبدو مما ذكره ترامب، واستعداده لممارسة الضغط بأنواعه على كل من مصر والأردن هو بمثابة اعتداء صارخ على دولتين عضوين في الأمم المتحدة. وهو اعتداء ستكون له مضاعفاته على الأمن الإقليمي، لأن ما تحاول الإدارة الأميركية القيام به، هو تحويلهما إلى وطن بديل للفلسطينيين ما يعتبر منحى بالغ الخطورة، كونه يعني فيما يعني التمهيد للموافقة الاميركية على ضم قطاع غزة والضفة الغربية إلى إسرائيل، كما حدث عندما وافق ترامب نفسه على ضم الجولان لدولة إسرائيل، بينما كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تعتبره أرضا سورية محتلة بموجب قرارات الأمم المتحدة.
أن ما يمكن توقعه من إدارة ترامب هو وقف المساعدات باعتباره السبيل لمضاعفة الضغط السياسي على دولتين تمثل مساعداتهما رقما معتبرا في موازنة كليهما. فمصر خسرت حوالي 7 مليارات دولار من عائدات قناة السويس بفعل تعرض الحوثيين للبواخر التي تعبر البحر الاحمر. والأردن، سبق ووقعت خلال الولاية الأولى مع ترامب على مساعدة طويلة الأمد، وهي المساعدة التي يتعمد ترامب حاليا استغلالها للضغط اقتصادياً وسياسياً عليه لإرغامه على الموافقة على استقبال اعداد من اللاجئين الفلسطينيين، بما يمهد لجعل الأردن بمثابة الوطن البديل للفلسطينيين. ولمواجهة مخاطر هذا الوضع المستجد على الأردن مضاعفة التنسيق مع الدول العربية عموما ومصر خصوصا. لا سيما وأنه بعد سقوط نظام بشار الأسد احتلت إسرائيل منابع المياه التي تغذي نهر الاردن، ما قد تستغله إسرائيل للضغط المائي على الأردن من خلال التوافق مع الولايات المتحدة، وهذا سيكون له تأثير كبير على المجتمع الأردني من نواحي عدة وعلى المنطقة بطبيعة الحال.
ما يتوجب التوقف عنده أنه على الرغم من وضوح النوايا الأميركية، لم يلاحظ حتى الآن مبادرة الدولتين المصرية والاردنية إلى دعوة جامعة الدول العربية إلى الانعقاد لمناقشة الامر، كما لم تطرحا القضية على الأمم المتحدة، علما أن ما ورد يمس بأمن الدولتين ومجمل الامن الاقليمي للمنطقة العربية، خصوصا وأنه يتم وسط أقصى اندفاعة إسرائيلية نحو توسيع قاعدة استيطانها، وهيمنتها لتطال أجزاء واسعة من المنطقة العربية، تشمل فيما تشمله أيضا لبنان وسوريا والعراق. ولعل ما ذكره ترامب يعني فيما يعنيه، أن ليس هناك من فوارق بين المشروعين الأميركي والإسرائيلي حيال المنطقة العربية، بل يمكن القول إن المشروع الأميركي هو طليعة ومحفز للمشروع الإسرائيلي لممارسة المزيد من التوسع. وهو ما قد يغري اليمين الصهيوني المتطرف بالمزيد من متنفيذ مشاريع الاستيطان في القطاع والضفة، بالتوازي مع السعي لتهجير فلسطينيي العام 1948 نحو لبنان وجنوبه تحديدا، وبذلك تتحقق مرحلة من مراحل قيام إسرائيل الكبرى التي تغطي المساحات العربية المترامية بين نهري دجلة – الفرات والنيل.
Leave a Comment